الأربعاء ديسمبر 11, 2024

كتابُ أحكامِ الأَيْمَانِ والنُّذُور

  الأَيْمَانُ بفتحِ الهمزة جمع يمين وأصلها لغةً اليدُ اليُمْنَى ثم أُطلقت على الحَلِفِ لأنهم كانوا إذا تحالفوا في الجاهلية أخذ كلٌّ منهم بيمين صاحبه فيكون إطلاقُهُ على الحلِفِ مجازًا مرسلًا علاقتُهُ الْمجاورةُ والْملابسة وهذا بالنظر إلى الأصل وإلا فقد صار حقيقةً عُرْفيةً وهما والقَسَمَ والإيلاء لغةً ألفاظٌ مترادفةٌ. وأمَّا شرعًا فاليمينُ تحقيقُ ما يَحتمل الْمخالفةَ أي التزامُ فعلِهِ وإثباتُ أنه لا بدَّ له منه أو هيَ تأكيدٌ للمحلوفِ عليه بذكر اسم الله تعالى أو صفةٍ مِن صفاتِ ذاتِه قوله (مِن صفاتِ ذاتِهِ) هذا مناسبٌ لِمذهبِ الأشاعرةِ أي متأخِّريهِم لأنهم لا يعُدُّونَ صفاتِ الفعلِ كالتخليق والترزيق والإحياء والإماتة قائمةً بالذاتِ إنما هيَ متعَلَّقاتُ القدرةِ فلا يُقْسَمُ بها عندهم ولا ينعقِدُ بها اليمينُ. وقال الخفاف بانعقادها والظاهر أنه مبنِيٌّ على القول بقِدَمِ فعلِ الله تعالى مع حدوثِ مفعولاتِه وهو مذهبُ بعضِ قدماءِ الأشاعرة ومعهم الْماتريديةُ فإنهم قالوا بأنَّ صفاتِ الفعلِ عبارةٌ عن صفةِ التكوين وهي صفةٌ قديمة أزلية بها يخلق الله تعالى ويرزق ويُحيي ويُميتُ ورجَّحَ هذا بعضٌ مِن متأخِّرِي الأشاعرةِ منهم الحافظُ ابنُ حجرٍ في الفتحِ وإليه كان يذهبُ شيخُنا العلامةُ الهرريُّ رحمه الله.

  والأصلُ فيها قبل الإجماع ءَاياتٌ كقوله تعالى في سورةِ البقرة (لَّا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِىٓ أَيْمَٰنِكُمْ) وهو سبق اللسان باليمين أو حلف الرجل على اليمين يرى أنها كذلك وليست كذلك (وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) الآيةَ أي بِمَا عقدتم عليه قلوبكم. وأخبارٌ مخبرِ البخاريِّ وغيره أنه عليه الصلاة والسلام كان يحلف فيقولُ لا ومُقَلِّبِ القُلُوبِ اهـ وخبر الصحيحين وغيرهما أنه كتن يحلف فيقول والذي نفس محمَّد بيده اهـ

  وأركانُهُ ثلاثةٌ حالفٌ ومحلوفٌ عليه ومحلوفٌ به. وشَرْطُ الحالفِ التكليفُ والاخنيارُ والنُّطقُ وقصدُ اللفظِ فخرج بذلك الصبيُّ والْمجنون والْمُغْمَى عليه والسكران غيرُ الْمُتَعدِّي والساهي والنائمُ والْمُكْرَهُ فلا تنعقد اليمين منهم ومَنْ سبق لسانُه باليمين وخرج أيضًا الأخرسُ إلا أن تكون إشارتُهُ مفهمةً فهيَ عندئذٍ كالنُّطق.

  وأمَّا شرطُ الْمحلوفِ به فبَيَّنَهُ الْمصنفُ بقوله (لا ينعقدُ اليمينُ إلا باللهِ تعالى) أي بلفظِ الجلالةِ كقولِ الحالِفِ واللهِ ونحوِهِ كقولِهِ والذي نفسِي بيدِهِ أو وربِّ العالَمِينَ (أو باسمٍ مِن أسمائِهِ) الْمختصَّةِ به كالرَّحمن والخالقِ والرَّازقِ مِن عطفِ العامِّ على الخاصِّ ولا يُقبل فيها إرادة غيره إذ لا تحتمله وأمَّا الأسماءُ التي يغلب استعمالُهَا فيه تعالى فتنعقدُ بها اليمين ما لم يُرِدْ غيرَه عزَّ وجلَّ بأن أطلقَ أو أرادَهُ تعالى لانصرافه عند الإطلاق إليه تعالى لكونه غالبًا فيه فإن أراد به غيرَهُ لم ينعقدْ يمينًا وما استُعمِلَ منَ الأسماءِ فيه وفي غيره تعالى على السواءِ انعقدَتْ به اليمينُ إن أراده تعالى بخلاف ما إذا أراد غيرَهُ أو أطلقَ. وقولُ بعضِهِم والاسمِ الأعظمِ يمينٌ صريحٌ وأما قولُ والجنابِ الرفيعِ فليس بيمينٍ وإن أراده لأنَّ جنابَ الإنسانِ فِنَاءُ دارِه وهو مستحيلٌ في حقِّه تعالى والنِّيَّةُ لا تُؤَثِّرُ معَ الاستحالة. (أو) حلفَ الحالِفُ بلفظٍ دالٍّ على (صفةٍ مِن صفاتِ ذاتِه) ثبوتيةً كانت أم سلبيةً فهو يمينٌ وذلك كقولِ وعِلْمِ اللهِ إن لم يُرِدْ به معلوماتِهِ وقُدرتِه إن لم يُرِدْ به الْمقدورَ وكلامِهِ إن لم يُرِدْ به الألفاظَ الْمُنزلةَ وحقِّه إن لم يُرِدْ بالحقِّ العباداتِ وعظَمَتِه وعِزَّتِه وكِبْرِيائِه إن لم يُرِدْ به الألفاظَ التي نقرؤُها. وعُلِمَ مِمَّا تقدَّم عدمُ انعقادِ اليمينِ بمخلوقٍ كالنبيِّ عليه الصلاة والسلام والكعبةِ ولو قصدَ بذلك اليمين بل يُكره ذلك.

  وقولُه أشهدُ بالله أو لَعَمْر الله أو علَيَّ عهدُ الله أو ميثاقُه أو ذِمَّتُه أو أمانتُه أو كفالتُه لأفعلنَّ كذا يمينٌ إن نوَى به اليمينَ وإلا فلا فهو كنايةٌ. ولو قال لغيرِهِ أُقْسِمُ عليك بالله أو أسألك بالله أو قال بالله عليك لتفعلَنَّ كذا فإن أراد يمينَ نفسه كان يمينًا وإن اراد يمينَ الْمخاطَبِ أو الشفاعةَ أو أطلقَ لم يكن يمينًا ويُحمل عند الإطلاق على الشفاعة.

  ويُشترَطُ في الْمحلوفِ عليه أن لا يكون مُحتَّمَ الحصولِ بل محتملًا كقولِه والله لأدخلنَّ الدارَ وتلزمُ الكفارةُ على التَّراخِي بالحِنْثِ به إلا أن يحلف على فعل معصيةٍ أو تركِ واجبٍ فيَحرمُ ويلزمه الحِنْثُ وعليه عندئذٍ كفارةٌ في الحال أو أن يكون مستحيلًا كقوله واللهِ لأقتُلَنَّ الْميِّتَ فإنه يمينٌ وتلزم به الكفارةُ في الحال بخلافِ واجبٍ الوقوعِ كقوله واللهِ لأمُوتَنَّ فليس بيمينٍ لأنه لا يُتَصَوَّرُ فيه الحِنْثُ أي مخالفةُ الْمحلوفِ عليه ولذا لم يكن فيه إخلالٌ بالتعظيم.

  (ومَن حَلَفَ بِصَدَقَةِ مالِهِ) كقولِهِ إن فعلتُ كذا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أنْ أتصدقَ بِمَالِي أو إن فعلتُ كذا فللهِ عليَّ أن أعتق عبدِي أو العتقُ يلزمُنِي لا أفعلُ كذا أو إن لم يكُن الأمرُ كما قلتُ فللهِ علَيَّ كذا ويُعَبَّرُ عن هذه اليمين تارةً بيمينِ اللَّجاج والغَضَب وتارةً بنذْرِ اللَّجَاجِ والغضَب لنشوئِها غالبًا عنهما وهو أن يُعَلِّقَ الفُربةَ بحَثٍّ أو مَنْعٍ أو تحقيقِ خبرٍ واللَّجاجُ هو التمادي في الخصومة أي التطويلُ فيها وعطفُ الغضبِ عليه مِن باب عطفِ السببِ على الْمُسَبِّبِ (فهو) أي الحالِفُ أو النَّاذِرُ (مُخَيَّرٌ بين) الوفاء بما حلف عليه والتزمَه بالنذر مِنَ (الصدقة) بمالِهِ (أو) إخراجِ (كفارةِ اليمين) وسيأتي بيانُها إن شاء اللهُ لأنه يُشْبِه النذرَ مِن حيث إنه التزامُ قُرْبةٍ ويُشْبِهُ اليمينَ من حيث المنعُ.

  (ولا شَىْءَ في لغو اليمين) وهو اليمينُ غيرُ الْمقصودةِ بأن سبقَ لسانه إلى لفظِ اليمينِ مِن غير أن يقصدها كقوله في حال غضبه أو غلبته أو عجلته لا والله أو بلى والله وكأن يريدَ الحلفَ على تركِ أمرٍ قيسبقُ لسانُهُ فيحلِفُ على فِعْلِهِ أو تركِ غيرِهِ.

  (ومَنْ حَلَفَ أن لا يفعلَ شيئًا) كبيعِ عَبْدِه أو إجارتِه أو تزوبج مَولِيَّتِهِ أو طلاقِ امرأتِه أو عتقِ عبدِه أو ضربِ غلامِه (فأمرَ غيرَهُ بفعلِه) بأن وكَّلَ به غيره ففعلَه الوكيل بأن باع عبدَ الحالف أو آجره أو زوج مولية الحالف أو طلق امرأته أو أعتق عبده أو ضرب غلامه (لم يحنَث) ذلك الحالفُ بفعلِ غيرِهِ لأنَّ البائعَ والْمؤجر والْمزوج والْمطلق والْمعتق والضارب غيرُهُ لا هو إلا أن يريد الحالفُ أنه لا يفعلُ هو ولا غيرُهُ فيحنَثُ بفعلِ مأمورِهِ. نعم لو حلفَ أن لا ينكِحَ فوكَّلَ غيرَهُ في أن يُنْكِحَهُ حَنِثَ إن عَقَدَ له. هذا كلُّه إذا فعل الْمحلوفَ عليه عالمًا عامدًا مختارًا بخلاف ما لو كان جاهلًا بكونه الْمحلوف عليه أو ناسيًا لحَلفِه عليه أو مكرهًا على مخالفة يمينه فلا يحنَثُ حينئذٍ.

  (ومن حَلَفَ على) نَفْيِ (فِعْلِ أمرين) كقوله واللهِ لا ألبس هذين الثوبين (ففعلَ أحدَهما) بأن ليس أحد الثوبين في الصورة الْمذكورة (لم يحنَثْ) فإن لبسهما معًا أو مرتَّبًا حنِثَ. فإن قال لا ألبَس هذا ولا هذا حنِثَ بلُبْسِ أحدِهما ولم تنحلَّ يمينُهُ بل غذا فعل الآخر حَنِثَ أيضًا لأنَّ ذلك يمينانِ فتلزمُه كفارتان.

  وإذا حلف يمينًا غموسًا وهي على ماضي من أفعاله بأن يقول والله ما فعلت وهو عالم أنه قد فعل أو والله لقد فعلت وهو عالم أنه لم يفعل فعليه كفارة.