الخميس مارس 28, 2024

رسالة تحذير من فرق الضلال الثلاث

رِسَالَةُ تَحْذِيرٍ مِنْ فِرَقِ الضَّلالِ الثَّلاثِ

الْوَهَّابِيَّةِ وَجَمَاعَةِ حِزْبِ الإِخْوَانِ

أَتْبَاعِ سَيِّد قُطُب وَجَمَاعَةِ حِزْبِ التَّحْرِيرِ

أَتْبَاعِ تَقِىِّ الدِّينِ النَّبَهَانِىِّ

 

   (1) أَمَّا الْوَهَّابِيَّةُ فَهُمْ أَتْبَاعُ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ النَّجْدِىِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1206هـ.

   وَأَمَّا حِزْبُ الإِخْوَانِ فَهُمْ أَتْبَاعُ سَيِّد قُطُب الْمِصْرِىِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1387هـ.

   وَأَمَّا حِزْبُ التَّحْرِيرِ فَهُمْ أَتْبَاعُ تَقِىِّ الدِّينِ النَّبَهَانِىِّ الْفِلَسْطِينِىِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1400هـ.

   فَأَمَّا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَهُوَ رَجُلٌ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ بِالْعِلْمِ بَلْ إِنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ بنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَدَّ عَلَيْهِ رَدَّيْنِ لِمُخَالَفَتِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَحَدُ الرَّدَّيْنِ يُسَمَّى الصَّوَاعِقَ الْمُحْرِقَةَ وَالرَّدُ الآخَرُ يُسَمَّى فَصْلَ الْخِطَابِ فِى الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ الشَّهِيرُ الْحَنْبَلِىُّ مُفْتِى مَكَّةَ مُحَمَّدُ بنُ حُمَيْدٍ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِى عِدَادِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ ثَمَانِمِائَةِ عَالِمٍ وَعَالِمَةٍ فِى الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِىِّ بَلْ ذَكَرَ أَبَاهُ عَبْدَ الْوَهَّابِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ غَضْبَانَ عَلَيْهِ وَحَذَّرَ مِنْهُ وَكَانَ يَقُولُ يَا مَا تَرَوْنَ مِنْ مُحَمَّدٍ مِنَ الشَّرِّ وَكَانَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ حُمَيْدٍ تُوُفِّىَ بَعْدَ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِنَحْوِ ثَمَانِينَ سَنَةً.

   وَقَدْ أَحْدَثَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ هَذَا دِينًا جَدِيدًا عَلَّمَهُ لِأَتْبَاعِهِ وَأَصْلُ هَذَا الدِّينِ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ وَاعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ لِأَنَّ الْقُعُودَ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَقَدْ خَالَفَ بِذَلِكَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] وَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ كَمَا قَالَ الإِمَامُ الْمُحَدِّثُ السَّلَفِىُّ الطَّحَاوِىُّ فِى عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ بِاسْمِ الْعَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ وَنَصُّ عِبَارَتِهِ «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ».

   وَمِنْ عَقِيدَةِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الْوَهَّابِيَّةِ تَكْفِيرُ مَنْ يَقُولُ يَا مُحَمَّدُ وَتَكْفِيرُ مَنْ يَزُورُ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ وَتَكْفِيرُ مَنْ يَتَمَسَّحُ بِالْقَبْرِ لِلتَّبَرُّكِ وَتَكْفِيرُ مَنْ يُعَلِّقُ عَلَى صَدْرِهِ حِرْزًا فِيهِ قُرْءَانٌ وَذِكْرُ اللَّهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ كَعِبَادَةِ الصَّنَمِ وَالْوَثَنِ وَقَدْ خَالَفُوا بِذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ فَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ قَوْلِ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ الشِّدَّةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِى كُلِّ الْعُصُورِ الَّتِى مَضَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ نَصَّ الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ الَّذِى هُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ فِى بِلادِهِمْ عَلَى جَوَازِ مَسِّ قَبْرِ النَّبِىِّ وَمَسِّ مِنْبَرِهِ وَتَقْبِيلِهِمَا إِنْ كَانَ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ بِالتَّبَرُّكِ وَذَلِكَ فِى كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ الْجَامِعُ فِى الْعِلَلِ وَمَعْرِفَةُ الرِّجَالِ. وَقَدْ شَذُّوا عَنِ الأُمَّةِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِالرَّسُولِ وَيَتَوَسَّلُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالُوا التَّوَسُّلُ بِغَيْرِ الْحَىِّ الْحَاضِرِ كُفْرٌ فَعَمَلًا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الَّتِى وَضَعُوهَا يَسْتَحِلُّونَ تَكْفِيرَ مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِى هَذَا وَيَسْتَحِلُّونَ قَتْلَهُ فَإِنَّ زَعِيمَهُمْ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ مَنْ دَخَلَ فِى دَعْوَتِنَا فَلَهُ مَا لَنَا وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ اهـ. وَمَنْ أَرَادَ التَّوَسُّعَ فِى مَعْرِفَةِ الأَدِلَّةِ الَّتِى تَنْقُضُ كَلامَهُمْ هَذَا فَلْيُطَالِعْ كُتُبَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كَكِتَابِ الرَّدُّ الْمُحْكَمُ الْمَتِينُ لِمُحَدِّثِ الدِّيَارِ الْمَغْرِبِيَّةِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْغُمَارِىِّ وَكِتَابِ الْمَقَالاتُ السُّنِّيَّةُ فِى كَشْفِ ضَلالاتِ أَحْمَدَ بنِ تَيْمِيَةَ لِمُحَدِّثِ الدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِىِّ وَهَذَا الْكِتَابُ الثَّانِى أُسْمِىَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَخَذَ تَحْرِيمَ التَّوَسُّلِ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ مِنْ كُتُبِ ابْنِ تَيْمِيَةَ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 728هـ مَعَ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَةَ اسْتَحْسَنَ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضُ الْخَدَرِ فِى رِجْلِهِ أَنْ يَقُولَ يَا مُحَمَّدُ وَهَذَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ فِى كِتَابِهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ طَبْعَةِ الْمَكْتَبِ الإِسْلامِىِّ الطَّبْعَةِ الْخَامِسَةِ 1405هـ-1985ر وَهَذَا يُخَالِفُ فِيهِ مَا قَالَهُ فِى كِتَابِ التَّوَسُّلُ وَالْوَسِيلَةُ. فَمُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَافَقَهُ فِيمَا فِى كِتَابِهِ التَّوَسُّلُ وَالْوَسِيلَةُ وَخَالَفَهُ فِيمَا فِى كِتَابِهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ. وَالْخَدَرُ مَرَضٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الأَطِبَاءِ يُصِيبُ الرِّجْلَ.

   (2) وَأَمَّا حِزْبُ الإِخْوَانِ فَإِنَّهُمْ اتَّبَعُوا سَيِّد قُطُب فِى قَوْلِهِ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ الْقُرْءَانِ وَلَوْ فِى حُكْمٍ وَاحِدٍ فَقَدْ رَدَّ أُلُوهِيَّةَ اللَّهِ وَادَّعَى الأُلُوهِيَّةَ لِنَفْسِهِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/44] وَاسْتَحَلَّ بِذَلِكَ دِمَاءَ الْحُكَّامِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِالْقَانُونِ وَدِمَاءَ الرَّعَايَا وَتَفْسِيرُهُ هَذَا لِهَذِهِ الآيَةِ مُخَالِفٌ لِمَا فَسَّرَ بِهِ الآيَةَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا ابْنُ عَمِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِتَرْجُمَانِ الْقُرْءَانِ وَالرَّسُولُ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ بِفَهْمِ الْقُرْءَانِ فَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ الْمُجَلَّدِ الأَوَّلِ صَحِيفَة 25 بَابُ قَوْلِ النَّبِىِّ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ الْتَزَمَهُ وَقَالَ «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ» وَقَالَ أَيْضًا «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِى الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» أَىْ تَفْسِيرَ الْقُرْءَانِ وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَمُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا مِنْ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ وَهَذَا نَصُّهُ فِى صَحِيفَةِ 313 مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِى «أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ سُلَيْمَانَ الْمُوصِلِىُّ ثَنَا عَلِىُّ بنُ حَرْبٍ ثَنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسَ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِنَّهُ لَيْسَ بِالْكُفْرِ الَّذِى يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ إِنَّهُ لَيْسَ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ ﴿وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ إهـ.

   وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ نَظِيرُهُ الرِّيَاءُ فَإِنَّ الرَّسُولَ سَمَّاهُ الْشِرْكَ الأَصْغَرَ أَىْ لَيْسَ الْشِرْكَ الأَكْبَرَ الَّذِى يَنْقُلُ عَنِ الِملَّةِ الَّذِى هُوَ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ هَذَا الشِّرْكَ هُوَ الَّذِى يَنْقُلُ عَنِ الِملَّةِ فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «اتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ» فَنَقُولُ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ أَثْبَتَ الْشِرْكَ الأَصْغَرَ كَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ فَسَّرَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ أَىْ لَيْسَ الْكُفْرَ الَّذِى يَنْقُلُ عَنِ الِملَّةِ فَرَضِىَ اللَّهُ عَنْ حَبْرِ الأُمَّةِ تَرْجُمَانِ الْقُرْءَانِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا.

   وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعَاصِىَ الْكَبَائِرَ كَقَتْلِ مُسْلِمٍ وَتَرْكِ الصَّلاةِ وَرَدَ أَنَّهُ كُفْرٌ فِى أَحَادِيثَ صَحِيحَةِ الإِسْنَادِ وَلَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ الْكُفْرَ الَّذِى يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ أَىْ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ إِنَّمَا مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ بِالْكُفْرِ كَالَّذِى وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ يَذْهَبُ إِلَى الْكُهَّانِ فَيُصَدِّقَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ مُرَادُ الرَّسُولِ أَنَّ الْمُسْلِمَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هَؤُلاءِ الْكُهَّانِ وَيُصَدِّقَهُمْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ إِنَّمَا مُرَادُ الرَّسُولِ أَنَّ هَذَا ذَنْبٌ كَبِيرٌ يُشْبِهُ الْكُفْرَ. وَقَالَ أَيْضًا «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» فَقَوْلُهُ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ لا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ كُفْرٌ يُخْرِجُ مِنَ الدِّينِ إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ ذَنْبٌ كَبِيرٌ يُشْبِهُ الْكُفْرَ لِأَنَّ الْقُرْءَانَ الْكَرِيمَ سَمَّى الْفِئَتَيْنِ الْمُتَقَاتِلَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [سُورَةَ الْحُجُرَات/9].

   ثُمَّ إِنَّهُ وَرَدَ فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ الصَّحَابِىِّ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ ﴿وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ وَالآيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا فِى إِحْدَاهُمَا ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وَفِى الأُخْرَى ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ نَزَلَتْ كُلُّهَا فِى الْكُفَّارِ أَىِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَيْسَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّمَا هِىَ فِى الْيَهُودِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ.

   وَفِى كِتَابِ أَحْكَامِ النِّسَاءِ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ مِثْلُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِيهِ مَا نَصُّهُ فِى صَحِيفَةِ 44 أَخْبَرَنِى مُوسَى بنُ سَهْلٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بنُ أَحْمَدَ الأَسْدِىُّ وَأَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ يَعْقُوبَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بنِ سَعِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ بِجُهْدِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الصَّلاةَ وَالصَّوْمَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالْجُمُعَةَ هَلْ يَكُونُ مُصِرًّا فِى مِثْلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»، وَمِنْ نَحْوِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ قُلْتُ فَمَا هَذَا الْكُفْرُ قَالَ كُفْرٌ لا يُخْرِجُ مِنَ الِملَّةِ فَهُوَ دَرَجَاتٌ بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ حَتَّى يَجِىءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ لا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِيهِ فَقُلْتُ لَهُ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ خَائِفًا مِنْ إِصْرَارِهِ يَنْوِى الْتَوْبَةَ وَيَسْأَلُ ذَلِكَ وَلا يَدَعُ رُكُوبًا أَىْ وَلا يَتْرُكُ فِعْلَ الْمَعَاصِى قَالَ الَّذِى يَخَافُ أَحْسَنُ حَالًا. انْتَهَى مَا فِى كِتَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.

   وَلَمْ يَصِحَّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنِ الصَّحَابَةِ فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ إِلَّا هَذَانِ التَّفْسِيرَانِ تَفْسِيرُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ وَتَفْسِيرُ الْبَرَاءِ وَعَلَى ذَلِكَ دَرَجَ عُلَمَاءُ الإِسْلامِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ الْهِجْرِىّ ثُمَّ ظَهَرَ هَذَا الرَّجُلُ سَيِّد قُطُب فِى مِصْرَ فَعَمِلَ تَفْسِيرًا لِلْقُرْءَانِ يُكَّفِرُ فِيهِ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ الْقُرْءَانِ وَلَوْ فِى مَسْئَلَةٍ وَاحِدَةٍ أَىْ مَعَ حُكْمِهِ بِالشَّرْعِ فِى سَائِرِ الأَحْكَامِ وَيُكَّفِرُ رَعِيَّةَ ذَلِكَ الْحَاكِمِ وَالْيَوْمَ لا يُوجَدُ فِى الْبِلادِ الإِسْلامِيَّةِ حَاكِمٌ إِلَّا وَيَحْكُمُ بِغَيْرِ الشَّرْعِ فِى قَضَايَا كَثِيرَةٍ مَعَ حُكْمِهِمْ فِى عِدَّةِ مَسَائِلَ بِالشَّرْعِ فِى الطَّلاقِ وَالْمِيرَاثِ وَالنِّكَاحِ وَالْوَصِيَّةِ يَحْكُمُونَ بِحُكْمِ الْقُرْءَانِ وَمَعَ هَذَا سَيِّد قُطُب وَأَتْبَاعُهُ يُكَفِّرُونَهُمْ وَيُكَفِّرُونَ رَعَايَاهُمْ وَيَسْتَحِلُّونَ قَتْلَهُمْ بِأَىِّ وَسِيلَةٍ اسْتَطَاعُوهَا بِالسِّلاحِ وَالتَّفْجِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ قَامَ مَعَهُمْ فَثَارَ عَلَى الْحُكَامِ. وَلَيْسَ لِسَيِّد قُطُب سَلَفٌ فِى ذَلِكَ إِلَّا الْخَوَارِج فَإِنَهُمْ كَانُوا يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمَ لِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ كَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْحُكْمِ بِغَيْرِ الشَّرْعِ لِلرِّشْوَةِ أَوِ الصَّدَاقَةِ أَوِ الْقَرَابَةِ فَسَيِّد قُطُب كَانَ عَاشَ عَلَى الإِلْحَادِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَذَلِكَ بِاعْتِرَافِهِ ثُمَّ لَجَأَ إِلَى حِزْبِ الإِخْوَانِ الَّذِينَ كَانَ جَمَعَهُمُ الشَّيْخُ حَسَنُ الْبَنَّا رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ فِى حَيَاةِ حَسَنِ الْبَنَّا انْحَرَفَ سَيِّد قُطُب وَءَاخَرُونَ عَنْ مَنْهَجِهِ الَّذِى كَانَ مَنْهَجًا سَالِمًا لَيْسَ فِيهِ تَكْفِيرُ الْمُسْلِمِ إِذَا حَكَمَ بِغَيْرِ الشَّرْعِ فَعَلِمَ الشَّيْخُ حَسَنُ بِانْحِرَافِهِمْ فَقَالَ هَؤُلاءِ لَيْسُوا إِخْوَانًا وَلَيْسُوا مُسْلِمِينَ.

   وَقَدْ ذَكَرَ الدُّكْتُور مُحَمَّدُ الْغَزَالِىُّ وَكَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيْخِ حَسَنِ الْبَنَّا فِى كِتَابِهِ مِنْ مَعَالِمِ الْحَقِّ فِى صَحِيفَةِ 264 مَا نَصُّهُ «وَكَانَ الأُسْتَاذُ حَسَنُ الْبَنَّا نَفْسُهُ وَهُوَ يُؤَلِّفُ جَمَاعَتَهُ فِى الْعَهْدِ الأَوَّلِ يَعْلَمُ أَنَّ الأَعْيَانَ وَالْوُجَهَاءَ وَطُلَّابَ التَّسْلِيَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّذِينَ يَكْثُرُونَ فِى هَذِهِ التَّشْكِيلاتِ لا يَصْلُحُونَ لِأَوْقَاتِ الْجِدِّ فَأَلَّفَ مَا يُسَمَّى بِالنِّظَامِ الْخَاصِّ وَهُوَ نِظَامٌ يَضُمُّ شَبَابًا مُدَرَّبِينَ عَلَى الْقِتالِ كَانَ الْمَفْرُوضُ مِنْ إِعْدَادِهِمْ مُقَاتَلَةَ الْمُحْتَلِّينَ الْغُزَاةِ وَقَدْ كَانَ هَؤُلاءِ الشَّبَابُ الأَخْفِيَاءُ شَرًّا وَبِيلًا عَلَى الْجَمَاعَةِ فِيمَا بَعْدُ فَقَدْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَحَوَّلُوا إِلَى أَدَاةِ تَخْرِيبٍ وَإِرْهَابٍ فِى يَدِ مَنْ لا فِقْهَ لَهُمْ فِى الإِسْلامِ وَلا تَعْوِيلَ عَلَى إِدْرَاكِهِمْ لِلصَّالِحِ الْعَامِّ وَقَدْ قَالَ حَسَنُ الْبَنَّا فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا إِخْوَانًا وَلَيْسُوا مُسْلِمِينَ» اهـ.

   ثُمَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ انْفَتَنُوا بِتَفْسِيرِ سَيِّد قُطُب هَذَا وَعَمِلُوا عَلَى تَنْفِيذِهِ حَتَّى قَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا فِى مِصْرَ وَالْجَزَائِرِ وَسُورِيَا وَغَيْرِهَا مُعْتَبِرِينَ قَتْلَهُمْ لِمَنْ يُخَالِفُهُمْ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا فِى مَدِينَةِ حَلَب فِى سُورِيَا شَيْخًا كَانَ مُفْتِيًا عَلَى قَرْيَةٍ تَابِعَةٍ لِحَلَب تُسَمَّى عِفْرِينَ كَانَ يُخَالِفُهُمْ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِى الْمَسْجِدِ بَعْدَ صَلاةِ الْعِشَاءِ بَعْدَمَا انْصَرَفَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَبَقِىَ هُوَ وَرَجُلٌ ءَاخَرُ ثُمَّ صَوَّبُوا إِلَيْهِ الرَّصَاصَ فَرَمَى ذَلِكَ الشَّخْصُ نَفْسَهُ عَلَى الشَّيْخِ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ قَتَلُوا الشَّيْخَ وَهَذَا الشَّيْخُ يُسَمَّى الشَّيْخَ مُحَمَّدَ الشَّامِىَّ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا الْحُكْمُ بِغَيْرِ الْقُرْءَانِ إِمَّا لِرِشْوَةٍ وَإِمَّا لِقَرَابَةٍ أَوْ لإِرْضَاءِ ذَوِى النُّفُوذِ فَلَمْ يُكَفِّرْهُمُ الْمُسْلِمُونَ لِحُكْمِهِمْ بِغَيْرِ الْقُرْءَانِ إِنَّمَا اعْتَبَرُوهُمْ فَاسِقِينَ.

   ثُمَّ إِنَّ هَؤُلاءِ أَتْبَاعَ سَيِّد قُطُب يَتَفَنَّنُونَ فِى التَّعْبِيرِ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، قَبْلَ أَرْبَعِينَ عَامًا كَانُوا يُعْرَفُونَ بِاسْمَيْنِ حِزْبِ الإِخْوَانِ الْمُسْلِمِينَ فِى مِصْرَ وَغَيْرِهَا وَفِى لُبْنَانَ بِاسْمِ عِبَادِ الرَّحْمٰنِ ثُمَّ اسْتَحْدَثُوا اسْمًا ثَالِثًا عَامًّا وَهُوَ الْجَمَاعَةُ الإِسْلامِيَّةُ لِيَظُنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ دُعَاةٌ إِلَى حَقِيقَةِ الإِسْلامِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا وَوَاقِعُ حَالِهِمْ خِلافُ ذَلِكَ.

   (3) أَمَّا حِزْبُ التَّحْرِيرِ فَمِمَّا شَذُّوا بِهِ عَنِ الأُمَّةِ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ مَنْ يَمُوتُ دُونَ أَنْ يُبَايِعَ الْخَلِيفَةَ فَمِيتَتُهُ مِيتَهُ الْجَاهِلِيَّةِ أَىْ عُبَّادِ الأَوْثَانِ فَعَلَى قَوْلِهِمْ كُلُّ مُسْلِمٍ يَمُوتُ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ مِيتَتُهُ مِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ لِأَنَّهُ لا يُوجَدُ خَلِيفَةٌ مُنْذُ ذَلِكَ الزَّمَنِ أَمَّا الْخِلافَةُ الْعَامَّةُ الَّتِى تُدِيرُ شُؤُونَ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ فَقَدِ انْقَطَعَتْ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ. فَالْمُسْلِمُونَ فِى تَرْكِ نَصْبِ الْخَلِيفَةِ الْيَوْمَ لَهُمْ عُذْرٌ أَعْنِى الرَّعَايَا الرَّعَايَا لا يَسْتَطِيعُونَ الْيَوْمَ نَصْبَ خَلِيفَةٍ فَمَا ذَنْبُهُمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/286].

   وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا ضَلالًا قَوْلُهُمْ الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ الِاخْتِيَارِيَّةَ لَيْسَ الِاضْطِرَارِيَّةَ خَالَفُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ﴾ [سُورَةَ الزُّمَر/62] لِأَنَّ الشَّىْءَ يَشْمَلُ الْجِسْمَ وَعَمَلَ الْجِسْمِ وَقَوْلَهُ ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/3] وَقَوْلَهُ ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام] اللَّهُ جَعَلَ الصَّلاةَ وَالنُّسُكَ وَهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتَ وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَفْعَالِ الْعَبْدِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كُلًّا خَلْقًا لَهُ لا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِى ذَلِكَ أَىْ هُوَ أَبْرَزَ ذَلِكَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَاتُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ فِى الْوُجُودِ مِنْ جِسْمٍ وَحَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَلَوْنٍ وَتَفْكِيرٍ وَأَلَمِ وَلَذَّةٍ وَفَهْمٍ وَعَجْزٍ وَضَعْفٍ كُّلُّ ذَلِكَ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى لا غَيْر وَإِنَّمَا الْعِبَادُ يَفْعَلُونَ وَلا يَخْلُقُونَ وَهَذَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِى كَانَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الأَوَّلُ وَالْجُمْهُورُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى ذَلِكَ.

   وَمِنَ الآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لا يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ مُطْلَقًا الِاخْتِيَارِيَّةَ وَغَيْرَهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/17] مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَاتَلُوا فَقَتَلُوا، نَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ هَذَا الْقَتْلَ الَّذِى قَتَلَهُ الصَّحَابَةُ حَصَلَ لَكِنَّ قَتْلَهُمْ هَذَا لَيْسَ هُمْ خَلَقُوهُ بَلِ اللَّهُ خَلَقَهُ هُمْ فَعَلُوا مِنْ حَيْثُ الْكَسْبُ وَالظَّاهِرُ وَاللَّهُ خَلَقَهُ أَىْ أَوْجَدَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِثْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/17] نَفَى الرَّمْىَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالإِيجَادُ وَهُوَ الإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَىْ مَا خَلَقْتَ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّمْىَ الَّذِى حَصَلَ مِنْكَ بَلِ اللَّهُ خَلَقَهُ أَىْ هُوَ أَوْجَدَ ذَلِكَ الرَّمْىَ الَّذِى حَصَلَ مِنْكَ أَىِ اللَّهُ تَعَالَى نَفَى الرَّمْىَ مِنْ وَجْهٍ وَأَثْبَتَهُ مِنْ وَجْهٍ نَفَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّمْىُ مَخْلُوقًا لِلرَّسُولِ وَأَثْبَتَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَسْبُهُ أَىْ هُوَ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ خَلْقَهُ.

   فَمُخَالَفَةُ التَّحْرِيرِيَّةِ لِهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ صَرِيحَةٌ وَلِلآيَةِ الأُخْرَى أَشَدُّ تَصْرِيحًا. قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ «أَعْمَالُ الْعِبَادِ فِعْلٌ مِنْهُمْ وَخَلْقٌ لِلَّهِ» وَعَلَى هَذَا سَلَفُ الأُمَّةِ وَخَلَفُهُمْ وَمَا خَالَفَ هَذَا فَهُوَ خِلافُ كِتَابِ اللَّهِ وَخِلافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَقُولُ إِذَا قَفَلَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ «لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ نَصَرَ عَبْدَهُ وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ» جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَزْمَ الأَحْزَابِ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُمْ فِى الظَّاهِرِ حَصَلَ مِنْهُمْ هَزْمُ الْعَدُوِّ وَهَذَا أَبْيَنُ الْبَيَانِ. وَهُنَاكَ ءَايَاتٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ لا يَخْلُقُونَ أَعْمَالَهُمْ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/127] وَقَوْلِهِ ﴿وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ﴾ هَذَا إِذَا كَانَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَمَّا الْخَلْقُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ تَصْوِيرُ صُورَةٍ أَوِ افْتِرَاءُ الْكَذِبِ أَوِ التَّقْدِيرُ فَيَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إِلَى الْعِبَادِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى حَقِّ عِيسَى ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/110] فَإِنَّ مَعْنَى تَخْلُقُ هُنَا تَعْمَلُ صُورَةً لَيْسَ مَعْنَاهُ تُبْرِزُ الطَّيْرَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [سُورَةَ الْمُؤْمِنُون/14] مَعْنَى الْخَلْقِ فِى هَذِهِ الآيَةِ التَّقْدِيرُ لَيْسَ الْخَلْقَ بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ إِنَّمَا مَعْنَى الآيَةِ اللَّهُ أَحْسَنُ الْمُقَدِّرِينَ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [سُورَةَ الْعَنْكَبُوت/17] نَسَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ خَلْقَ الإِفْكِ أَىِ افْتِرَاءَهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ الإِفْكَ بِمَعْنَى الإِبْرَازِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَوُرُودُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ

وَلَأَنْتَ تَفْرِى مَا خَلَقْتَ                        وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِى

   أَىْ يَقُولُ الشَّاعِرُ لِمَمْدُوحِهِ أَنْتَ تُقَدِّرُ ثُمَّ تُنَفِّذُ وَبَعْضٌ غَيْرُكَ يُقَدِّرُ ثُمَّ لا يُنَفِّذُ.

   فَمِنْ بَابِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ الَّذِى فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ الإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلاءِ وَتَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ خَالَفَتْ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيَّامِ الصَّحَابَةِ إِلَى هَذَا الْعَصْرِ وَهُمْ جُمْهُورُ الأُمَّةِ، وَهَؤُلاءِ الشَّاذُّونَ شَرَاذِمُ قَلِيلَةٌ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ فَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ فِى جَامِعِهِ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ.

   ثُمَّ نَصِيحَتُنَا لِهَؤُلاءِ الْفِرَقِ الثَّلاثِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا عِلْمَ الدِّينِ مِنْ أَفْوَاهِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَيْسَ مِنْ مُؤَلَّفَاتِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَلا مِنْ مُؤَلَّفَاتِ سَيِّد قُطُب وَلا مِنْ مُؤَلَّفَاتِ تَقِىِّ الدِّينِ النَّبَهَانِىِّ بَلْ أَنْ يَقْرَؤُوا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ كُتُبَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرَةَ كَكِتَابِ الْبُخَارِىِّ الْمُسَمَّى خَلْقَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَكِتَابِ أَبِى جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىِّ الْمُسَمَّى بِـالْعَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ وَكِتَابِ تَفْسِيرِ الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ لِلإِمَامِ أَبِى مَنْصُورٍ عَبْدِ الْقَاهِرِ بنِ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِىِّ. فَإِنْ تَخَلَّيْتُمْ عَنْ عَقَائِدِكُمْ وَأَخَذْتُمْ بِهَذِهِ الْعَقَائِدِ اهْتَدَيْتُمْ وَإِلَى اللَّهِ تَرْجِعُ الأُمُورُ وَإِلَيْهِ الْمَآلُ وَالنُّشُورُ.