كتابُ أحكام السَّبْقِ
بينَ الخيلِ والإبلِ ونحوها (والرَّمْيِ) بسِهامٍ ورِماحٍ ونحوِها مِمَّا يَنفع في الحربِ.
وهو مِن مُبْتَكَراتِ الإمامِ الشافعيِّ رضيَ الله عنه فإنه أولُ مَن دوَّنَه وأدخلَه في كتب الفقه وجمعَ مسائلَه بعد أن كانت مفرَّقةً في مواضعَ مختلفةٍ في كتبِ الأئمةِ قبلَه.
والسَّبْق بسكون الباء مَصدرُ سبقَ بمعنَى تقدَّم وشرعًا الْمسابقةُ على الخيل ونحوِها وأمَّا بفتح الباء فهو الْمالُ الْموضوع بين أهل السباق. والرَّمْيُ مصدرُ رَمَى الشَّىْءَ بمعنى طَرَحَه والْمرادُ منه الرَّمْيُ بالسِّهام ونحوِها.
والأصلُ في مشروعيَّتِها قبلَ الإجماعِ قولُهُ تعالى في سورةِ الأنفالِ (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) الآيةَ وفسَّرَ النبيُّ صلَّى الله عليه ةسلَّم القُوِّةَ بالرَّمْيِ كما رواه مسلم وخبرُ ابنِ عمرَ الْمتفقُ عليه أنَّ النبيِّ عليه الصلاة والسلام سَابَقَ بين الخيلِ التي ضُمِّرَتْ من الحَيْفَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الوداعِ قوله (من الحيفاء) موضع قربَ الْمدينة (إلى ثَنِيَّةِ الوداعِ) موضع في الْمدينة بينهما خمسة أميال أو ستة وبين الخيلِ التي لم تُضَمَّرْ مِنَ الثنيةِ أي ثنية الوداع إلى مسجدِ بني زُريق اهـ (زُريق) مصغر بتقديم الزاي مضمومة بطن من الخزرج وبين الثنية والخزرج ميل قال البخاري قال سفيان من الحيفاء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زُريق ميل اهـ
(وتصِحُّ الْمسابقةُ على الدوابِّ) التي تصلح للكَرِّ والفرِّ كخيلٍ وإبلٍ جزمًا لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الشافعي وأحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم لا سَبَقَ بفتح الباء على الرواية الْمشهورة إلا في خُفٍّ أو حافرٍ أو نَصْلٍ اهـ أي لا عِوَضَ يُؤخذ إلا في الْمسابقة على ذي خُفٍّ أو ذي حافرٍ أو ذي نَصْلٍ كما تصِحُّ في الفيل والبغل والحمار في الأظهرِ حملًا لِلَفْظَيِ الخُفِّ والخُفُّ هو الجلد أسفل قدم البعير ونحوه الذي يصيب الأرض إذا مشى والحافر على العموم مع أنَّ في كلٍّ منها صلاحيةً ما للكرِّ والفرِّ وخرجت الْمسابقةُ على البقر فإنها ذات ظِلْفٍ قال في الْمصباح الظلف من الشاة والبقر ونحوه كالظفر من الإنسان والجمع أظلاف مثل حملٍ وأحمال اهـ لا حافر والكلابِ والطير كما خرج نطاحُ الكِباش ومهارشةُ الدِّيَكَةِ فلا تصِحُّ كلها بل يحرم الأخيران ولو بلا عِوَضٍ لِمَا فيه منَ التحريش والسَّفَهِ.
(و)إنما تصِحُّ الْمسابقةُ على الدوابِّ و(الْمناضلةُ) أي الْمرماة (بالسِّهام) وبالرماح والْمزاريق أي الرماح القصيرة والْمِسلَّات والإبر والحجارة باليد والْمقلاع والْمنجنيق وبكل ما ينفع في الحرب كالتردُّدِ في السُّيُوف قال البجيرمي كالذي يفعل في الزفاف اهـ والرماح والرَّميِ بالبُندق على قوسٍ ومثلُهُ بُنْدُقُ الرصاص وما شاع في أيامنا مِن ءَالاتِ القتال الْمُسَمَّاةِ بالْمُسَدَّسات والبنادق والرَّشَّاشات والْمدافع أي يصِحُّ عقدُ كلٍّ (إذا كانت الْمسافةُ) أي مسافةُ ما بين موقفِ الرَّامِي والغرضِ الذي يَرْمِي إليه ومسافةُ ما بين الرَّاكِبَينِ والغايةِ التي يَنتهيانِ إليها (معلومةً) بالأميالِ أو بالمشاهدةِ وهذا إذا ذُكِرَت الغايةُ أما إذا تناضلا على أنَّ العِوَض لأبعدِهِما رميًا صحَّ العقدُ ولم يُشترطِ العلمُ بالمسافة (و)كانت (صفةُ الْمناضلةِ معلومةً) أيضًا بأن يُبَيِّنَا الترتيبَ في الرَّمْيِ والبادِئَ بِهِ في الْمُناضلة ولا يُشترط بيانُ كيفيَّةِ الرَّمْيِ مِن قَرْعٍ قوله (ولا يُشترَطُ بيانُ كيفيةِ الرَّميِ مِن قرعٍ الـخ) أي خلافًا لِمَا يُوهِمُهُ كلامُ الغزيِّ من اشتراطِ ذلك وهو إصابةُ السهمِ الغرضَ من غير أن يَثبُتَ أو من خَسْقٍ وهو أن يثقبَ السهمُ الغرضَ ويثبتَ فيه أو مِن مَرق وهو أن يَنْفُذَ السهمُ مِنَ الجانبِ الآخَرِ مِنَ الغَرَضِ لكنه يُسَنُّ فإن أطْلَقَا حُمِلَ على القَرْعِ. وأمَّا الْمسابقةُ فيُعلَمُ سَبْقُ الإبل والفيلِ فيها عند الغابة والكَتد بفتحِ التاءِ وكسرِها وهو مجمع الكتفين بين العُنُق والظهر وربما عبَّرَ بعضهم بالكتف بخلافِ الخيل والبغال والحمير فإنَّ سَبْقَها عند الغاية بالعُنُق. واقتصر الْمصنف رحمه الله على ذكر هذين الشرطين مِن شروط صحة الْمُسابقة والْمُناضلة ويوجد غيرهما مِن ذلك تعيينُ الْمَركوبَين عَيْنًا في الْمُعَيَّن في العقد وصفةً في الْموصوف في الذِّمة كأن يقولا تسابقنا على هذين الفرسين أي فيتعينان فينفسخ العقد بموت أحدهما أو تسابَقْنا على فرسَينِ صفتُهما كذا وكذا أي فلا يتعينان كما بحثه الرافعيُّ فلا ينفسخ العقدُ بموت أحدهما ومنها إمكانُ سبْقِ كلٍّ منهما للآخر فلو كان أحدُهما ضعيفًا يُقطع بتخلفه أو فارهًا يُقطع بتقدمه لم يَجُزْ وإمكانُ قطعِ كلٍّ منهما الْمسافةَ بلا انقطاعٍ ولا تعبٍ وتعيينُ الراكِبَيْنِ عينًا فقط فلا يكفي الوصفُ فيهما وأن يركبا الْمَرْكوبين فلو شرطا إسالَهُما ليَجرِيا بنفسَيْهما لم يصحَّ والعلمُ بالْمالِ الْمشروطِ جنسًا وقدرًا وصفةً كسائر الأعواض.
والْمسابقةُ بِنَوعَيهَا عقدٌ لازمٌ في حقِّ مُلتزِمِ العِوَضِ اي الْمالِ الذي يُخْرَجُ فيها فليس للملتزِمِ الفسخُ (و)قد (يُخْرِجُ العوضَ أحدُ الْمتسابقَين) أو أحد الْمتناضلين (حتى إنه إذا سَبَق) بفتح السين غيرَه (استرَدَّه) أي العوضَ الذي أخرجَه (وإن سُبق) بضم أوله (أخَذَه صاحبُه) السابقُ (له) ولا يُحتاج في هذه الحال إلى إدخال مُحَلِّلٍ بينهما. والْمَدارُ على ذِكْرِ العِوَضِ في العقد وإنما التعبيرُ بالإخراج جَرْيٌ على الغالب مِن أنَّ مُلْتَزِمَهُ يُخرجه ويضعُه عند شخصٍ ءَاخَرَ.
(وإذا أخرجا) أي الْمُتسابقان العوضَ (معًا لم يَجُزْ) ولم يصِحَّ العقدُ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما متردِّدٌ بين أن يغنَمَ أو يغرَمَ وذلك قِمَارٌ (إلا أن يُدْخِلا بينهما مُحَلِّلًا) بكسرِ اللامِ الأُولى يكون كفؤًا بهما ودابَّتُه تكون كفؤًا لدابَّتَيهما وسُمِّيَ بذلك لأنه أحلَّ لهما الْمال بعد أن كان مُحَرَّمًا عليهما وأخرجَ العقدَ عن صورةِ القِمارِ (فإن سَبَقَ) بفتح السين أي الْمُلِّلُ كلًّا منَ الْمُتَسابقَيْنِ (أخذَ العوضَ) الذي أخرجاه (وإن سُبِقَ) بضمِّ أولِهِ (لم يغرَمْ) لهما شيئًا ويأخذُ الْمالَ كُلَّهُ السابقُ منهما. والْمعتمَدُ قوله (والْمعتمد إلـخ) هو أحدُ وجوهٍ ثلاثةٍ ذكرها الغزاليُّ في الوسيطِ وبيَّنَهُ بقوله نه لَو شَرط للْمُصَلِّي أي من يأتي ثانيًا قدرًا دون ما للسابق وهكذا على الترتيب والتفاضل لكلِّ مَن هو أقربُ غلى السابق فهو جائزٌ اهـ قلتُ وهو الذي جرى عليه الرافعيُّ في العزيز اهـ أنه لو تسابق جماعةٌ ثلاثةٌ فأكثرَ وشُرِط للثاني أيضًا اي أقلَّ منَ الأولِ صحَّ لأن كلَّ واحدٍ يجتهدُ أن يكونَ أولًا أو ثانيًا ليفوز بالعِوَض. والله تعالى أعلم.