الخميس أبريل 18, 2024

(فصلٌ) في الحُكم بالبَيِّنَةِ وفي بعض النسخ تقديمُ هذا الفصل على الذي قبله. والأحكامُ جمع حكمٍ ومعناه هنا إلزامُ إنسانٍ لآخَرَ بحقٍ والدَّعوَى لغةً الطلبُ والتَّمَنِّي وشرعًا إخبارٌ بحقٍّ له على غيره عند حاكم أو مُحَكَّم فإن لم تكن عند حاكم ولا محكم فلا تُسَمَّى دعوَى وأما البَيِّنَةُ فمعناها الشهودُ وسُمُّوا بذلك لأنَّ الحقَّ يَتبيَّن بهم ويظهر كما روَى البيهقيُّ مرفوعًا لم يُعْطَى الناس بدعواهم لادَّعَى أُناسٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهُم ولكن البيِنَةُ على الْمُدَّعِي واليمينُ على مَن أنكرَ اهـ وذلك لأنَّ جانبَ الْمُدَّعِي ضَعُف بمخالفة قولِهِ للظاهر فجُعِلَت البيِّنةُ في جانبه وجانبَ الْمُدَّعَى عليه قَوِيَ بموافقةِ قولِهِ للظاهر فجُعِل في جانبِه اليمينُ.

  (وإذا كان مع الْمُدَّعِي) وهو مَن يخالف قولُهُ الظاهرَ (بَيِّنَةٌ) أي رجلان أو رجلٌ وامرأتانِ أو أربعُ نِسْوَةٍ أو شاهدٌ ويمينٌ إن كان القاضي يَرَى ذلك (سمعَها الحاكمُ وحكَمَ له بها) إن عرف عدالتَها وإلا طلبَ منها التزكيةَ. وعُلِمَ مِن ذلك أنَّ صاحب الحقِّ لا يَستقِلُّ باستيفائِه بل منَ الرَّفع إلى الحاكم ولو مُحَكَّمًا فيما يصِحُّ فيه ذلك فلا يَستقِلُّ باستيفاءِ عينٍ ن خشِيَ مِن أخذِها مِمَّن هيَ عنده ضررًا وإلا فله أخذُها استقلالًا ولا بأخذُ شيئًا مِمَّن له عليه دينٌ مِن غير مطالبةٍ إذا كان الْمَدين غيرَ مُمْتَنِعٍ مِن أدائه ولو أخذه لم يملكْهُ ويلزمُهُ ردُّهُ فإن تلفَ ضمِنَهُ وأمَّا إن كان الدَّينُ على ممتنعٍ مِن أدائه ولو مُقِرٍّ له جاز له أخْذُ جنسِ حقِّهِ بصفتِهِ بطريقِ الظَّفَرِ ويملكُه بمجردِ الأخْذِ ولا يحتاجُ إلى صيغةٍ فإن تعذَّرَ عليه الجنسُ الْمذكور بأن وجد غيرَ جنسِ حقِّهِ أو جنسِ حقِّهِ بغيرِ صِفَتِهِ أخذَهُ مقدِّمًا النقدَ مقدِّمًا النقدَ على غيره ويبيعُه مستقِلًا حيث لا حجةَ له لِمَا في الدفع إلى الحاكم مِنَ الْمَؤُونة والْمشقة وتضييعِ الزمان حينئذٍ وإلا فلا يَبيعُ إلا بإذنِ الحاكم ولا يبيعُه إلا بنقدِ البلدِ فإن كان هذا النقدُ جنسَ حقِّهِ تملَّكَه وإن كان غيرَ جنسِ حقِّه اشترَى به جنسَ حقِّه ثم تملَّكَه ولا يأخذُ فوقَ جنس حقِّه إن أمكن الاقتصارُ عليه فإن لم يمكن أخَذَ فوق حقِّه لِعُذْرِهِ وباع منه بقدرِ حقِّهِ غن أمكن تَجَزُّؤُهُ وإلا باع الكلَّ وأخذَ مِن ثمنِه قدْرَ حقِّهِ وردَّ الباقي بصورةِ هبةٍ ونحوِها. وله فِعْلُ ما لا يصلُ للمال إلا به ككسرِ بابٍ ونقبِ  جدارٍ وقطعِ ثوبٍ ولا ضمانَ عليه هذا إذا كان ما يفعل به ذلك ملكًا للمدين ولم يتعلَّقْ به حقٌّ لازمٌ كرهنٍ وإجارةٍ. وهذا الذي ذُكِر في دينِ ءَادمِيٍّ وأما دينُ الله تعالى كزكاةٍ امتنع الْمالكُ مِن أدائها فليس للمستحِقِّ الأخذُ مِن ماله إذا ظفر به لتوقُّفِه على النية. ولا يَستقل مستحِقُّ القَوَد باستيفائه فإن فعل حرم عليه وعُزِّرَ لافتياته على الإمام لكنه يقعُ الْموقعَ. ولا يستقلُّ صاحبُ حقٍّ باستيفائه في حدِّ قذفٍ ولِعانٍ وفي إيلاءٍ ونكاحٍ ورَجعةٍ.

  (وإن لم تكنْ له) أي للمُدَّعِي (بينةٌ) أصلًا أو كان له بيِّنَةٌ لا تُقبل شهادتُها لكونها مجروحةً (فالقولُ قولُ الْمُدَّعَى عليه) وهو مَن وافق قولُهُ الظاهرَ (بيمينِهِ) إذا طالب بها الْمُدَّعِي فإن لم يطالبْ بها لم يُحَلِّفْهُ القاضي. ويمينُ الْمُدَّعَى عليه تقطعُ الخصومةَ ولا تُسقِط الحقَّ فلو أتَى الْمُدَّعِي ببيِّنَةٍ بعدَها سُمعتْ ولا يُعَزَّرُ الحالفُ لاحتمالِ نسيانِه. (فإن نكلَ) أي امتنعَ الْمُدَّعَى عليه (عن اليمين) الْمطلوبة منه (رُدَّتْ على الْمُدَّعِي فيَحلف) حينئذٍ (ويَستحقُّ) الْمُدَّعَى به بحلفِهِ لا بالنُّكولِ فإن لم يحلف يمينَ الرَّدِّ ولا عذرَ له سقط حقُّه منَ اليمين لإعراضه عنها لا منَ الدَّعْوَى فتُسمع حجتُه غذا أقامها بعد ذلك أما إن كان له عذر كإقامةِ حجةٍ وسؤالِ فقيهٍ ومراجعةِ حسابٍ أُمهل ثلاثةَ أيامٍ. والنُّكولُ حقيقةً أن يقولَ الْمُدَّعَى عليه بعد عرضِ القاضي عليه اليمينَ أنا ناكلٌ عنها أو يقولَ له القاضي احْلِفْ فيقول لا أَحْلِفُ أو يقول له قُلْ واللهِ فيقول والرحمنِ وأمن نكوله حكمًا فأن يحكمَ القاضِي بنكولِهِ لسكوتِهِ عن جوابِ الدَّعْوَى لا لِدَهشةٍ أو غَباوةٍ أو نحوهما كبلادة. وهذا أي كونُ الْمُدَّعَى عليه هو الذي يَحلف في غير اللِّعانِ والقَسامةِ إذا اقترنَ بدعوَى الدَّمِ لوثٌ أما فيهما فاليمينُ في جانبِ الْمُدَّعِي كما تقدَّمَ.

  والْمُعتبَرُ في اليمينِ نيةُ القاضي أو الْمُحَكَّم لا نيةُ الحالفِ فلو ورَّى لم تَدفع عنه التَّوْرِيَةُ إثمَ اليمينِ الفاجرةِ بأربعةِ شروطٍ أن تكون اليمين عند القاضي أو الْمُحَكَّم فلو حلف عند الْمُدَّعِي فقط نفعتْهُ التَّوريةُ وأن يحلِفَ بطلبِ القاضي أو الْمُحَكَّم فلو حلفَ قبل طلبه منه نفعتْه التوريةُ وأن لا يكون التعليقُ بالطلاق أو العتق فإن كان بهما نفعتْه التوريةُ وألا يكون الحالفُ مُحِقًّا وإلا نفعتْه التوريةُ كأن يأخذ مالًا في دينٍ له على الآخر أبَى ان يردَّهُ له ويقول الآخَرُ للقاضي أخذ مالي بغير إذني فحلَّفَهُ فإنه إذا حلفَ وورَّى نفَعَهُ عندئذٍ.

  ولا يجوز للقاضي أن يُحلِّفَ أحدًا بطلاقٍ أو عتقٍ أو نذرٍ ومتى بلغ الإمامَ أن قاضيًا يستحلف الناسَ بذلك عزلَهُ كما قال الشافعيُّ رضي الله عنه.

  (وإذا تداعَيَا) أي ادَّعَى خصمانِ (شيئًا) أي عينًا (في يدِ أحدِهِما) ولا بينةَ لواحدٍ منهما (فالقولُ قولُ صاحبِ اليدِ) ويُسَمَّى الداخِلَ (بيمينِهِ) أنَّ الذي في يَدِهِ له لأنَّ اليدَ منَ الأسبابِ الْمُرَجِّحَة والثاني يُسَمَّى الخارجَ (وإذا كان في أيديهما) كدارٍ يسكنانِها وجملٍ ركباهُ وفراشٍ جلسا عليه أو لم يكن في يدِ واحدٍ منهما ولا بيدِ ثالثٍ كمتاعٍ مُلقًى في الطريقِ وليس الْمُدَّعيانِ عندَه (تحالفا) أي حلفَ كلٌّ منهما على النَّفْيِ فقط على النَّصِّ أي على نَفْيِ أنه مِلْكُ غريمِهِ (وجُعِلَ) الْمُدَّعَى به (بينهما) مصفينِ فإن كان في يدِ ثالثٍ فالقولُ قولُهُ حيث لا بيِّنَةَ فيحلِفُ لكلٍّ منهما أنه ليس له وإنْ أقرَّ به لأحدهما عُمِل بمُقتَضَى إقراره وإن أقام كلٌّ منهما بيِّنَةً بما ادَّعاه وهو بيدِ الثالث سقطتا لتناقض موجَبَيهِما ويُرْجَعُ حينئذٍ لقولِه فيحلِفُ لكلٍّ منهما يمينًا كما مرَّ.

  (ومَن حلف على فعلِ نفسِهِ) إثباتًا أو نفيًا (حلفَ على البتِّ)(و)هو (القطعُ) فالعطفُ في الْمَتْنِ للتفسيرِ وكذا لو حلفَ على فِعْلِ مَمْلُوكِه مِن عبدٍ أو بهيمةٍ كما لو قيلَ له جَنَى عبدُك علَيَّ وأنكرَ فالأصح أنَّه يحلف على البت والقطع كما لو قيلَ جَنَتْ بهيمتُكَ على زرعِي مثلًا فعليكَ ضمانُهُ وأنكرَ فإنه يحلف على البَتِّ والقطع لأنَّ الإنسان يعلم حال نفسه وحالُ مَمْلُوكه منسوبٌ غليه فهُوَ كحالِهِ والبهيمة لا ذمة لها فإذا كانت جنايتها بتقصيره في حِفظها كان ذلك بفعلِه فيَضمن.

  (و)أمَّا (مَن حلفَ على فِعْلِ غيره) مِن غيرِ مماليكه فإن كان إثباتًا كأن يَدَّعِيَ شخصٌ على ءَاخَرَ انَّ مُوَرِّثَه يستحقُّ عليه كذا فأنكر الْمدَّعى عليه ولم يحلف فرُدَّتِ اليمينُ على الْمُدَّعِي (حلَفَ) حينئذٍ (على البتِّ والقطعِ) كَوَاللهِ أقرضَكَ مورِّثِي وله البَتُّ والقطعُ في الحلف لاعتمادِه على خطِّهِ أو خطِّ مُوَرِّثِهِ فيظنُّ ذلك ظنًّا مؤكَّدًا. (وإن كان نفيًا) مطلقًا غيرَ مقيَّدٍ بمكان وزمان مخصوصَين كأن ادَّعَى دينًا لِمُوَرِّثِهِ على شخصٍ فقال ذلك الشخص أبْرَأَنِي موَرِّثُكَ منه فأنكر الْمُدَّعِي البراءة فإذا حُلِّفَ الْمُدَّعِي (حَلَفَ على نَفْيِ العلم) كَوَاللهِ لا أعلم أنَّ مُوَرِّثِي أبْرَأَكَ منه ولو حلفَ على البَتِّ والقطعِ جاز لأنه قد يعلم ذلك. فإذا كان النَّفْيُ بزمانٍ أو مكانٍ مخصوصَين فإنه يحلفُ على البَتِّ لِتَيَسُّرِ الوقوفِ عليه كَوَاللهِ لم يُبْرِئُكَ في ذلك اليوم.