تنزيه الله عن مشابهة الخلق، وشرح بعض عبارات الطحاوي
(11) الحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وجميع إخوانه الأنبياء والمرسلين وآل كل والصالحين.
وبعد فإن تعلم التنزيه أي تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق في ذاته وصفاته وأفعاله أهم أمور الدين ولا يستهين بذلك إلا ذو قلب معكوس وفهم منحوس، ولما ظهر من إخواننا تعلم التنزيه صار بعض سخفاء العقول يشنعون عليهم، فمنهم من يقول في التشنيع علينا: لا خير في أن يقال الله تعالى سميع بلا أذن بصير بلا حدقة بل لا ينبغي أن يزاد على أنه سميع وبصير ، وهذا جهل منهم ولا يوافقهم على ذلك محصل في علم الدين، والدليل على ذلك بعد قول الله تعالى:{ليس كمثله شىء} ما قال كثير من السلف في عباراتهم، هذا الإمام أبو حنيفة الذي كان من الصدر الأول بعد الصحابة لأنه توفي سنة مائة وخمسين هجرية يذكر في مؤلفاته أن الله تبارك وتعالى متكلم بكلام هو له صفة ليس بحروف وأصوات، فلم يعب عليه أحد من علماء السلف، ما قالوا له إن الرسول لم يقل هذا اللفظ ولا ثبت عن أحد من أصحابه فكيف تقول هذا، والجواب عمن يورد هذا الإيراد أن يقال له إن الصحابة ما كان في أيامهم أناس ينسبون إلى الإسلام ويقولون عن الله تبارك وتعالى له جوارح، له عين بمعنى الجارحة أي حدقة وله سمع بمعنى الأذن إنما حدث ذلك بعد الصحابة فكان الحاجة إلى كسر ضلال هؤلاء بتبيين العقائد الصحيحة مع نوع من البيان للتنزيه أي تنزيه الله تبارك وتعالى عن أن يكون سمعه كسمع غيره وبصره كبصر غيره، وذلك لكثرة البدعيين بعد الصحابة المنتسبين إلى الإسلام فتعليم هذا ضروري لا بد منه.
هؤلاء قالوا حيث إنه ورد في القرءان الكريم إنه سميع فسمعه إذا كما نحن نسمع له جارحة يسمع بها وهو بصير ببصر هو جارحة قاسوا الخالق على المخلوق فضلوا وهم لا يشعرون، فخرجوا بذلك عن قوله تعالى: {ليس كمثله شىء} لأن قياس الخالق على المخلوق تنفيه هذه الآية من حيث النقل، والعقل ينفيه.
الإمام مالك توفي بعد أبي حنيفة بنحو سنة، وهذا الإمام الصوفي الزاهد الناسك العالم المحدث ذو النون المصري كان ممن أخذ العلم عن مالك وكان يسمى ثوبان بن إبراهيم أبا الفيض، أما ذو النون فلقب له قال مقالته المشهورة في التنزيه: «مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك» هذا هو عين العمل بقول الله تعالى {ليس كمثله شىء}
هذا سيدنا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وجزاه الله عن المسلمين خيرا كان في أيامه عالم من علماء أهل السنة ألف هذه العقيدة (المسماة بالعقيدة الصلاحية) باسم صلاح الدين فأهداها إليه وفيها هذا الكلام الذي نحن نقرره أن الله تعالى سمعه ليس بجارحة وبصره ليس بجارحة وأن كلامه الذاتي ليس بحرف وصوت، بل في هذا الكتاب تشبيه هؤلاء الذين يعتقدون أن الله يتكلم بحرف وصوت كما نحن نتكلم بالحمير، الآن أتلو عليكم منه، أولا أسمعكم الديباجة الخطبة.
يقول المؤلف، وهو محمد بن هبة البرمكي ألف هذا الكتاب سنة ستمائة وسبعين:
أفتتح المقال بسم الله |
| وأكل الأمر إلى الإله |
يعني أحسن ما قيل في الاعتقاد أذكر فيها.
جمعتها للملك الأمين |
| الناصر الغازي صلاح الدين |
وكان سيدنا صلاح الدين قرر تدريس هذه العقيدة في المدارس حتى للصبيان، ليس للكبار فقط. يقول:
وصانع العالم ذو كلام |
| أوصل معناه إلى الأفهام |
معناه عين كلام الله الذاتي الذي هو صفته الأزلية الأبدية لا يحل في المصحف ولا في صدور التالين القارئين للقرءان.
ويمنع المحدث أن يمسه |
| أو يسبغ الطهر الصحيح نفسه |
يقول: شنع على هؤلاء الذين يقولون: إن الله ينطق بالحرف والصوت كما نحن ننطق.
إذ عددوا القديم في المصاحف |
| وجعلوا حديثها كالسالف |
يعني من جماعته سمع ألفاظا فهو يعيد ويكررها، جماعته هم المشبهة.(والعير يطلق على الحمار الوحشي وعلى الحمار الأهلي)
روى الإمام المجتهد الحافظ أبو بكر بن المنذر عن الشافعي أنه قال: «لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما عدا الشرك خير له من أن يلقاه بشىء من الأهواء» الأهواء مذاهب أهل الضلال المنشقين عن أهل السنة يقال لها الأهواء، عقيدة الخوارج يقال لها الأهواء، هذه التي عناها الشافعي. معنى كلام الشافعي أن الذي يموت على عقيدة من عقائد أهل الأهواء فهو هالك خاسر، كل الذنوب أهون من ذلك. العرب قديما كان إذا ذكر أمامهم قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} يفهمون أن معنى استوى هنا قهر، ثم لما يسمعون قوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} يزدادون تأكدا لهذا المعنى.
بعض المشبهة أحدهم إذا أراد أن يستزل شخصا من التنزيه إلى التشبيه يقول: ماذا تقول في حديث الجارية، حديث الجارية هذا في مسلم والبيهقي وغيره من عدة كتب من كتب الحديث، هؤلاء حملوه على غير مراد الرسول، أما المعنى الحقيقي لهذا الحديث فلا يخالف تنزيه الله عن المكان والحد والأعضاء، والحديث هو أن رجلا جاء فقال: يا رسول الله إن لي جارية ترعى لي غنما فجاء ذات يوم ذئب فأكل شاة فغضبت فصككتها أي ضربتها على وجهها قال: أريد أن أعتقها إن كانت مؤمنة، فقال: «ائت بها»، فأتى بها فقال لها الرسول: «أين الله؟» فقالت: في السماء، وفي رواية فأشارت إلى السماء، فقال: «ومن أنا» قالت: أنت رسول الله، أو أشارت لذلك، فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة».
هذا الحديث المشبهة يحتجون به ويزلقون الناس به بإيراد هذا الحديث يزلقون الناس يخلونهم يعتقدون أن الله ساكن السماء أن له حيزا وجهة ومكانا، فإذا لم يكن الشخص عنده فهم ينزلق معهم، أما الذي عنده فهم يقول لهم “أين” تأتي للسؤال عن المكان وهو الأكثر وتأتي للسؤال عن القدر، فالرسول ﷺ أراد بقوله أين الله أن يسألها عن عظمة الله تبارك وتعالى في اعتقادها فلما قالت في السماء هي أرادت أنه رفيع القدر جدا والرسول فهم ذلك من كلامها، أنها تعني ذلك ما فهمت هي ما تقولونه من أن الله له مكان ولا الرسول أقرها على فهمها أن لله تعالى مكانا، ارجعوا خاسئين، فنحن نقول للمشبهة ارجعوا خاسئين، ثم يقال لهم لو كان الأمر كما تدعون من حمل ءاية استوى على ظاهرها وحمل حديث الجارية على ظاهره لتناقض القرءان بعضه مع بعض والحديث بعضه مع بعض، القرءان فيه {الرحمن على العرش استوى} وفيه {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} وفي الحديث الذي رواه مسلم وغيره: «إذا تصدق العبد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب([1])، فإنها وقعت في كف الرحمٰن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه([2]) حتى تكون مثل الجبل».
(معناه إذا تصدق العبد بصدقة من حلال ولا يقبل الله إلا الحلال تقع في كف الرحمن أي تقع موضع القبول، وأما قوله فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى تصبح كالجبل العظيم فمعناه أن الله تعالى يضاعف حسنات هذه الصدقة حتى تكون كالجبل العظيم أي كأنه تصدق بقدر جبل من الصدقة، وأما المال المشبوه فليس فيه هذا الفضل العظيم، وأما الفلو فهو ولد الفرس.)
كيف توفقون بين هذا الحديث وحديث الجارية وبين ءاية {الرحمن على العرش استوى} وآية {فأينما تولوا فثم وجه الله} (115)سورة البقرة. فإما أن تجعلوا القرءان مناقضا بعضه لبعض والحديث مناقضا بعضه لبعض، فإن فعلتم ذلك فهذا اعتراف بكفركم لأن القرءان ينزه عن المناقضة والحديث حديث الرسول ينزه عن المناقضة، فإن قالوا {فأينما تولوا فثم وجه الله}هذه تؤول لا نحملها على ظاهرها بل نقول {فأينما تولوا} أي أي جهة تستقبلون في صلاة النفل صلاة السنة في السفر {فثم وجه الله} أي فثم قبلة الله، يقال لهم أولتم ما حملتم الآية على ظاهرها، وهناك إذا أول إنسان حديث الجارية تحاربونه تقولون له التأويل لا يجوز.
القهر صفة من صفات الله ليس نقصا على الله هو قال: {وهو القاهر فوق عباده} وسمى نفسه القهار، ليس نقصا على الله إذا قلت {الرحمٰن على العرش استوى} أي قهر.
في القاموس وشرحه أن كلمة المولى لها واحد وعشرون معنى من جملتها متولي الأمور، متولي الأمور على الإطلاق هو الله هو الذي يتولى أمور العالم بأسره على الإطلاق فلا مولى بهذا المعنى إلا الله، أما إذا أريد بالمولى المتصرف التصرف النسبي فيقال لغير الله الملك والسلطان يقال لهما مولى البلاد لأنهما يتوليان أمور البلاد يتصرفان فيها، والمحب يقال له مولاي إذا قلت مولاي لرجل يحبك هذا إطلاق لغوي صحيح فصيح ما فيه نقص، الشخص الذي يحبك يقال له لغة مولاك والقريب يقال له مولى قال الشاعر:
لك العز إن مولاك عز وإن يهن(1) فأنت لدى بحبوحة الهون كائن
(قال الجوهري في الصحاح: والهون بالضم: الهوان. وأهانه: استخف به، والاسم الهوان والمهانة. يقال: رجل فيه مهانة، أي ذل وضعف. واستهان به وتهاون به استحقره)
لك العز إن مولاك أي قريبك، عز إن عز قريبك فأنت عزيز هكذا يقول الشاعر الجاهلي الفصيح سليقة الذي كان يتكلم سليقة ليس من دراسة النحو.
معرفة لغة العرب كما ينبغي واجب، فرض على المسلمين، شغلوكم عن هذا بهذه العلوم الفاسدة التي منها هذا المفهوم الذي يوقع الناس في الضلال، يخرج من الإسلام، العبد المعتق يقال له مولى وسيده الذي أعتقه يقال له مولى.
بالمناسبة نعود إلى فصل نفي التشبيه الذي هو شرح لهذه الجملة: “ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر”، قال الشارح القونوي النسفي: فصل في نفي التشبيه قوله ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر يعني ومن وصف الله تعالى بوصف من أوصاف البشر المحدثة فقد كفر لإثباته المماثلة بينه تعالى وبين خلقه وتلك منفية بالنص وهو قوله تعالى:{ليس كمثله شىء}
{ ليس كمثله شىء} وقوله أي الطحاوي: فمن أبصر هذا اعتبر وعن مثل قول الكفار انزجر وعلم أن الله تعالى بصفاته ليس كالبشر.
يقول الشارح: فقوله هذا إشارة إلى قوله ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر. وقوله اعتبر أي اعتبر نفسه بالكفار والقائلين بالمماثلة المستحقين لسقر ليكف عن مثل ذلك القول لئلا يلزمه ما لزمهم من العذاب أي لئلا يكون مثلهم في الآخرة من أهل الجحيم، العذاب المقيم الدائم لذلك فليحذر التشبيه، ليس أمرا هينا عند الذين يفهمون دين الله تشبيه الله أي اعتقاد أن له أعضاء، اعتقاد أن له أدوات لسانا وأضراسا ولهوات، يوجد من يعتقد هذا في المشبهة، حتى إنه وجد بدعي مشبه من هذه الطائفة الخبيثة في مكة المكرمة فقال هو على المنبر بدأ ينزل وقال إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كنزولي هذا وهو ينزل من المنبر وهذا الشخص كان يقال له عبد الله بن الحسن.
قال المؤلف: ويجب عليه أن يعلم ويتيقن أن الله تعالى بصفاته ليس كالبشر بصفاتهم لأن صفاته تعالى قديمة وصفاتهم حادثة ولا مشابهة بين القديم والحادث إذ القديم ما لا ابتداء لوجوده والحادث ما لوجوده ابتداء.
وكأنه أراد بالبصر في قوله أبصر هذا بصر القلب لا بصر العين معناه من نظر بقلبه إلى المعنى الصحيح ينزه الله عن المشابهة أما من كان أعمى القلب فإنه لا ينزهه بل يقيسه على الخلق، يقيس الخالق على المخلوق بعضهم من شدة ضلالهم قالوا لا نثبت الرأس لله أما سوى ذلك من صدر وأنامل وأصابع وعين بمعنى الجارحة ورجل بمعنى الجارحة كل هذا نقبله قالوا الرأس يعني ما وجدوه ولا في رواية ضعيفة ولا صحيحة، قالوا هذا لا نقوله، هذا كلام أشياخ ابن تيمية ومنهم أخذ ابن تيمية هذا الاعتقاد حتى إنه أخذ إثبات الحركة لله تعالى قال كل حي متحرك فالذي لا يتحرك فهو ميت، لعنة الله عليه، هذا الكلام لا يقوله من عرف الله، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، هذا قبل ابن تيمية بمئات من السنين وهو نقله عن أهل الحق، ليس رأيه الخاص.
قال المؤلف: إذ المعاني لا تبصر بالعين كما في قوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} (2) سورة الحشر. ليس معناه يا أولي العيون التي هي حاسة ظاهرة لا يعني الله تعالى هذا لما قال: يا أولي الأبصار} ما عنى هذه بل عنى البصر القلبي، الفهم القلبي، ولهذا قال أهل الحق نصرهم الله إن الله سبحانه وتعالى ليس في جهة ولا بذي صورة لاختلاف الصور والجهات، واجتماع الكل مستحيل لتنافيها في أنفسها، الجهة العليا غير الجهة السفلى والجهة اليمنى غير الجهة اليسرى وجهة الأمام غير جهة الخلف، هي متنافية بعضها مع بعض فلا يصح اجتماعها فمن جعل الله في جميعها فقد أثبت المتنافيات، فقد جمع المتنافيات، ومن خصه بواحد منها فقد جعله مثل الأفراد من المخلوقات التي تختص بجهة من الجهات فوجب تنزيهه عن الجهات كما قال أبو جعفر الطحاوي” ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
قال الشارح رحمه الله: وليس بعض الجهات والصور أولى من البعض لاستواء الكل في إفادة المدح أو النقص وعدم دلالة المحدثات على الجهة والصورة، فتخصيص بعض الصور والجهات لا يكون إلا بمخصص. معناه لو قيل إن الله تعالى بجهة الفوق للزم من ذلك أن له مخصصا خصصه بتلك الجهة ولو قيل إنه تعالى بلون البياض للزم هذا الذي يقول هذا أن لله تعالى مخصصا خصصه بلون البياض بدل السواد والحمرة والشقرة والزرقة ونحو ذلك والمحتاج إلى المخصص مخلوق.
يقول ابن تيمية: “الله تعالى قاعد على الكرسي وقد ترك مكانا لسيدنا محمد يجلسه عليه معه”.
يا أرحم الراحمين لك الحمد ولك الثناء الحسن، اللهم قنا شر ما نتخوف وأجرنا من عذاب الآخرة، اللهم اجعلنا محسنين مخلصين مطيعين أوابين ذكارين لك شكارين والحمد لله رب العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن وصلى وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى ءاله وإخوانه الأنبياء والمرسلين. والله أعلم.
([2]) القلوص من الإبل بمنزلة الجارية من النساء وهي الشابة والجمع قلوص. المصباح المنير.