بَيَانُ (مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ)
(فَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِجْمَالًا) مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ (أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأَعْتَقِدُ) بِجَنَانِى (وَأُذْعِنُ) أَىْ تَرْضَى نَفْسِى بِمَا عَرَفْتُ[1] (بِقَلْبِى أَنَّ الْمَعْبُودَ بِحَقٍّ) أَىِ الْمُسْتَحِقَّ لِنِهَايَةِ التَّذَلُّلِ وَغَايَةِ التَّعْظِيمِ (هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ) وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِى مَعْنَى الشَّهَادَةِ الأُولَى وَالْقَوْلُ الثَّانِى هُوَ مَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَهُ الإِمَامُ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الِاعْتِقَادِ وَنُقِلَ عَنْ أَبِى مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِىِّ أَيْضًا أَنَّهُ الِاعْتِرَافُ بِاللِّسَانِ وَالإِذْعَانُ بِالْقَلْبِ أَنْ لا خَالِقَ لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ مُبْرِزًا لَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ حَجْمًا كَانَ أَوْ صِفَةً إِلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهَذَا يَقْتَضِى أَنْ لا يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ. قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا التَّفْسِيرُ أَحْسَنُ اﻫ.
(وَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأُذْعِنُ بِقَلْبِى أَنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا) أَىِ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِىَّ (صَلَّى اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى كَافَّةِ الْعَالَمِينَ مِنْ إِنْسٍ) أَىْ بَشَرٍ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ (وَجِنٍّ) لِيُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُبَشِّرَ مَنْ أَطَاعَ فَآمَنَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ وَيُنْذِرَ مَنْ أَعْرَضَ فَكَفَرَ بِالْعَذَابِ الأَلِيمِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ فِى سُورَةِ الْفُرْقَانِ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ فَالْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ فِى هَذِهِ الآيَةِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ وَلا دُخُولَ لِلْمَلائِكَةِ فِيهِمْ لِأَنَّهُمْ لا يَعْصُونَ اللَّهَ أَبَدًا وَلا يَخْتَارُونَ إِلَّا الطَّاعَةَ فَلا يَحْتَاجُونَ إِلَى الإِنْذَارِ. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صَادِقٌ فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى) لِلثَّقَلَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الأُمُورِ الَّتِى سَتَحْدُثُ فِى الْمُسْتَقْبَلِ أَمْ مِنْ أَخْبَارِ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَمْ مِنَ التَّحْلِيلِ أَمِ التَّحْرِيمِ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ (لِيُؤْمِنُوا بِشَرِيعَتِهِ وَيَتَّبِعُوهُ) فِى مَا جَاءَ بِهِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ لا يُخْطِئُ فِى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلٌّ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُدَعُ غَيْرَ نَبِىِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[2] اﻫ فَمَن عَرَفَ بِثُبُوتِ حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ فِى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ ثُمَّ رَدَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ مَهْمَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ لِأَنَّ رَدَّهُ تَكْذِيبٌ لِلَّهِ وَلِلنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَفَى بِذَلِكَ كُفْرًا.
(وَ)يَتَلَخَّصُ أَنَّ (الْمُرَادَ بِالشَّهَادَتَيْنِ نَفْىُ الأُلُوهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ وَإِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الإِقْرَارِ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهَذَا هُوَ الأَصْلُ الَّذِى لا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِهِ لِيَكُونَ الشَّخْصُ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَمَنْ حَصَّلَهُ وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ مَا يَزِيدُ عَلَيْهِ وَلا جَاءَ بِمَا يُنَاقِضُهُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوِ اعْتِقَادًا فَهُوَ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُصَدِّقُ بِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْعِبَادَةُ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهَا هِىَ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ أَوْ غَايَةُ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَهَذَا مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَتَعْرِفُهُ الْعَرَبُ فِى تَخَاطُبِهِمْ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالدِّينِ، وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ الْوَهَّابِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ الْعِبَادَةَ هِىَ الِاسْتِعَانَةُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالنِّدَاءُ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَاتَّخَذُوا ذَلِكَ بَابًا لِيُكَفِّرُوا مَنْ قَالَ مِنَ الأُمَّةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ فَهُوَ افْتِرَاءٌ ظَاهِرٌ وَأَمْرٌ انْفَرَدُوا بِهِ عَنِ الأُمَّةِ وَدَعْوًى بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ أَوْ مُسْلِمٌ فَزَعْمُهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الإِيمَانَ بِالنَّبِىِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطٌ لا بُدَّ مِنْهُ لِيَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ اللَّهِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) فِى سُورَةِ الْفَتْحِ (﴿وَمَنْ لَّمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾) أَىْ مَنْ لَمْ يَجْمَعِ الإِيمَانَ بِالنَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا هَيَّأَ اللَّهُ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ جَزَاءً فِى الآخِرَةِ (فَهَذِهِ الآيَةُ صَرِيحَةٌ فِى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ نَازَعَ فِى هَذَا الْمَوْضُوعِ يَكُونُ قَدْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ) وَكَذَّبَهُ (وَمَنْ عَانَدَ الْقُرْءَانَ كَفَرَ).
(وَ)كَذَلِكَ يَكْفُرُ مَنِ اتَّخَذَ دِينًا غَيْرَ دِينِ الإِسْلامِ فَقَدْ (أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ الإِسْلامِيُّونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ الإِسْلامِ) سَوَاءٌ كَانَ يُصَدِّقُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لا (وَعَلَى تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَقَّفَ) أَىْ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَلا بِالإِيمَانِ (كَأَنْ يَقُولَ أَنَا لا أَقُولُ إِنَّهُ كَافِرٌ أَوْ غَيْرُ كَافِرٍ) لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَرُدُّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ وَغَيْرَهَا مِنَ الآىِ.
(وَاعْلَمْ بِاسْتِيقَانٍ أَنَّهُ لا يَصِحُّ الإِيمَانُ وَالإِسْلامُ) مِنَ الْكَافِرِ (وَلا تُقْبَلُ الأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ) مِنْهُ (بِدُونِ الشَّهَادَتَيْنِ بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ مَا فِى مَعْنَاهُمَا[3] وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ) وَلا يُشْتَرَطُ لَفْظُ أَشْهَدُ بَلْ يَكْفِى لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ أَشْهَدُ أَقْوَى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَالِاعْتِرَافِ.
(وَيَكْفِى لِصِحَّةِ الإِسْلامِ النُّطْقُ مَرَّةً فِى الْعُمُرِ) بِالشَّهَادَةِ (وَيَبْقَى وُجُوبُهَا) بَعْدَ ذَلِكَ (فِى كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ).
وَ(هَذَا) أَىِ اشْتِرَاطُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِصِحَّةِ الإِسْلامِ مَحَلُّهُ (فِى مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ ثُمَّ أَرَادَ الدُّخُولَ فِى الإِسْلامِ) لا فِى وَلَدِ الْمُسْلِمِ. وَلْيُحْتَرَزْ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِمَا مِنْ إِبْدَالِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةِ بِأَنِ الْمُخَفَّفَةِ[4] لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ عِنْدَئِذٍ وَلا يَعُودُ فِيهِ إِقْرَارٌ بِانْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالأُلُوهِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ لا بُدَّ لِلدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ مِنَ الإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الِاعْتِقَادِ بِمَعْنَاهُمَا بِالْقَلْبِ وَقَدْ نَصَّ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَقَلَ الْحَافِظُ النَّوَوِىُّ الإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِالْمَرَّةِ قَوْلَ الْغَزَالِىِّ الَّذِى زَعَمَ أَنَّهُ يَكْفِى التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ لِيَكُونَ الإِنْسَانُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ إِمَامُ مَذْهَبِهِ الَّذِى يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ أَعْنِى الإِمَامَ الشَّافِعِىَّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. وَعِبَارَةُ النَّوَوِىِّ فِى شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِى النَّارِ بِالإِجْمَاعِ اﻫ أَىْ وَلَمْ يَنْطِقْ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ[5] وَقَالَ فِى مَوْضِعٍ ءَاخَرَ مِنْهُ[6] إِنَّ الإِيمَانَ شَرْطُهُ الإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ اعْتِقَادِهِمَا اﻫ وَقَبْلَهُ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَاضِى عِيَاضٌ فَقَالَ وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُرْتَبِطَةٌ بِالشَّهَادَتَيْنِ لا تَنْفَعُ إِحْدَاهُمَا وَلا تُنْجِى مِنَ النَّارِ دُونَ الأُخْرَى إِلَّا لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ لِآفَةٍ بِلِسَانِهِ أَوْ لَمْ تُمْهِلْهُ الْمُدَّةُ لِيَقُولَهَا بَلِ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ إِلَخ اﻫ وَنَقَلَهُ النَّوَوِىُّ عَنْهُ فِى شَرْحِ مُسْلِمٍ كَذَلِكَ فِى جُمْلَةِ كَلامٍ وَقَالَ عَقِبَهُ هَذَا ءَاخِرُ كَلامِ الْقَاضِى رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ فِى نِهَايَةِ الْحُسْنِ اﻫ وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِى وَبِمَا جِئْتُ بِهِ اﻫ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَىْ وَيَقُولُوا أَيْضًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الأُخْرَى[7] وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الشَّهَادَةُ الأُولَى فَقَطْ لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ ذِكْرَهَا يَتَضَمَّنُ فِى عُرْفِ الشَّرْعِ ذِكْرَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ ابْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمُ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اﻫ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى الْفَتْحِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لا يَكْفِى فِى الإِسْلامِ الِاقْتِصَارُ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى يُضِيفَ إِلَيْهَا الشَّهَادَةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَصِيرُ بِالأُولَى مُسْلِمًا وَيُطَالَبُ بِالثَّانِيَةِ اﻫ قَالُوا وَمَنْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ بِحَرْفِ الْحَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّ مُهَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بِالْهَاءِ يُقَالُ لَهُ قُلْ أَشْهَدُ أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ إِذْ هُوَ مُطَالَبٌ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ قَادِرٌ عَلَى الإِتْيَانِ بِهَا بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِى هُوَ صِنْوُ[8] اللَّفْظِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ لَوْ تَلَفَّظَ بِالْقَافِ مَعْقُودَةً كَمَا يَلْفِظُهَا أَهْلُ الْيَمَنِ صَحَّ تَشَهُّدُهُ بِذَلِكَ كَمَا يُفِيدُهُ كَلامُ الرَّمْلِىِّ فِى شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ وَالْقَاضِى زَكَرِيَّا فِى أَسْنَى الْمَطَالِبِ فِى مَبْحَثِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِى الصَّلاةِ. وَقَالَ بَعْضٌ ءَاخَرُ لَوْ قِيلَ لَهُ أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ صَحَّ إِسْلامُهُ. وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ حَالًا فِى الإِسْلامِ فَعَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِفَجْأَةِ مَوْتٍ أَوْ عِلَّةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾. وَالْخِلافُ الْمُتَقَدِّمُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْغَزَالِىِّ وَمَنْ تَبِعَهُ هُوَ فِى مَنْ لَمْ تُعْرَضْ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَانِ فَيَأْبَى أَمَّا مَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَتَانِ فَأَبَى فَهُوَ كَافِرٌ اتِّفَاقًا لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى أَبِى طَالِبٍ فَأَبَى مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِقَلْبِهِ فَلَمَّا تُوُفِّىَ جَاءَ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِىِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فَقَالَ إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ وَفِى رِوَايَةٍ الشَّيْخَ الْكَافِرَ فَقَالَ اذْهَبْ فَوَارِهِ اﻫ أَىْ فَادْفِنْهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِى كُفْرِ الآبِى الْمُمْتَنِعِ.
(وَأَمَّا مَنْ) وُلِدَ مُسْلِمًا وَ(نَشَأَ عَلَى الإِسْلامِ وَكَانَ يَعْتَقِدُ) مَعْنَى (الشَّهَادَتَيْنِ) عِنْدَمَا صَارَ مُكَلَّفًا (فَلا يُشْتَرَطُ فِى حَقِّهِ النُّطْقُ بِهِمَا) عِنْدَئِذٍ (بَلْ هُوَ مُسْلِمٌ) مُؤْمِنٌ وَ(لَوْ لَمْ يَنْطِقْ) بِهِمَا إِلَى أَنْ مَاتَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ حُكِمَ لَهُ بِالإِسْلامِ بِالتَّبَعِيَّةِ لِوَالِدِهِ فَلَمَّا بَلَغَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَلا يَخْرُجُ مِنَ الإِسْلامِ بَلْ يَسْتَمِرُّ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالإِسْلامِ وَلَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ بِلِسَانِهِ لَكِنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّشَهُّدِ إِثْمًا كَبِيرًا وَسَتَأْتِى زِيَادَةُ بَيَانٍ لِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
(وَ)أَرَادَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَأْكِيدَ مَا سَبَقَ فَقَالَ (قَالَ) رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) اﻫ هَذَا (حَدِيثٌ قُدْسِىٌّ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ وَأَوْلَى وَأَهَمُّ مِنَ النَّفْلِ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الأَفَاضِلِ مَنْ شَغَلَهُ الْفَرْضُ عَنِ النَّفْلِ فَهُوَ مَعْذُورٌ وَمَنْ شَغَلَهُ النَّفْلُ عَنِ الْفَرْضِ فَهُوَ مَغْرُورٌ اﻫ (وَأَفْضَلُ وَأَوَّلُ فَرْضٍ هُوَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) لِحَدِيثِ الْبُخَارِىِّ حِينَ سُئِلَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ فَقَالَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اﻫ (وَ)لا بُدَّ مِنْ قَرْنِ الإِيمَانِ بِالرَّسُولِ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ فَإِنَّ (اعْتِقَادَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَطْ لا يَكْفِي مَا لَمْ يُقْرَنْ بِاعْتِقَادِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) كَمَا (قَالَ تَعَالَى) فِي سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ (﴿قُلْ﴾) أَىْ يَا مُحَمَّدُ (﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾) أَىْ بِالإِيمَانِ بِهِمَا (﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾) أَىْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ (﴿فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ أَىْ) فَهُمْ كُفَّارٌ وَ(لا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى عَنِ الإِيمَانِ) فَكَفَرَ (بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِكُفْرِهِمْ) وَلَوْ أَحَبَّهُمْ لَرَزَقَهُمُ الإِيمَانَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يُعْطِى الْمَالَ لِمَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لا يُحِبُّ وَلا يُعْطِى الإِيمَانَ إِلَّا لِمَنْ يُحِبُّ اهـ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (وَالْمُرَادُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِى هَذِهِ الآيَةِ الإِيمَانُ بِهِمَا) كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الطَّبَرِىُّ وَالْبَغَوِىُّ وَالْخَازِنُ وَأَبُو حَيَّانَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِى حَاتِمٍ فِى تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ (فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُحِبُّهُ لِكُفْرِهِ) مَهْمَا حَسُنَ خُلُقُهُ وَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ فَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ جُدْعَانَ يَقْرِى الضِّيفَانَ وَيُحْسِنُ إِلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ فَلَمَّا مَاتَ قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ابْنَ عَمِّى عَبْدَ اللَّهِ بنَ جُدْعَانَ كَانَ يَقْرِى الضِّيفَانَ وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فِى الآخِرَةِ شَيْئًا فَقَالَ لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ اﻫ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ أَىْ إِنَّهُ كَانَ كَافِرًا لا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلا تَنْفَعُهُ أَعْمَالُهُ الْحَسَنَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْئًا (فَمَنْ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لِأَنَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ فَيُقَالُ لَهُ اللَّهُ خَلَقَ الْجَمِيعَ لَكِنْ لا يُحِبُّ الْكُلَّ) كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ حِبَّانَ مَرْفُوعًا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ الَّذِى يُدَهْدِهُهُ أَىْ يُدَحْرِجُهُ الْجُعَلُ بِأَنْفِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلاءِ الْمُشْرِكِينَ اﻫ وَالْجُعَلُ دُوَيْبَّةٌ سَوْدَاءُ تُدَحْرِجُ الْقَذَرَ.
(4) الإِذْعَانُ مَعْنَاهُ رِضَا النَّفْسِ بِالشَّىْءِ الَّذِى عَرَفَتْهُ. مُصَنَّف.
(5) رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فِى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ.
(6) كَأَنْ يَقُولَ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبُو الْقَاسِمِ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ لا إِلَهَ إِلَّا الرَّحْمٰنُ مُحَمَّدٌ نَبِىُّ اللَّهِ أَوْ لا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ أَحْمَدُ رَسُولُ اللَّهِ.
(7) بِأَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ مِنْ أَنْ.
(8) كَمَا بَيَّنَهُ الرَّمْلِىُّ فِى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرُهُ. مُصَنَّف.
(9) انْظُرِ الصَّحِيفَةَ 212 مِنَ الْجُزْءِ الأَوَّلِ مِنْ طَبْعَةِ دَارِ إِحْيَاءِ التُّرَاثِ الْعَرَبِىِّ مِنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ.
(10) وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ دُونَ غَيْرِهَا لِلإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِى الإِسْلامِ بِغَيْرِ لَفْظِ أَشْهَدُ.