الجمعة أبريل 19, 2024

(فصلٌ) في أحكام القِسْمَةِ وهي بكسرِ القافِ الاسمُ مِن قَسَم الشىْءَ قَسْمًا بفتحِ القافِ أي فرَّقَهُ. وشرعًا تمييزُ بعضِ الأنصِباءِ مِن بعضٍ بالطريقِ الآتي والأنصباءُ حمعُ نصيبٍ وهيَ هنا حِصَصُ الشُّركاء.

  والأصلُ فيها قبل الإجماع قولُه تعالى في سورةِ النِّساءِ (وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينُ فَٱرْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) فكان يجب إعطاءُ أُولِي القُرْبَى واليتامَى شيئًا منَ التَّرِكاتِ ثم نُسخ وجوبُ ذلك وأخبارٌ مخبرِ البخاريِّ الشفعةُ فيما لم يُقْسَم اهـ كما أنَّ الحاجةَ داعيةٌ إليها ليتمكن كلُّ واحدٍ مِنَ الشريكين أو الشركاء منَ التصرف في نصيبه استقلالًا.

  والقسمةُ من حيثُ طريقةُ إيقاعِها على نوعينِ قسمة واقعة بالتراضي وقسمة واقعة بالإجبار. وأركانُها ثلاثةٌ قاسمٌ ومقسومٌ ومقسومٌ له. (ويَفتقِرُ القاسِمُ) الْمنصوبُ مِن جهة القاضي ومثلُهُ الْمنصوبُ مِن جهةِ الْمُحَكَّمِ الذي حكَّمَهُ الشريكانِ أو الشُّركاءُ زيادةً على كونِهِ سميعًا بصيرًا ناطقًا ضابطًا عالِمًا بالقِسمة عفيفًا عنِ الطَّمَع حتى لا يَرْتَشِي ولا يخونَ (إلى سبعِ) وهو أولى مِن سبعةِ كما في بعض النسخِ (شرائطَ) اقتصَرَ على ذِكْرِها الْمصنفُ وهيَ (الإسلامُ) فلا يصح أن يكون كافرًا (والبلوغُ) فلا يصح أن يكون صبيًّا (والعقلُ) فلا يصح أن يكون مجنونًا (والحريَّةُ) فلا يصح أن يكون رقيقًا (والذكوريَّةُ) فلا يصحُّ ان يكونَ أُنثَى (والعدالةُ) فلا يصحُّ أن يكون فاسقًا فمن اتَّصَفَ بضدِّ ذلك لم يكن قاسمًا لأنَّ القسمةَ نوعٌ منَ الولاياتِ والْمتَّصِفُ بضِدِّ ذلك ليس مِن أهلِها (و)بقيَت خصلةٌ منَ السبعِ وهيَ (الحسابُ) أي العلمُ بالحسابِ وهو الْمتعلِّقُ بالأعداد والعلمُ بالْمساحةِ وهو الْمتعلِّقُ بمعرفةِ الأسطحةِ والخطوطِ.

  ويجعلُ الإمامُ رزقَ مَن ينصِبُه لذلك إن لم يكُنْ متبَرِّعًا مِ، بيت الْمال إن كان فيه سعةٌ وإلا فإُجرتُه على الشركاء لأنَّ العملَ لهم. (فإنْ تراضَى الشريكانِ بِمَن يَقْسِم بينهما) الْمالَ الْمشتركَ فوكَّلُوه في القِسمة ولم يُحَكِّمُوه ولم ينصُبْهُ القاضي بعد ترافعِهِم إليه (لم يُفْتَقَرْ) في هذا القاسم (إلى ذلك) أي إلى الشروطِ السابقةِ ولم يُشتَرَطْ فيه فيرُ التكليفِ مطلقًا والعدالةِ إن كان في الشركاء محجورٌ عليه وأراد وليُّهُ القِسْمَةَ له. ويُشتَرَط في هذه القسمةِ الرِّضَا بها بعد خروجِ القُرْعة إن حكموا بالقُرْعة بخلافِ القسمة الواقعة بالإجبار فلا يُعتبر فيها الرضا لا قبل القُرْعة ولا بعدَها.

  واعلم أنَّ القِسْمَةَ مِن حيثُ هِيَ على ثلاثةِ أنواعٍ أحدُها القِسْمَةُ بالأجزاءِ وتُسَمَّى قِسمةَ الإفراز وقِسمةَ الْمُتَشابهات لأنَّ الأجزاء فيها متشابهةٌ قيمةً وصورةً لا يُحتاج فيها إلى ردٍّ أو تقويم فيُفرز حقُّ كلِّ واحدٍ من الشركاء كقسمة الْمِثليَّاتِ مِن حبوبٍ وغيرِها وقسمةِ الدار الْمتفقة الأبنية والأرضِ الْمتشابهةِ الأجزاءِ فتُجَزَّأُ الأنصِباءُ كَيْلًا في مَكِيلٍ ووزنًا في موزونٍ وذرعًا في مذروعٍ ثم بعد ذلك يُقْرَعُ بين الأنصِباء ليتعيَّنَ كلُّ نصيبٍ منها لواحدٍ منَ الشركاء. وكيفيةُ الإقراعِ إذا كانت الحصصُ متساويةً أن تؤخَذَ مثلًا ثلاثُ رِقاعٍ متساويةٌ ويُكتَبَ في كل رقعةٍ منها اسمُ شريكٍ من الشركاءِ أو جزءٍ من الأجزاءِ مُمَيَّزٍ عن غيره منها وتُدْرَجَ تلك الرقاع في بنادقَ متساويةٍ مِن طينٍ مثلًا بعد تجفيفه ثم توضعَ في حِجْر مَن لم يَحْضُر الكتابةَ والإدراجَ ثم يُخرِجَ مَن لم يحضرْهُما رقعةً على الجزء الأول مِن تلك الأجزاءِ إن كُتبت أسماءُ الشركاء في الرقاع كزيدٍ وبكرٍ وخالدٍ فَيُعْطَى مَن خرج اسمُه في تلك الرُّقْعَة ثم يُخْرِجَ رقعةً أخرَى على الجزءِ الذي يَلِي الجزءَ الأول فيُعطَى مَ، خرج اسمُه في الرقعة الثانية ويتعينُ الجزءُ الباقي للثالث أو يُخْرِجُ مَن لم يَحضر الكتابةَ والإدراجَ رقعةً على اسم زيدٍ مثلًا إن كُتِبَتْ في الرِّقاع أجزاءُ الأنصباءِ ثم على اسم خالد ويتعينُ الجزء الباقي للثالث. وإن لم تكن الأنصباءُ متساويةً بل اختلفَتْ كنِصفٍ وثُلثٍ وسُدُس جُزِّئَ ما يُقسَمُ على أقلِّها وهو السُّدس فيكون ستَّة أجزاء ثم بعد ذلك طرقٌ منها أن يكتُبَ الأسامِيَ في ثلاثِ رقاعٍ ويُخْرِجَ على السهام فيقول أخرِج على السهم الأول مثلًا فإن خرجَ اسمُ صاحب النصف مثلًا دَفَع إليه ذلك السهم والسهمين اللَّذين يليانه ثم يقول أخرِجْ على السهم الرابع فإن خرج اسم صاحب الثلث دُفِعَ إليه مع السهم الذي يليه ويتعيَّن السهم الباقي لصاحب السدس وإن خرج السهم الأول لصاحب السدس دفع إليه ثم أخرج على السهم الثاني فإن خرج اسمُ صاحب النصف دفع إليه ثلاثة أسهمٍ وتعيَّن السهمانِ الآخران لصاحب الثلث وعلى هذا الْمنوال يجري إن خرجَ السهمُ الأولُ لصاحب الثلث. ومنها كتب أسماء الشركاء في ستِّ رقاعٍ لصاحب السدس رقعةٌ ولصاحب الثلث رقعتان ولصاحب النصف ثلاثُ رقاعٍ ويُخْرِجُ على السهام فإن خرج اسم صاحبِ السُّدس أُعطِيَ السهمَ الأول ثم يقرع بين الآخَرَيْن فإن خرج اسمُ صاحب الثلث أعطِيَ السهم الثاني والثالثَ بلا قرعةٍ والباقي لصاحب النصف وإن خرج أوَّلًا اسمُ صاحب النصف أُعطِيَ ثلاثةَ أسهمٍ ثم يقرع بين الآخرين على نحو ما تقدَّم. وهذه القسمةُ قِسمَةُ إجبارٍ فُيُجبَرُ الْممتنعُ منها عليها إذ لا ضررَ عليه فيها. ويكفِي فيها قاسمٌ واحدٌ. ويجوزُ أن يتَّفِقَ الشريكانِ أو الشركاءُ على ما يأخذُهُ كلٌّ نصيبًا مِن غيرِ إقراعٍ.

  والنوعُ الثاني القِسمةُ بالتعديل للسهام أي الأنصباءِ بالقيمةِ أي القسمةُ لجعلِ الحصص متعادِلَةً من حيثُ القيمة وهذا القسمُ والذي بعدَهُ بيعٌ لأنَّ كلًّا منَ الشريكين باع ما كان له من نصيبِ الآخرِ بما كان للآخَرِ مِن نصيبهِ ودَخلَه الإجبارُ في قسمٍ مِن صُوَرِهِ للحاجةِ فيُجبر عليه الْممتنعُ إلحاقًا للتساوِي في القيمة بالتساوي في الأجزاءِ وذلك كأرضٍ تختلفَ قيمةُ أجزائها بقوةِ إنباتٍ أو قربِ ماءٍ وتكون الأرض بينهما نصفين يُسَاوِي ثلثُ الأرضِ مثلًا لجودَتِهِ ثُلُثَيْها فيُجعل الثلثُ سهمًا والثلثان سهمًا ويُقْرَعُ كما مَرَّ. ومثلُ هذا قسمة التعديل في منقولاتِ نوعٍ غذا كانت مِن نحو ثلاثة أعبدٍ مِن نوعٍ واحدٍ بين اثنين قيمةُ أحدهم كقيمة الآخَرَين فيجبَرُ عندئذٍ على قسمة التعديل لقلَّةِ اختلافِ الأغراضِ بخلاف منقولاتِ أنواعٍ كثلاثة عبيدٍ صقلبِيٍّ وهِندِيٍّ وزنجِيٍّ وثيابِ إبريسمٍ وكَتَّانٍ وقُطنٍ ومنقولاتِ نوعٍ اختلفَ ومنقولاتِ نوعٍ لم يختلفْ ولم تَزُلِ الشركرةُ كعبدين قيمةُ ثُلُثَيْ أحدِهما تعدِلُ قيمةَ ثلثِهِ مع الآخَر كأن كان العبدُ الأولُ يُساوِي مِائَةً وخمسين والعبدُ الثاني يُساوي خمسين فقيمة ثُلُثَيِ الأولِ مِائَةٌ وقيمة ثلثِه مع الآخَر مِائَةٌ فلا إجبار في ذلك كلِّه لشدة اختلاف الأغراض حينئذٍ ولعدمِ زوال الشركة بالكلية في الصُّورةِ الأخيرةِ. ويجبر على قسمة التعديل في نحو دكاكينَ صغارٍ متلاصقةٍ لا يَحتمل كلٌّ منها القسمة أعيانًا إن زالت الشركةُ بها للحاجة بخلاف نحوِ الدكاكين الكبار والصغار غيرِ الْمتلاصقةِ فلا إجبار فيهما وإنْ تلاصَقَت الكبار واستوَتْ قيمتُها لشدةِ اختلافِ الأغراضِ باختلافِ الْمَحالِّ والأبنيةِ. ولا يكفي فيا قاسمٌ واحدٌ أي خلافًا لِما ذهبَ إليه ابنُ قاسمٍ في فتحِ القريب من الاكتفاءِ بواحد كما سيأتي إن شاء الله.

  والنوعُ الثالث القِسمة بالرَّدِّ أي القسمةُ الْمُلتبِسَةُ بردِّ مالٍ أجنبيٍّ غير الْمال الْمقسوم لأحد الشركاء بأن يكونَ في أحدِ جانِبَي الأرض الْمُشْتَرَكَةِ بئرٌ أو شجرٌ مثلًا لا يمكن قسمتُهُ فيرُدُّ مَن يأخذُهُ بالقسمة التي أخرجتْها القُرعةُ قسطَ قيمةِ كلٍّ منَ البئرِ أو الشجر في الْمثال الْمذكور فلو كانت قيمة كلٍّ منَ البئرِ أو الشجر ألفًا وله النصف منَ الأرض ردَّ الآخذُ ما فيه ذلك خمسَمِائَةٍ. وهيَ بيعٌ كالنوع الثاني لكن لا إجبارَ فيها لأن فيها تمليكًا لِمَا لا شركة فيه.

  ولابُدَّ في النوعَينِ الأخيرَينِ من نصبِ الحاكمِ قاسِمَيْنِ ولا يكفي فيهما واحدٌ لِمَا فيهما منَ التعديلِ كما بيَّنَ الْمصنفُ بقوله (وإن كان في القسمة تقويمٌ) كما في قِسمَتَيِ التعديلِ والرَّدِّ (لم يُقتصرْ فيه) أي ي تقويم الْمال الْمقسوم (على أقلَّ منِ اثنينِ) لأنَّ التقويمَ تخمينٌ والتخمينُ قد يُخطِئُ فيُعلم مِن هذا أنَّ اشتراط العدد إنما هو من حيثُ التقويمُ لا من حيث القسمةُ ولذا إن كان القاسمُ حاكمًا في التقويم بأنْ نصبَه القاضي ليحكمَ في التقويم حكم بعدلَينِ أو بعلمِهِ أي معرفتِهِ إذْ هو كقضائه بعِلْمِهِ والأصحُّ جوازُهُ بشرطِهِ وهو أن يكون مجتهدًا. فإن نصبَهُ القاضي أو الإمامُ قاسمًا مِن غير أن يجعله حاكمًا بعلمه في التقويم رجعَ إلى قولِ عدلَينِ خبيرَينِ فاشتراطُ الاثنينِ راجعٌ إلى منصوبِ القاضي أو الإمامِ في هذه الحالِ وأما منصوبُ الشركاء فيكفي كونُه واحدًا قطعًا. ويُعْلَمُ مِن هذا أنه لا يُشترط في القاسم معرفتُهُ بالتقويم.

  (وإذا دَعَا أحدُ الشَّرِيكَينِ شريكَهُ إلى قسمةِ) إفرازٍ أو تعديلٍ إذ قسمةُ الردِّ لا إجبارَ فيها (ما لا ضررَ) عظيمٌ (فيه) على طالبِ القِسْمَةِ بأن يَبْقَى بعد القسمة نفعُهُ الْمقصودُ منه له ولو بضمِّ ما يملكه بجواره ولو بإحياءِ مواتٍ بجنبِهِ ولو كان فيه ضررٌ على الْمطلوب للقسمة (لَزِمَ) الشريكَ (الآخرَ إجابتُه) إلى القسمة فيُجبره الحاكمُ عليها أمَّا ما في قسمته ضررٌ عظيمٌ بأن يبطلَ نفعُهُ الْمقصودُ منه بالقِسمة كحمَّامٍ لا يُمكن جعله حمامين وطاحونةٍ لا يمكنُ جعلُها طاحونتَينِ أو ينقصَ نفعُهُ نقصًا غير خفيفٍ كسيفٍ يُكسَرُ فلا يُجبر الْمُمْتَنِعُ مِنَ القِسمة عليها فيه وإن أمكن الانتفاعُ به بعد القسمة بوجهٍ ءَاخَرَ فلو وَرِثَ عشرةُ إخوةٍ مِن أبيهم بيتًا وأرادَ صاحبُ العُشْرِ القِسمةَ مع أنَّ منفعةَ عُشْرِهِ تبطلُ بها لِرَغبتِهِ مثلًا في تغييرِ وَجْهِ استعمالِهِ فليس له إجبارُ بقيةِ غخوتِهِ عليها لأنه متعنِّتٌ وأما إذا كان العشر يصلح للسكنى ولو بضَمِّ ما يملكُه بجواره أو إحياء مواتٍ بجنبه أُجبر الآخرونَ بطلب صاحب العُشر لأنه لا تعنُّتَ حينئذٍ ويتعيَّنُ عندها العشرُ الذي بجوار مِلكه بلا قُرعةٍ لِئَلَّا يلزمَ تَفَرُّقُ مِلْكه فيتضرَّرُ كما استقر به الشبراملسيُّ وكذا لو طلبَ القسمةَ الشركاءُ التسعةُ فلهُم إجبارُ العاشِرِ عليها لأنهم لا يتضررون بها وتبقَى منفعَةُ التسعةِ أعشارٍ وإن كان أخوهُم يتضرَّرُ كثيرًا إذ لا عبرة بذلك. ومحلُّ إجبار الْممتنع إنما هو في قسمَتَيِ الإفرازِ والتعديلِ فأما قسمةُ الردِّ فلا إجبار فيها كما تقدَّم لأنها بيعٌ وإنما تُقْسَمُ بالتراضي بين الشركاء فيُفهَمُ مِن ذلكَ أنَّ الشركاءَ التسعةَ في الْمِثالِ السابقِ لو أرادوا بيعَ حصَصِهِم وامتنعَ العاشرُ وكان بامتناعِهِ يُفَوِّتُ عليهم ربحًا كبيرًا فليسَ لهم إجبارُهُ على البيعِ. وإذا أرادَ الشركاءُ اقتسامَ ما تنقصُ منفعتُهُ بالتراضي بينهم لم يُجِبْهُمُ الحاكمُ إلى ذلك كما تقدَّمَ لكنه لا يمنعهم منها لأن القسمةَ لا تُبطِل منفعتهم بالكُلِّيَّة كما لو هدموا جدارًا لهم واقتسموا نَقْضَه وأما ما يَبطل نفعُه بالكلية كجوهرةٍ وثوبٍ نفيسٍ فلا يُجيبهم لقِسمته ويمنعهم منها لأنَّ قسمتَهُ تُبطل نَفْعَهُ بالكُلِّيَّة فهي سَفَهٌ.