الأحد ديسمبر 7, 2025

الدرس الرابع

طريق النجاة في الآخرة

(9) الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى ءاله وأصحابه وجميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وآل كل والصالحين وبعد، فإن الله تبارك وتعالى كلف عباده بالأوامر ليؤدوها كما أمرهم وكلفهم باجتناب النواهي أي الأمور المحرمة وذلك ليبتليهم أي ليميز لعباده ما سبق في علمه من أمورهم وأحوالهم، فمن علم الله تبارك وتعالى في الأزل أنهم يكونون من المطيعين لأوامر الله ومجتنبين للمناهي يظهر في هذه الدنيا على حسب ما سبق في علم الله، وكان ذلك لهم علامة على أنه من أهل النعيم المقيم في الآخرة الذين{لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في القبر ولا في الآخرة ومن علم الله في الأزل أنه يكون من المخالفين لأوامره ويظهر ذلك عليه أنه عاص لربه إما بالكفر وإما بالتلوث بالمعاصي والآثام والذنوب فيعرف بين خلق الله تبارك وتعالى من ملائكة وغيرهم بأنه من المخالفين ويكون ذلك علامة على أنه من أهل العذاب المقيم في الآخرة، إن كان مخالفته بالكفر وترك الإيمان فمات على ذلك كان ذلك علامة على أنه من أهل العذاب المقيم الذي لا ينقطع في الآخرة، لا عذابه ينقطع فيستريح ولا هو يموت فينقطع عنه الإحساس بالآلام، يكون كما قال الله تعالى {لا يموت فيها ولا يحيى}   (74) سورة طه{لا يموت فيها} أي في النار، عن الكافر هذا{ولا يحيى} أي لا يحيى حياة يجد فيها راحة ونعمة، ولا يموت فينقطع عنه الإحساس بالعذاب، أي أنه يعيش دائما بلا انقطاع للنكد والعذاب والألم، وإن لم يكن ممن عصى الله بالكفر بل عصاه بما دون الكفر ثم مات قبل التوبة فمنهم من تصيبه العقوبة في الآخرة ثم ينقطع عنه العذاب فيخرج إن كان دخل النار من النار ثم يدخل الجنة، ومنهم من يغفر الله لهم ويسامحهم ولا يعذبهم لأنهم ماتوا مسلمين وإن ماتوا بلا توبة من ذنوبهم لكنهم ماتوا مسلمين فلا يعذبهم الله تعالى لأن الله تعالى فعال لما يريد، لا ينتفع بشىء من خلقه لا بالملائكة ولا بالأنبياء ولا بغير ذلك. إذا هو يفعل ما يريد لا يكون ظالما إن عذب هذا لكفره أو لمعاصيه وإن غفر لهذا المسلم الذي هو كان متلوثا في الكبائر ثم مات قبل أن يتوب لا يكون ظالما هو، لا يقال كيف يغفر لهذا ويعذب الآخر، هو المالك الحقيقي لا اعتراض عليه، خلق العالم كما شاء بمشيئته الأزلية ما شاور أحدا، الله تعالى لا يشاور أحدا في خلق شىء من العالم لأنه ليس بحاجة إلى غيره، هو القيوم، القيوم فسره بعض المفسرين بأنه الذي لا يحتاج إلى شىء غيره، ﱡﭐ ﲞ ﲟ  ﲠ ﱠ    26 سورة لقمان. أي هو المستغني عن كل ما سواه، الحميد أي الذي يستحق أن يحمد على السراء والضراء أي العباد يجب عليهم أن يسلموا لربهم ولا يعترضوا إن كانوا في حالة بسط ورخاء وإن كانوا في حالة ضيق ونكد ليس لهم إلا أن يرضوا عن ربهم ويسلموا له تسليما لأنه هو مالكهم الحقيقي ليس مالكا مجازيا بل هو مالك حقيقي لكل العالم، فتصرفه حق ليس باطلا، في العباد يقال إذا الأب أعطى لبعض أولاده وحرم الآخرين بغير سبب بأن يكونوا كلهم بارين به مطيعين لله وكلهم بحالة واحدة من حيث المعيشة فخصص بعضا منهم دون بعض بالعطاء وحرم الآخرين بدون سبب لا لأن هذا فقير وهذا مكتف ولا لأن هذا يستطيع أن يعمل وهذا ذو عاهة لا يستطيع أن يعمل إنما هكذا من دون سبب شرعي أعطى بعضا وحرم بعضا يلام لأنه عبد. الله تعالى أمره بأن يسوي بين أولاده، أما الله تعالى فهو المالك لكل شىء فكيف يتوجه عليه لوم إن غفر لهذا العبد المسلم المسيء الذي كان متلوثا بالذنوب ومات وهو غافل ولم يتب، الله تعالى لا يلام.

فالذي جعل الله تبارك وتعالى له في هذه الحياة الدنيا الرزق واسعا ورزقه إلى جانب ذلك الصحة فليحمد الله، والآخر الذي ابتلاه بالفقر المرير أو ابتلاه بالعاهات فليصبر ولا يعترض على الله لأن من اعترض على الله تعالى كفر، فالله تعالى ليس ظالما تصرف في ملكه الذي هو مالكه الحقيقي، نحن علينا أن نتقيد بشرع الله تبارك وتعالى لأننا عبيده علينا أن نتجنب المحرمات التي حرمها علينا وعلينا أن نؤدي ما أمرنا بأدائه من الفرائض لأننا عبيده، فالله تعالى ليس عليه ملام ولا اعتراض ولا يلحقه ظلم في جميع أفعاله، فمن وفقه الله تبارك وتعالى بفعل الخيرات واجتناب المنهيات فليحمد الله لأنه هو الذي يسر له عمل البر والخير والطاعة لولا تيسير الله تعالى له ما استطاع أن يعمل هذه الخيرات والأعمال الصالحة، فليحمد الله تعالى لأن المنة لله على العبد ليست المنة على الله للعبد، العبد ليس له على الله منة، المنة لله تعالى لأن الله تعالى هو الذي خلق أجسامنا وخلق فينا هذه الصفات الحواس الخمس، وخلق فينا المعرفة والإدراك والعلوم، أصل وجودنا بالله تبارك وتعالى لولا أنه أوجدنا ما وجدنا، فمن وفقه الله تعالى للأعمال الصالحة والفضائل والكمالات وجنبه الرذائل والموبقات أي الذنوب المهلكات فهذا بفضل الله ورحمته فليحمد الله تعالى، ومن كان على غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لا يلم ربه، ليس له أن يلوم ربه أي أن يعترض على ربه.

 (10) ثم إن الله تبارك وتعالى بعض العباد في هذه الدنيا يبتليهم فيكثر عليهم البلاء إما من ناحية الضيق في الرزق أو من ناحية العاهات أو من ناحية تسليط أذى الناس عليه، هؤلاء إن ءامنوا بربهم وبدينه الذي أرسل به النبي ﷺ ولم يعترضوا على الله فالله تبارك وتعالى يعوضهم في الآخرة أجرا جزيلا على هذه الآفات والبلايا والمصائب، والدنيا لا بد لها من زوال، الدنيا دار رحيل ليست دار مقام أبدي إنما هي دار مرور ورحيل، هي الدنيا كمرحلة ينزل بها المسافر لينتقل منها إلى بلده، مثل الدنيا كمثل سفرة يسير الرجل في هذه السفرة وينزل بمرحلة أو مرحلتين أو أكثر حتى يصل إلى بلده إلى مستقره.

هؤلاء المؤمنون الذين يبتليهم الله تبارك وتعالى في هذه الدنيا فيصبرون ولا يعترضون على الله ولا يعصون الله من أجل بلائهم لا يدفعهم بلاؤهم إلى معصية الله بل يرضون بما قدر الله يلقون أجرا جزيلا في الآخرة بحيث يغبطهم الناس الآخرون لما يرون عظم ثوابهم ثواب أهل البلاء يتمنون أن لو كانوا من أهل البلاء في الدنيا حتى ينالوا ما نال أهل البلاء من عظيم الثواب.

جاء في الحديث القدسي فيما رواه رسول الله ﷺ عن ربه تبارك وتعالى أنه تعالى قال: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها إياكم» رواه مسلم. المعنى أن الله تبارك وتعالى جعل هذه الدنيا دار ابتلاء فقسم من العباد فائزون بطاعة ربهم، يحصي الله تبارك وتعالى لهم حسناتهم فيوفيهم ثوابها في الآخرة فضلا منه وكرما، يحصيها في الدنيا أي تكتب، الكرام الكاتبون الملائكة الذين وكلوا بالعباد ليكتبوا أعمال العباد، الذين يكتبون الحسنات إن كانت كبيرة وإن كانت صغيرة يكتبون حسنات العباد، هؤلاء الله أمرهم بأن يكتبوا حسناتنا، تحصى لنا حسناتنا ثم نجازى بها في الآخرة بالثواب العظيم، ومن كان مخذولا غير موفق كأن كان يضيع فرائض الله ويرتكب المحرمات هذا أيضا يحصي الله تعالى عليه أي أن الملائكة الموكلين بكتابة أعمال العباد يكتبون ويحصون ذلك ثم يوفي العباد ربنا تبارك وتعالى في الآخرة جزاءهم على تلك المعاصي. والملائكة كتابتهم ليست ككتابتنا هذه غيب عنا لكنها يوم القيامة تظهر للعبد يقرؤها عندما تعرض عليه يجد حسناته فينسر بها ويرى سيئاته فيستاء بها، أما الكافر فلا يجد في الآخرة في صحائفه إلا السيئات، فيزداد ضيقا وكربا برؤيته لسيئاته في كتابه الذي تعرض عليه الملائكة.

فينبغي للعاقل أن لا يعلق قلبه بهذه الدنيا، يطلب المال بطريق الحلال ولا يطلبه بطريق الحرام حتى لا يؤاخذ في الآخرة لأن هناك في الآخرة سؤالا من أين أخذت هذا المال وفيما أنفقته.

كان في حلب وال تركي باشا كان من عباد الله الصالحين وكان غنيا غنى كبيرا، هذا بنى جامعا وبنى حوله بيوتا يسكنها طلاب العلم الشرعي، ولو كان هذا البناء في هذا العصر لكلف مليارا أو أكثر، ولما أنهى هذا الرجل بناء المسجد قال: من فينا من لم تفته صلاة الجماعة؟ فلم يتجرأ أحد أن يقول أنا ويتقدم فتقدم هو وصلى بهم إماما، ثم بعد ذلك عين لهذا المسجد إماما، وهذا في الأخير ذهب إلى المدينة ليجاور هناك. وكان هذا الرجل بأذنه يسمع وهو في المدينة أذان المؤذن الذي كان في مسجده.

هذا الرجل جمع المال بالحلال وأنفقه بالحلال هنيئا له. وهذا من حوالي مائة سنة. وأما الصنف الآخر من الناس وهم الذين يجمعون المال بالحرام فهؤلاء ويل لهم قدموا لآخرتهم وبالا ، وكذلك الذين جمعوا المال بالحلال لكنهم صرفوه بالحرام فهؤلاء أيضا لهم الويل، ثم الحلال والحرام يعرف بالعلم علم الدين هو الذي يبين ويعلم المال الحلال والمال الحرام، فمن أراد الله به خيرا أي خيرا كبيرا يفقهه في دينه أي يجعله عارفا بعلم الدين الضروري، ومن زاده الله تعالى على العلم الضروري فذلك زيادة خير زيادة فضل.

الله تبارك وتعالى لا يمس ولا يمس لأنه ليس جسما كثيفا ولا جسما لطيفا هو موجود لا كالموجودات، هو شىء أي موجود لا كالأشياء. الله لا يمس ولا يمس لأن الذي يصح منه المس فهو مخلوق حادث ، وقد قال تبارك وتعالى: ﱡﭐ ليس كمثله شىء }، عرفنا من هذه الآية أن الله تعالى منزه عن كل صفة من صفات المخلوقين، ثم لما قال {وهو السميع البصير} أفهمنا أن له سمعا وبصرا لا كأسماعنا ولا كأبصارنا لأنه قدم التنزيه، قبل هذا الإثبات قدم التنزيه { } معناه لا يشبه الله خلقه في شىء من الأشياء، وإنما قدم التنزيه ليفهمنا أن سمعه وبصره الذين وصف نفسه بهما ليسا كأسماعنا وأبصارنا.

لما قال الله تبارك وتعالى في القرءان الكريم {ليس كمثله شىء} أخذ علماء الهدى علماء الحق والصواب أخذوا من هذه الآية جملا هي جواهر في علم الدين، منها قول ذي النون المصري وهو قبل أبي جعفر الطحاوي بمائتي سنة، كان في المائة الثانية للهجرة النبوية من الأولياء المشهورين الزهاد العلماء الكبار قال: «مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك»، والله سبحانه وتعالى أعلم.