حديث عمران بن حصين، والرد على القائلين بأزلية العالم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين أما بعد فإن الله تبارك وتعالى خلق عباده وكلفهم ولم يخلقهم سدى فمما كلفهم به اعتقاد أن الله هو الموجود في الأزل وحده وما سواه وجد بعد عدم لا يستثنى في ذلك شىء دون شىء، فالعالم جنسه وأفراده محدث وعن ذلك أخبرنا رسول الله ﷺ بقوله: «كان الله ولم يكن شىء غيره» هذا الحديث ورد على سؤال سأله رسول الله بعض أهل اليمن، قالوا يا رسول الله جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر كيف كان، أي نسألك عن أول العالم فأجابهم بقوله: «كان الله ولم يكن شىء غيره وكان عرشه على الماء»، أجابهم بأهم مما سألوا، هم سألوا عن أول العالم، كيف كان بدء العالم، سألوا عن هذا فأجابهم أولا بما هو أهم من ذلك ثم أجابهم عن سؤالهم، أما الأمر الذي هو أهم من سؤالهم هو قوله ﷺ: «كان الله ولم يكن شىء غيره» أفادهم أن الأزلية لا تكون إلا لله، أفهمهم أن الموجود الذي لا ابتداء لوجوده هو الله فقط، هذا الأمر الأهم من سؤالهم، سؤالهم كان عن أول العالم ثم هو عليه الصلاة والسلام أجابهم أولا بما هو أهم.
ولا يشاركه في ذلك شىء غيره ، فلا تصح الألوهية مع سبق شىء غير الله تبارك وتعالى بحيث يكون ذلك الشىء الذي هو غير الله أزليا كما أن الله أزلي، هذا ينافي إثبات الألوهية لأن إثبات شىء غير الله تعالى في الأزل ينافي إثبات الألوهية لله تعالى، لأن معنى الألوهية الوجود بلا ابتداء، لأنه لما كان وجود الله أزليا لا ابتداء له صح أن يكون هو الإله للعالم، ولو كان هناك شىء يشارك الله في الوجود الأزلي لم تصح الألوهية لله. فعلم من هذا أن من أثبت الألوهية لغير الله لم يؤمن بألوهية الله، لأن الألوهية من خصائصها الأزلية، فالله تعالى لو لم يكن في الأزل وحده بأن كان يشاركه بالوجود في الأزل غيره لم يكن إلها، لأنه لكان مثل ذلك الغير الذي كان موجودا معه في الأزل، فلو كان الأمر كذلك لكان هو أزليا وهذا الغير كان أزليا فمن أين يختص وينفرد الله بالألوهية، لا تصح الألوهية له لو كان الأمر كذلك، لكنه هو منفرد بالوجود الأزلي لم يكن في الأزل معه شىء لا جنس العالم ولا أفراد العالم.
الحديث المعروف بحديث عمران بن الحصين المروي بهذا اللفظ في البخاري في كتاب بدء الخلق والمروي في صحيح أبي بكر بن الجارود وفي كتاب «الأسماء والصفات» للبيهقي وكتاب «الأسماء والصفات» لأبي منصور البغدادي التميمي وغير ذلك من كتب الحديث صريح في أنه لم يكن في الأزل شىء غير الله لا جنس العالم ولا أفراد العالم، هذا الاعتقاد الذي كان عليه الرسول والصحابة ثم من تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا فمن زاغ عن هذا فهو ضال خارج عن الإسلام، والذين خرجوا عن هذا المعنى فريقان فريق يقولون العالم بمادته وصورته أزلي، هؤلاء كانوا قبل البعثة.
ثم بعض من انتسب إلى الإسلام تبعهم كابن سينا وجماعته فهؤلاء على هذا المعتقد أن العالم بمادته وصورته أزلي، وهناك طائفة انتسبوا إلى الإسلام واعتقدوا ما اعتقده بعض الفلاسفة الذين كانوا لا ينتسبون إلى الإسلام وافقوهم فقالوا نوع العالم أزلي، أما أفراده أي أشخاصه حادثة وكلاهما خارجان عن الإسلام لأنهما اشتركا في جعل الألوهية لغير الله تعالى.
كلمة “الغير” تقطع ألسنة هؤلاء المموهين يقال لهم أنتم تقولون نوع العالم لم يزل مع الله أي أنه أزلي كما أن الله أزلي فهذا هو عين الله أم غير الله، فإن قالوا عين الله فقد كفروا، وإن قالوا هو غير الله كفروا لاعتقادهم أنه كان مع الله في الأزل أي أن الله لم يحدثه بل موجود بلا ابتداء كما أن الله موجود بلا ابتداء، أما الجواب على سؤالهم فهو قوله ﷺ: «وكان عرشه على الماء» أي حدث ووجد عرشه على الماء، أي أن هذين أول ما أبرزه الله من العدم إلى الوجود، هذان أول العالم وجودا خلقهما الله تعالى قبل غيرهما من أفراد العالم.
في هذا الحديث ما ذكر أن الماء أصل العرش وغيره من أفراد العالم، لكنه في حديث ءاخر صحيح جاء ذلك، وهذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شيء، قال: «إن الله تعالى خلق كل شىء من الماء» رواه البيهقي في شعب الإيمان.
(طابت نفسي أي فرحت نفسي، وقرت عيني أي استراحت عيني.)
هذا الحديث مفصل أما حديث عمران بن الحصين «وكان عرشه على الماء» ليس مفصلا بالنسبة لهذا المعنى، إلا أن حديث عمران فيه الإخبار بأن أول ما دخل في الوجود من العالم الماء والعرش وليس فيه بيان أولهما لكنه يوجد فيه بطريق الإشارة لا بطريق التصريح أولية الماء أي أسبقيته على العرش حيث قال: وكان أي وجد عرشه أي عرش الله على الماء، هذا فيه إعلام بأن الماء كان سبق العرش بالوجود، في الأزل لم يكن شىء إلا الله ثم خلق الماء ثم خلق العرش من الماء. لكن العرش بعد ذلك انفصل عن الماء فبين الماء والعرش فضاء، فراغ، والعرش محفوف بالملائكة الذين خلقوا بعد ذلك بزمان يعلمه الله تبارك وتعالى.
حديث أبي هريرة هذا أبين في إفادة أسبقية الماء على العرش وغيره من العالم وأنه أصل العالم، منه خلق كل شىء، من الأشياء ما خلق من الماء بلا واسطة ومن الأشياء ما خلق من الماء بواسطة أو أكثر من واسطة أي بوسائط، كلمة كان تفيد معنيين، كان تستعمل لإفادة الأزلية وتستعمل لإفادة الحدوث، كان الأولى أي قوله: «كان الله» هذه للأزلية أي لم يزل موجودا ليس بمعنى حدث.
وهكذا ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قول الله تعالى: {وكان الله غفورا رحيما} 96 سورة النساء.ونحو ذلك مما ورد في القرءان، قال: لم يزل غفورا رحيما، المعنى أن الله تعالى لم يتصف بصفة المغفرة والرحمة بعد أن لم يكن كذلك، لا، هو لم يزل كذلك قبل أن يحدث الخلق، هو كان غفورا قبل أن يحدث الخلق وكان رحيما.
ليس معنى{وكان الله غفورا رحيما} كان غفورا رحيما ثم انتهى، كما يقال كان زيد قائما ثم جلس أو اضطجع، ليس على هذا المعنى، إنما معناه الدوام والثبوت بلا ابتداء، أي كان الله تعالى متصفا بذلك في الأزل ولا يزال متصفا بذلك لأن الله تبارك وتعالى لما كان واجب الوجود أي أزلي الوجود وجب أن يكون وجوده بلا انتهاء وكذلك جميع صفاته.
فصفاته تعالى أزلية بأزلية الذات باقية ببقاء الذات أي أن صفاته تعالى أزلية أبدية كما أن ذاته أزلي أبدي إنما ءاثار الصفات من المخلوقات والمحدثات وأحوال العباد حركاتهم وسكونهم هي الحادثة هي ءاثار الصفات، بقدرة الله ومشيئته وعلمه وتقديره وجدت الكائنات الحادثة فهي متصفة بالحدوث، أما صفة الله تعالى التي كان بها حدوث هذا العالم فأزلية.
الله تعالى متصف بقدرة أزلية أبدية وهذه الحادثات من ءاثار تلك القدرة الأزلية الأبدية وهكذا جميع مرادات الله تعالى، كل ما تعلقت به قدرة الله ومشيئته حادث، أما قدرة الله تعالى ومشيئته فهما أزليتان أبديتان.
قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شىء} 30 سورة الأنبياء . ليس لتخصيص الأشياء الحية من حيث نشؤها بكونها ناشئة من الماء إنما الله تعالى ذكر الأشياء الحية أخبرنا في هذه الآية بأن الأشياء الحية أصلها الماء، وإنما خصص الأشياء الحية بالذكر لشرفها على غيرها، الأشياء الحية منها الإنسان والملائكة والجن فهؤلاء أشرف من الجمادات ، أما من حيث كون الماء أصل الجميع فلا فرق، فالماء أصل الجمادات كما أنه أصل الأشياء الحية كالإنسان والملائكة والجن. حتى النار والنور كل هذا من الماء.
خص الله تعالى الحي بالذكر هنا لشرفه فقط لا لأن الماء أصل للأشياء الحية فقط دون الجمادات، الله تعالى يخص بعض الأشياء بالذكر مقرونة بشىء لإفادة شرف ذلك الشىء مع أن غير ذلك الشىء مثله في ذلك الحكم الذي يجري عليه، قال الله تعالى: {ذو العرش المجيد} 15 سورة البروج . أي الله تعالى هو ذو العرش أي الذي ملكه، خلقه وهو خالق كل شىء لكنه خص العرش بالذكر لإفادة أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات مساحة وامتدادا هو ربه، فهو رب ما سوى ذلك بطريق الأولى كهذه الأرض وما عليها وهذه السماوات وما فيها، هو رب ذلك كله.
يوجد ماء كثير تحت العرش، لكن بعد أن ينزل من ذلك الماء شىء إلى ما تحته يتغير، لا يبقى على صفته يتطور إلى صفة أخرى، وكذلك أشياء أنزلها الله تعالى من الجنة تطورت وتغيرت بعد خروجها من هناك، الحجر الأسود ومقام إبراهيم كانا ياقوتتين من يواقيت الجنة، كانتا مضيئتين بحيث تغلبان نور الشمس لكن الله طمس ذلك النور، فعادا كبعض أحجار الأرض هذه، الآن لا ترى لهما لمعانا ولا نورا إنما هما كسائر الأحجار.
هذا الحديث هو الأصل في هذا الباب والرواية الأخرى: «كان الله ولم يكن شىء قبله» وهي رواية البخاري في كتاب التوحيد الذي هو ءاخر الكتاب. هذه الرواية ترد إلى رواية كتاب بدء الخلق: «كان الله ولم يكن شىء غيره» ليست هذه تحمل على هذه، تخرج عن معناها، لأن هذا الحديث صريح في أنه لم يكن في الأزل شىء ما إلا الله. وهذا هو المعنى الوارد في القرءان قال الله تعالى:{هو الأول}3 سورة الحديد.أي الموجود بلا ابتداء الذي هو موجود قبل كل شىء، أما رواية كتاب التوحيد في البخاري كان الله ولم يكن قبله شىء فهي توهم أن الله تبارك وتعالى لم يسبق بالوجود كل شىء بل إنما هو موجود من غير أن يسبقه شىء أي فيحتمل أن يكون معه موجود مقارن له في الوجود لم يسبقه الله في الوجود، وهذا المعنى فاسد، لكن هذه الرواية تؤول، بالتأويل ترجع إلى موافقة رواية بدء الخلق: «كان الله ولم يكن شىء غيره» لا تضاده، أما أن يتعلق بظاهرها فيقال كان مع الله في الأزل نوع العالم فهذا إلحاد وكفر، ابن تيمية هكذا يقول. والآية تؤيد هذه الرواية، وكذلك توجد رواية لهذا الحديث أوردها البيهقي وهي: «كان الله قبل كل شىء».
الفلاسفة يقولون : “ما من حادث إلا وقبله حادث” وهذا الكلام يبطله قول رسول الله: «كان الله ولم يكن شىء غيره». والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي وآله، والله أعلم.