قال المفسر فخر الدين الرازي في «التفسير الكبير»([1]) ما نصه: «المروي عن كافة الصحابة والتابعين أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة وقولهم حجة، وثانيهما أن ظاهر قوله {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة». وفي الكتاب عينِهِ يقول([2]): «الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته. وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال: إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر». اهـ.
فمعنى الآية فأينما تُوَجّهوا وجوهكم في صلاة النّفل في السفر قبلة الله أي فتلك الوجهة التي توجّهتم إليها هي قبلة لكم.
المشرق ملك لله والمغرب ملك لله فأينما تولّوا فثمّ وجه الله أي أينما توجهوا وجوهكم في صلاة النّفل وأنتم راكبون الدابة في سفركم فهناك قبلة الله، فالمسافر إذا كان راكبًا الدابة يجوز أن يصلّي النّفل إلى الجهة التي يريدها ولا يلتحق بذلك راكب السيارات والطائرات كما يُفهم ذلك من كتب الفقه ومن المؤسف أن كثيرًا من جهلة العصر ومنهم مشايخ إذا ذكر الكلام في التوجه للكعبة يقولون: «لا تشددوا {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}» ولا يراد بالوجه الجارحة وحكم من يعتقد الجارحة لله التكفير لأنه لو كانت له جارحة لكان مثلاً لنا يجوز عليه ما يجوز علينا من الفناء. ففي هذه الآية أضاف الله إلى نفسه لفظ الوجه: فليس لنا أن نردّ ذلك لكن علينا أن نعتقد أن الوجه إذا أطلق على الله ليس معناه الجارحة التي نعرفها لأن الذي يعتقد في الله الجارحة يكفر. الجارحة من صفات الأجسام فمن اعتقد أن لله جارحةً فقد نسب الجسمية إلى الله ومن نسب الجسمية إلى الله كفر وتكفيره هو مذهب السلف والخلف قاله الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما، فقول بعض المنتسبين للمذهب الشافعي بعدم تكفيرهم مخالف لما عليه السلف، فلا التفات إلى ما في كتاب عز الدين بن عبد السلام الذي هو من متأخري الشافعية ولعله دُسَّ عليه.
فإذا قال قائل: هل ذكر في القرءان أن الله منزه عن الجارحة وعن اللمس واللسان والأذن؟ نقول: يكفي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأنه لو كان له جارحة سمع أو جارحة بصر لكان مِثلًا لنا ولو كان مِثلًا لنا لم يكن إلهًا فمن يعتقد أن لله سمعًا وبصرًا بجارحتين فقد كَذَّبَ القرءان ولو أضاف إلى ذلك قوله «لا كجوارحنا».
قد يراد بالوجه الطاعة التي يراد بها التقرّب إلى الله تعالى كأن يقول أحدهم: «فعلت كذا وكذا لوجه الله»، ومعنى ذلك «فعلت كذا وكذا امتثالًا لأمر الله تعالى».
وهذا المعنى لا يصح سواه في نحو حديث «أقرب ما تكون المرأة إلى وجه الله إذا كانت في قعر بيتها» فليس للوجه في هذا الحديث معنى إلا طاعة الله. فماذا يفعل المجسم إذا جاء إلى هذا الحديث؟ أيفسره على حسب اعتقاده أن لله وجهًا بمعنى الجزء والحجم المركب على البدن؟ فكيف يتجرّأ على ذلك بعد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويتجرأ على تفسير نحو قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} بالحجمَ المعروفَ المركبَ على البدن؟ قال البخاري في صحيحه في كتاب التفسير في سورة القصص: «{هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا مُلكَه، ويُقال ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله». اهـ. ومعنى «ما يُتقرَّب به إلى الله» الأعمال الصالحة فإنها تبقى قال الله تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} [مريم: 76].
وقول البخاري: «إلا ملكه» أي إلا سُلطانَه كما في الصحيح، الله له سلطان على العالم وسلطان الله لا يفنى لأنَّ سلطانه صفة من صفاته وصفاته أزلية أبدية هذا معنى إلا مُلكه، والبخاري من أئمة السلف هو وسفيان الثوري، وقد أوَّلا هذه الآية تأويلًا تفصيليًّا ولم يحملاها على الظاهر فيجب على المجسم أن يترك اعتقاده وليقل ما يناسب معنى هذا الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان بهذا اللفظ ليلتزم تفسير الرواية الأخرى لهذا الحديث «أقرب ما تكون المرأة إلى الله إذا كانت في قعر بيتها» على معنى تلك الرواية، فكلتا الروايتين صحيحة إسنادًا ومعناهما واحد.
فمن اعتقد أن وجه الله حجم فقد ألحد وكفر لأن الحجم مخلوق كثيفًا كان أو لطيفًا وهذا لا بدّ له من مقدار قال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} فالحجم مهما كان صغيرًا ومهما كان كبيرًا لا بدّ له من مقدار فالله منزه عن أن يكون حجمًا لطيفًا أو كثيفًا لأن الحجم لا بدّ أن يكون له مقدار.