الخميس مارس 28, 2024

كِتَابُ الصِّيَام

 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ وَلا يَصِحُّ مِنْ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ.

   الشَّرْحُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْظَمِ أُمُورِ الإِسْلامِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ الشُّهُورِ. وَإِنَّمَا يَجِبُ الصَّوْمُ بِاسْتِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ يَوْمًا أَيْ مِنَ ابْتِدَاءِ رُؤْيَةِ هِلالِ شَعْبَانَ أَوْ بِرُؤْيَةِ عَدْلِ شَهَادَةٍ أَيْ ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ هِلالَ رَمَضَانَ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَالْعَدْلُ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ الْحُرُّ الَّذِي سَلِمَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنْ غَلَبَةِ الصَّغَائِرِ عَلَى طَاعَاتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُلْتَزِمًا بِمُرُوءَةِ أَمْثَالِهِ أَيْ فَلا يَشْتَغِلُ بِتَطْيِيرِ الْحَمَامِ وَلا الإِكْثَارِ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ الَّتِي مَا فِيهَا ثَمَرَةٌ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَلا الإِكْثَارِ مِنْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِذَا شَهِدَ عَدْلٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِأَنَّهُ شَاهَدَ هِلالَ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ هِلالَ رَمَضَانَ اللَّيْلَةَ ثَبَتَ الصِّيَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا قَالَ أَهْلُ الْفَلَكِ غَدًا أَوَّلُ رَمَضَانَ اعْتِمَادًا عَلَى الْحِسَابِ فَلا يَجُوزُ الصَّوْمُ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِمْ. وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ.

   وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ الإِسْلامُ وَالتَّكْلِيفُ أَيِ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَلا يُطَالَبُ الْكَافِرُ الأَصْلِيُّ بِأَدَائِهِ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ وُجُوبَ عِقَابٍ عَلَى تَرْكِهِ فِي الآخِرَةِ. وَلا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الأَبَوَيْنِ أَنْ يَأْمُرَاهُ بِالصَّوْمِ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ إِنْ أَطَاقَ جِسْمُهُ وَتَحَمَّلَ، وَلا يَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْمَجْنُونِ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنَ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ رِدَّتِهِ.

   وَلا يَجِبُ الصَّوْمُ أَيْضًا عَلَى مَنْ لا يُطِيقُهُ حِسًّا لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَكَذَا مَنْ لا يُطِيقُهُ شَرْعًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَإِنَّهُمَا لا يَجِبُ عَلَيْهِمَا وُجُوبَ أَدَاءٍ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمَا وُجُوبَ قَضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ. وَيَحْرُمُ الإِمْسَاكُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ وَلا يَجِبُ عَلَيْهِمَا تَعَاطِي مُفَطِّرٍ.

   وَيَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ الْقَضَاءُ إِلَّا مَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمَا إِلَّا الْفِدْيَةُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ الْفِطْرُ لِمُسَافِرٍ سَفَرَ قَصْرٍ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَلِمَرِيضٍ وَحَامِلٍ وَمُرْضِعٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً لا تُحْتَمَلُ الْفِطْرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ.

   الشَّرْحُ يَجُوزُ الْفِطْرُ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا السَّفَرُ إِلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ أَيْ سَفَرٌ يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلاةِ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ مَسَافَةُ مَرْحَلَتَيْنِ فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ أَيْ مَسِيرِ يَوْمَيْنِ بِسَيْرِ الأَثْقَالِ وَدَبِيبِ الأَقْدَامِ يَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْرُ وَلَوْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَالْمُثَابَرَةِ عَلَى الصِّيَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ. وَشَرْطُ السَّفَرِ الَّذِي يُبِيحُ الإِفْطَارَ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَمَنْ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُسَافِرِ بَعْدَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِفْطَارُ، وَمِنْهَا الْمَرَضُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةً مَعَ الصَّوْمِ تُبِيحُ التَّيَمُّمَ أَيْ كَانَ فِي الْمُثَابَرَةِ عَلَى الصَّوْمِ مَعَ هَذَا الْمَرَضِ مَشَقَّةً كَمَشَقَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلطُّهْرِ فَعِنْدَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الإِفْطَارُ كَمَا أَنَّ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوْ لِلِاغْتِسَالِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ مِنْ أَجْلِ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْهَا الْحَمْلُ وَالإِرْضَاعُ إِذَا خَافَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ عَلَى نَفْسَيْهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدِهِمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ مَرِيضَتَيْنِ أَوْ مُسَافِرَتَيْنِ إِذَا أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ فَقَطْ أَنْ يُجْهَضَ أَوْ يَقِلَّ اللَّبَنَ فَيَتَضَرَّرَ مَعَ الْقَضَاءِ الْفِدْيَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ التَّبْيِيتُ.

   الشَّرْحُ يَجِبُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ أَيْ إِيقَاعُ النِّيَّةِ لَيْلًا فِيمَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِالْقَلْبِ وَلَوْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَإِنْ نَسِيَ تَبْيِيتَ النِّيَّةِ لَزِمَهُ الإِمْسَاكُ بَقِيَّةَ النَّهَارِ وَقَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ، أَمَّا صَوْمُ النَّفْلِ فَتُجْزِئُ فِيهِ النِّيَّةُ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالتَّعْيِينُ فِي النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ.

   الشَّرْحُ مِنْ أَحْكَامِ الصِّيَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْيِينُ الصَّوْمِ الْمَنْوِيِّ بِالنِّيَّةِ كَتَعْيِينِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَنَّهُ عَنْ نَذْرٍ أَوْ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَهَا. ثُمَّ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ لِكُلِّ يَوْمٍ فَلا يَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ أَوَّلَ الشَّهْرِ عَنِ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِتَخَلُّلِ الْيَوْمَيْنِ بِمَا يُنَاقِضُ الصَّوْمَ كَالصَّلاتَيْنِ يَتَخَلَّلُهُمَا السَّلامُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالإِمْسَاكُ عَنِ الْجِمَاعِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّوْمِ الإِمْسَاكَ عَنِ الْجِمَاعِ أَيْ أَنْ يَكُفَّ الصَّائِمُ نَفْسَهُ عَنِ الْجِمَاعِ فِي فَرْجٍ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ فَمَنْ فَعَلَ مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّعَمُّدِ وَالِاخْتِيَارِ أَفْطَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ فِي الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَوْ كَوْنِهِ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ نَسِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ أَوْ جَامَعَ مُكْرَهًا أَيْ مُهَدَّدًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْطِرُ. وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ الْوَاطِئُ وَالْمَوْطُوءَةُ فَإِنَّ صِيَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَفْسُدُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ فِي كَفَّارَةِ الإِفْسَادِ بِالْجِمَاعِ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَاطِئِ أَيِ الرَّجُلِ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمَوْطُوءَةِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالِاسْتِمْنَاءِ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِنَحْوِ الْيَدِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ وَهُوَ إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ مُفَطِّرٌ سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِ نَفْسِهِ أَوْ بِيَدِ زَوْجَتِهِ أَوْ بِسَبَبِ الْقُبْلَةِ أَوِ الْمُضَاجَعَةِ بِلا حَائِلٍ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّعَمُّدِ وَالِاخْتِيَارِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالِاسْتِقَاءَةِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الِاسْتِقَاءَةَ مُفَطِّرَةٌ فَمَنْ قَاءَ بِطَلَبٍ مِنْهُ بِنَحْوِ إِدْخَالِ إِصْبَعِهِ أَوْ إِدْخَالِ نَحْوِ رِيشَةٍ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْريِمِ وَذِكْرِ الصَّوْمِ وَعَدَمِ الإِكْرَاهِ سَوَاءٌ عَادَ مِنَ الْقَىْءِ إِلَى الْجَوْفِ شَىْءٌ أَمْ لا بِخِلافِ قَلْعِ النُّخَامَةِ مِنَ الدِّمَاغِ أَوْ مِنَ الْبَاطِنِ فَإِنَّهُ لا يُفَطِّرُ وَفِي ذَلِكَ فُسْحَةٌ لِلنَّاسِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنِ الرِّدَّةِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الصِّيَامِ الإِمْسَاكَ أَيْ كَفَّ النَّفْسِ عَنِ الرِّدَّةِ أَيْ عَنْ قَطْعِ الإِسْلامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا جَمِيعَ النَّهَارِ فَمَنِ ارْتَدَّ وَلَوْ لَحْظَةً مِنَ النَّهَارِ بَطَلَ صَوْمُهُ كَالصَّلاةِ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرُهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوِ الِاعْتِقَادِ وَيَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ فَوْرًا إِلَى الإِسْلامِ وَالإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفَطِّرَاتِ بَاقِيَ النَّهَارِ وَقَضَاءُ هَذَا الْيَوْمِ فَوْرًا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنْ دُخُولِ عَيْنٍ جَوْفًا إِلَّا رِيقَهُ الْخَالِصَ الطَّاهِرَ مِنْ مَعْدِنِهِ.

   الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ إِدْخَالِ عَيْنٍ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ قَلِيلَةً كَحَبَّةِ سِمْسِمٍ وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا لا يُؤْكَلُ كَحَصَاةٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَوْفُ الَّذِي يُحِيلُ الْغِذَاءَ وَغَيْرُهُ، فَمَنْ تَنَاوَلَ عَيْنًا فَدَخَلَتْ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ مُتَعَمِّدًا لا نَاسِيًا وَمُخْتَارًا لا مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ أَفْطَرَ. وَحَدُّ الظَّاهِرِ عَلَى الرَّاجِحِ مَخْرَجُ الْحَاءِ فَمَا جَاوَزَ مِنَ الْفَمِ إِلَى مَا بَعْدَ مَخْرَجِ الْحَاءِ مُفَطِّرٌ وَكَذَلِكَ مَا جَاوَزَ الْخَيْشُومَ وَالْخَيْشُومُ مُنْتَهَى الأَنْفِ. وَلا يُفَطِّرُ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْخَيْشُومَ. وَلا يَضُرُّ دُخُولُ مَا سِوَى الْعَيْنِ كَرَائِحَةِ الْبَخُورِ وَلَوْ تَعَمَّدَهُ إِلَّا أَنَّ شُرْبَ السِيكَارَةِ وَابْتِلاعَ مَا يَنْحَلُّ مِنَ التُّنْبَاكِ يُفَطِّرُ لِأَنَّ السِّيكَارَةَ يَنْفَصِلُ مِنْهَا أَجْزَاءٌ لَطِيفَةٌ تَدْخُلُ الْجَوْفَ. وَالدَّوَاءُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ مَنْ أُصِيبَ بِالرَّبْوِ مُفَطِّرٌ لِأَنَّهُ وَإِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ يَنْفَصِلُ مِنْهُ عَيْنٌ تَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ مَعَ سُهُولَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْ ذَلِكَ. وَلا يَضُرُّ أَيْضًا مَا تَتَشَرَّبُهُ الْمَسَامُّ مِنَ الدُّهْنِ وَالْكُحْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيُعْفَى عَنِ الرِّيقِ الْخَالِصِ الطَّاهِرِ مِنْ مَعْدِنِهِ أَيْ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْفَمِ بِأَنْ يَنْفَصِلَ عَنِ اللِّسَانِ وَلَوْ إِلَى ظَاهِرِ الشَّفَةِ. وَأَمَّا الرِّيقُ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَإِنَّهُ يُفَطِّرُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ وَكَذَلِكَ الرِّيقُ النَّجِسُ.

   وَأَمَّا مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَهُوَ نَاسٍ وَلَوْ فِي صِيَامِ النَّفْلِ فَلا يَفْسُدُ صَوْمُهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنْ لا يُجَنَّ وَلَوْ لَحْظَةً وَأَنْ لا يُغْمَى عَلَيْهِ كُلَّ الْيَوْمِ.

   الشَّرْحُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّوْمِ أَنْ لا يَطْرَأَ عَلَى الصَّائِمِ جُنُونٌ فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ فَمَنْ جُنَّ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَوْ لَحْظَةً فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَلَوْ كَانَ سَبَبُ جُنُونِهِ أَنَّهُ شَرِبَ قَبْلَ الْفَجْرِ شَيْئًا مُجَنِّنًا.

   وَمِنْ شُرُوطِهِ أَيْضًا أَنْ لا يَحْصُلَ لَهُ إِغْمَاءٌ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ النَّهَارِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ كُلَّ النَّهَارِ فَلا يَضُرُّ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا يَصِحُّ صَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَكَذَا النِّصْفُ الأَخِيرُ مِنْ شَعْبَانَ وَيَوْمُ الشَّكِّ إِلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ لِقَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ وِرْدٍ.

   الشَّرْحُ لا يَصِحُّ وَلا يَجُوزُ صَوْمُ الْعِيدَيْنِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَلا صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاثَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الصَّوْمُ لِفِدْيَةِ التَّمَتُّعِ. وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ وَلا يَجُوزُ صَوْمُ النِّصْفِ الأَخِيرِ مِنْ شَعْبَانَ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا» وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ وَلا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ وَلَوْ بِنِيَّةِ الِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» اهـ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَيَوْمُ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ الثَّلاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ الَّذِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ الَّذِينَ لا يَثْبُتُ الصِّيَامُ بِشَهَادَتِهِمْ كَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفَسَقَةِ وَالْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلالَ رَمَضَانَ فِي لَيْلَتِهِ فَيَوْمُ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ ثَلاثِيْ شَعْبَانَ هَذَا فَلا يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَإِنَّمَا يَحْرُمُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ وَصَوْمُ مَا بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ لِمَنْ لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً لَهُ. وَلا يَحْرُمُ لِمَنْ وَصَلَ مَا بَعْدَ النِّصْفِ بِالنِّصْفِ.

   فَائِدَةٌ. يُكْرَهُ إِفْرَادُ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي النَّفْلِ بِلا سَبَبٍ.

   تَنْبِيهٌ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الصِّيَامُ حُصُولُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي بِلادِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ عَلامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ رَمَضَانَ كَأَنْ جَرَتْ عَادَتُهُمُ الْمُضْطَرِدَةُ بِضَرْبِ الْمِدْفَعِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِهِ الصِّيَامُ.

   تَنْبِيهٌ ثَانٍ. مَنْ أَخْبَرَهُ عَبْدٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلالِ صَامَ إِنْ وَثِقَ بِهِ وَصَدَّقَهُ وَكَذَا لَوْ أَخْبَرَهُ صَبِيٌّ أَوْ فَاسِقٌ فَصَدَّقَهُ وَإِنْ كَانَ لا يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَالِغِ الْعَدْلِ الْحُرِّ بِقَوْلِهِ «أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ هِلالَ رَمَضَانَ»، وَالْعَدْلُ مَنْ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ الْكَبَائِرِ وَلا يُكْثِرُ مِنَ الصَّغَائِرِ حَتَّى تَغْلِبَ حَسَنَاتِهِ وَيُحَافِظُ عَلَى مُرُوءَةِ أَمْثَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا شَهِدَ الْعَدْلُ بِرُؤْيَةِ الْهِلالِ عِنْدَ الْقَاضِي فَأَثْبَتَ الْقَاضِي هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَجَبَ الصِّيَامُ عَلَى أَهْلِ بَلَدِ الإِثْبَاتِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِلادِ الْقَرِيبَةِ مِنْ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ بِاتِّحَادِ الْمَطَالِعِ لا مَنْ خَالَفَ مَطْلَعُهُمْ مَطْلَعَهَا بِأَنْ لَمْ يَتَّحِدِ الْبَلَدَانِ فِي الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ كَدِمَشْقَ وَبَغْدَادَ فَلا يَعُمُّهَا الْحُكْمُ بَلْ لا يَجُوزُ لِأَهْلِهَا أَنْ يَصُومُوا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَجِبُ الصِّيَامُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ عَلِمُوا ثُبُوتَ الصِّيَامِ فِي بَلَدٍ مَا مَهْمَا بَعُدَتْ تِلْكَ الْبِلادُ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ الرُّؤْيَةُ فَلا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ الْقُرْبُ بِتَوَافُقِ الْبَلَدَيْنِ فِي الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ فَيَجِبُ عِنْدَهُ الصِّيَامُ عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ الأَقْصَى إِذَا عَلِمُوا بِثُبُوتِ الصِّيَامِ فِي الْمَشْرِقِ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلا رُخْصَةَ لَهُ فِي فِطْرِهِ بِجِمَاعٍ فَعَلَيْهِ الإِثْمُ وَالْقَضَاءُ فَوْرًا وَكَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَيْ تَمْلِيكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدًّا مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ.

   الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ بِالْجِمَاعِ وَحْدَهُ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ يَقِينًا وَلَوْ حُكْمًا كَأَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ وَلا رُخْصَةَ لَهُ فِي فِطْرِهِ الْقَضَاءُ مَعَ الإِثْمِ وَالْكَفَّارَةُ الْفَوْرِيَّةُ وَهِيَ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي صِفَتِهَا. أَيْ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَيْ تَمْلِيكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدًّا مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ. وَالْمُدُّ هُوَ مِلْءُ الْكَّفَيْنِ الْمُعْتَدِلَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَتَتَكَرَّرَ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ بِتَكَرُّرِ الأَيَّامِ وَلا تَجِبُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ. وَلا كَفَّارَةَ عَلَى الْوَاطِئِ إِنْ كَانَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ أَوْ جَاهِلًا مَعْذُورًا كَأَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَامَعَ مُكْرَهًا فَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ لا يَفْسُدُ صَوْمُهُ. يُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِالتَّعَدِّي بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَأَنَّهُ لا كَفَّارَةَ وَلا إِثْمَ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ بِسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ بِأَنْ كَانَ مُسَافِرًا سَفَرًا يُبِيحُ الْفِطْرَ أَوْ مَرِيضًا يَجُوزُ لَهُ الإِفْطَارُ فَأَرَادَ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ أَمَّا إِذَا جَامَعَ الْمَرِيضُ أَوِ الْمُسَافِرُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ نِيَّةِ التَّرَخُّصِ فَعَلَيْهِمَا الإِثْمُ لَكِنْ بِلا كَفَّارَةٍ.

   بَيَانٌ. التَّرَخُّصُ مَعْنَاهُ الْعَمَلُ بِالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ هُنَا أَنْ يَأْخُذَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِيُفْطِرَا.