الثلاثاء أبريل 16, 2024

(الِاجْتِهَادُ وَالتَّقْلِيدُ)

 

   (الِاجْتِهَادُ هُوَ اسْتِخْرَاجُ الأَحْكَامِ الَّتِى لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا) أَىْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ نَبِىُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ قِسْمَانِ قِسْمٌ صَرِيحٌ لا يَحْتَمِلُ أَىَّ مَعْنًى ءَاخَرَ فَهَذَا لا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَفِى مِثْلِهِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بنُ الْمُنْذِرِ فِى كِتَابِ الأَوْسَطِ لَهُ إِذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ ارْتَفَعَ النَّظَرُ اﻫ وَقِسْمٌ تَتَجَاذَبُهُ الِاحْتِمَالاتُ فَهُوَ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَضْلًا عَنْ قَضَايَا تَحْصُلُ وَمَسَائِلَ تُطْرَحُ لَمْ يُذْكَرْ حُكْمُهَا تَصْرِيحًا فِى الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَلَمْ يَسْبِقْ فِيهَا إِجْمَاعٌ مِنَ الأُمَّةِ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَبْذُلُ وِسْعَهُ لِاسْتِخْرَاجِ حُكْمِهَا مُسْتَنِدًا عَلَى الأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِى الشَّرِيعَةِ وَعَلَى قَوَاعِدَ مَأْخُوذَةٍ مِنْهَا وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِى مَوْرِدِ النَّصِّ وَلا تَشَهِّيًا مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَمِنْ غَيْرِ بَذْلِ الْجُهْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِى ذَلِكَ. رَوَى الْبَيْهَقِىُّ فِى مَنَاقِبِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الإِمَامَ الشَّافِعِىَّ عَنْ حُكْمِ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِىُّ قَدْ جَاءَ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ وَهَلْ تَقُولُ بِذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ تَرَى عَلَى وَسَطِى زُنَّارًا هَلْ تَرَانِى خَرَجْتُ مِنَ الْكَنِيسَةِ أُشْهِدُكُمْ أَنَّنِى مَتَى مَا قُلْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ ءَاخُذْ بِهِ أَنْ عَقْلِى يَكُونُ قَدْ ذَهَبَ اﻫ (فَالْمُجْتَهِدُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ) اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الَّتِى لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَلا أَجْمَعَتْ عَلَيْهَا الأُمَّةُ. وَإِنَّمَا يَتَحَصَّلُ لَهُ (ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِآيَاتِ الأَحْكَامِ) أَىِ الآيَاتِ الْمُتَضَمِّنَةِ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً وَقِيلَ هِىَ خَمْسُمِائَةٍ وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَوْمٌ وَقَالُوا هِىَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ (وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ) وَقِيلَ هِىَ خَمْسُمِائَةٍ أَيْضًا وَلَمْ يَرْتَضِهِ قَوْمٌ وَقَالُوا بَلْ أَكْثَرُ (وَ)مُحَصِّلًا (مَعْرِفَةَ أَسَانِيدِهَا وَمَعْرِفَةَ أَحْوَالِ رِجَالِ الإِسْنَادِ) لِيَحْكُمَ عَلَى الأَحَادِيثِ تَصْحِيحًا (وَ)تَضْعِيفًا وَتَرْجِيحًا وَتَقْدِيمًا لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِنَاءً لِاجْتِهَادِهِ لا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ مَعَ (مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ) مِنَ الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ حَتَّى لا يَعْتَمِدَ عَلَى حُكْمٍ مَنْسُوخٍ وَيُهْمِلَ الِاعْتِمَادَ عَلَى النَّاسِخِ عِلْمًا بِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِىٍّ سَابِقٍ بِحُكْمٍ لاحِقٍ وَيَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَالْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَلا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِأَحَادِيثِ الآحَادِ (وَ)لا بُدَّ أَيْضًا لِبُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا هُوَ مِنَ الأَحْكَامِ عَامٌّ وَمَا هُوَ خَاصٌّ فَإِنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ فِى الظَّاهِرِ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالآخَرُ خَاصٌّ لَزِمَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ (الْعَامِّ وَالْخَاصِّ) عَجَزَ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ (وَ)مَعَ ذَلِكَ لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ (الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ) فَإِنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِىَ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ أَىْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَىِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ مَا قُيِّدَ بِصِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ أَىْ بِعَارِضٍ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِى تَعْرِضُ لِلْمَاهِيَّةِ وَذَلِكَ كَالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ بِلَفْظِ يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيَّدْ فِيهِ الْمَسْحُ بِحَالٍ وَلا عَارِضٍ لَكِنَّهُ قَدْ رُوِىَ مُقَيَّدًا عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بِلَفْظِ إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ اﻫ فَيَحْتَاجُ الْمُجْتَهِدُ عِنْدَ وُرُودِ أَخْبَارٍ وَءَايَاتٍ مُطْلَقَةٍ وَأُخْرَى مُقَيَّدَةٍ أَنْ يَعْرِفَ مَتَى يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَمَتَى لا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزِ الْمُطْلَقَ مِنَ الْمُقَيَّدِ وَلا عَرَفَ قَوَاعِدَ حَمْلِ الأَوَّلِ عَلَى الثَّانِى تَخَبَّطَ عِنْدَ الِاسْتِنْبَاطِ وَخَرَجَ مِنْ رَأْسِهِ الْعَجَبُ (وَمَعَ) مَا تَقَدَّمَ يُشْتَرَطُ لِلِاجْتِهَادِ (إِتْقَانُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِحَيْثُ إِنَّهُ) أَىِ الْمُجْتَهِدَ (يَحْفَظُ مَدْلُولاتِ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ) أَىْ يَفْهَمُ جَيِّدًا مَعَانِىَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (عَلَى حَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِى نَزَلَ بِهَا الْقُرْءَانُ) وَجَاءَتْ بِهَا الأَحَادِيثُ أَىْ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ الْعَرَبُ يَتَكَلَّمُونَ فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِى سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ﴾ وَقَالَ فِى سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ ﴿بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ لُغَةَ الْعَرَبِ عَلَى حَسَبِ كَلامِ أَهْلِهَا فِى زَمَنِ الْوَحْىِ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ مَعَانِى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ وَهُوَ بِالتَّالِى عَاجِزٌ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ أَحْكَامٍ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاجْتِهَادُ وَلا الْهُجُومُ عَلَى الْفَتْوَى وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَتْبَاعُهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ بِالسَّلِيقَةِ إِذْ كَانُوا يَنْشَأُونَ بَيْنَ قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ عَلَى الصَّوَابِ لَمْ تَدْخُلْ لُغَتَهُمْ عُجْمَةٌ وَلا خَالَطَهَا لَحْنٌ أَوْ عَامِيَّةٌ وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ انْقَطَعَ السَّلِيقِيُّونَ فَمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ لُغَةِ الْعَرَبِ احْتَاجَ إِلَى دِرَاسَةِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ وَالْبَلاغَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِى يُتْقِنُ بِوَاسِطَتِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ لُغَةِ الْقُرْءَانِ.

   (وَ)يَحْتَاجُ الْمُجْتَهِدُ كَذَلِكَ (إِلَى مَعْرِفَةِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَ الإِجْمَاعَ أَىْ إِجْمَاعَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ) فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ الإِجْمَاعَ فَيَأْتِىَ بِقَوْلٍ ءَاخَرَ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا انْقَسَمُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِى الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزِ اسْتِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لِأَنَّ انْقِسَامَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَطْ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى سُقُوطِ كُلِّ قَوْلٍ غَيْرِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ (وَيُشْتَرَطُ فَوْقَ ذَلِكَ شَرْطٌ وَهُوَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِى الِاجْتِهَادِ وَهُوَ فِقْهُ النَّفْسِ أَىْ قُوَّةُ الْفَهْمِ وَالإِدْرَاكِ) فَإِنَّ الشَّخْصَ لَوْ أَحَاطَ بِآيَاتِ الأَحْكَامِ وَأَحَادِيثِ الأَحْكَامِ وَمَهَرَ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ وَعَرَفَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ وَالْمُطْلَقَ مِنَ الْمُقَيَّدِ وَالْعَامَّ مِنَ الْخَاصِّ وَمَوَاضِعَ الإِجْمَاعِ وَالْخِلافِ قَدْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ مُبَاشَرَةً مِنَ الْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَائِحَ تَخْتَلِفُ وَالأَفْهَامَ تَتَفَاوَتُ فِى الْقُدْرَةِ عَلَى الِاسْتِخْرَاجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَلِذَلِكَ قَالُوا إِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِى الْمُجْتَهِدِ قُوَّةُ الْقَرِيحَةِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَأَسَالِيبِ كَلامِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهِمْ كَثْرَةٌ وَلَكِنْ قِلَّةٌ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ يَبْرَعُ فِى النَّظْمِ وَالنَّثْرِ.

   (وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَهِىَ السَّلامَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الصَّغَائِرِ بِحَيْثُ تَغْلِبُ عَلَى حَسَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ) مَعَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُرُوءَةِ أَمْثَالِهِ لِيَجُوزَ اسْتِفْتَاؤُهُ وَتَقْلِيدُهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ إِذْ لا يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ غَيْرِ الثِّقَةِ الْعَدْلِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

   (وَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَهُوَ الَّذِى لَمْ يَصِلْ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ) فَلَهُ رُخْصَةٌ بِأَنْ يَعْمَلَ بِأَىِّ مَذْهَبٍ يُرِيدُ وَيَتَّبِعَ أَىَّ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ سَوَاءٌ تَبِعَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فِى كُلِّ أُمُورِهِ أَوْ تَبِعَ وَاحِدًا فِى بَعْضِ الأُمُورِ وَءَاخَرَ فِى أُمُورٍ أُخْرَى وَثَالِثًا فِى مَسَائِلَ غَيْرِ الَّتِى تَبِعَ فِيهَا الأَوَّلَيْنِ وَهَكَذَا. هَذَا مِنْ حَيْثُ الإِجْمَالُ وَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ فَالْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْقَادِرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفْقَ قَوَاعِدَ قَعَّدَهَا وَأُصُولٍ أَصَّلَهَا مُرْتَكِزًا فِى ذَلِكَ عَلَى نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَهَذَا لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا ءَاخَرَ بَلْ يَتَّبِعُ اجْتِهَادَهُ فِى كُلِّ الْمَسَائِلِ الَّتِى تَحْتَاجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ. وَهُنَاكَ مُجْتَهِدٌ مُنْتَسِبٌ وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ مُبَاشَرَةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَكِنْ وَفْقَ الْقَوَاعِدِ وَالأُصُولِ الَّتِى كَانَ وَضَعَهَا الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ وَافَقَتْ أُصُولُهُ أُصُولَ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فَانْتَسَبَ إِلَيْهِ وَقَدْ يُخَالِفُهُ فِى أَحْكَامِ بَعْضِ الْفُرُوعِ وَأَمَّا الْعَالِمُ الْعَاجِزُ عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ مُبَاشَرَةً مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِنَقْصٍ عِنْدَهُ فِى بَعْضِ الآلاتِ مَعَ قُدْرَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ لِلِاسْتِنْبَاطِ مِنْ كَلامِ إِمَامٍ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَيُقَالُ لَهُ مُجْتَهِدٌ فِى الْمَذْهَبِ فَتَكُونُ نُصُوصُ إِمَامِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ الأَصْلَ الَّذِى يَسْتَخْرِجُ مِنْهُ أَحْكَامَ الْحَوَادِثِ وَمِثْلُ هَذَا يُسْتَفْتَى فِى الْحَوَادِثِ فَيُفْتِى مُسْتَنْبِطًا مِنْ نُصُوصِ الْمَذْهَبِ مَا لا يَخْرُجُ فِيهِ عَنْ مُقْتَضَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ فَإِنْ لَمْ يَصِلِ الشَّخْصُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَكِنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقْوَالِ إِمَامِ الْمَذْهَبِ وَالْمُجْتَهِدِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهِ وَالْمُجْتَهِدِينَ فِى الْمَذْهَبِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ أَيْضًا أَصْحَابَ الْوُجُوهِ اقْتَصَرَ عَمَلُهُ عَلَى بَيَانِ الرَّاجِحِ مِنَ الْمَرْجُوحِ وَلا يُفْتِى فِى الْحَوَادِثِ إِلَّا نَقْلًا عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ قَبْلَهُ مُعْتَمِدًا مَا يَعْتَقِدُهُ رَاجِحًا مِنْ كَلامِهِمْ وَأَمَّا مَنْ قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الأَخِيرَةِ لَكِنَّهُ كَانَ عَارِفًا بِأَقْوَالِ الْمَذْهَبِ وَأَدِلَّتِهَا وَمَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ يَعْلُونَهُ رُتْبَةً فَتَكُونُ وَظِيفَتُهُ نَقْلَ مَا قَالُوهُ وَبَيَانَهُ وَإِيضَاحَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَجِّحَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ أَنْ يَسْتَنْبِطَ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُقَمْ لِكَلامِهِ وَزْنٌ فَإِنْ قَصُرَ الشَّخْصُ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ وَلَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْمَذْهَبِ وَوُجُوهَهُ وَتَرْجِيحَاتِهِ وَأَدِلَّتَهُ فَهُوَ عَامِّىٌّ لا مَذْهَبَ لَهُ وَهُوَ الْمُقَلِّدُ الْمَحْضُ الَّذِى لا يَعْرِفُ مَآخِذَ الأَحْكَامِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِىَ أَىَّ عَالِمٍ مُسْتَأْهِلٍ مِنْ أَىِّ مَذْهَبٍ كَانَ فِى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

   وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الشَّخْصَ قَدْ يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِى بَابٍ دُونَ بَابٍ وَمَسْأَلَةٍ دُونَ مَسْأَلَةٍ وَقَدْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى التَّرْجِيِحِ فِى بَعْضِ الأَقْوَالِ أَوِ الْوُجُوهِ دُونَ الْبَعْضِ الآخَرِ فَيَنْطَبِقُ عَلَيْهِ فِى كُلِّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ الأَحْكَامُ الْمُنَاسِبَةُ لِأَهْلِيَّتِهِ فِيهَا.

(وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ) أَىِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ (قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ مُبَلِّغٍ) عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ (لا فِقْهَ عِنْدَهُ) اﻫ (رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ) فِى كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ سُنَنِهِ (وَابْنُ حِبَّانَ) فِى صَحِيحِهِ وَ(الشَّاهِدُ فِى الْحَدِيثِ قَوْلُهُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَرُبَّ مُبَلِّغٍ لا فِقْهَ عِنْدَهُ) اﻫ (وَفِى رِوَايَةٍ) عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ (وَرُبَّ مُبَلَّغٍ) عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْمَفْعُولِ (أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ) اﻫ (فَإِنَّهُ يُفْهِمُنَا أَنَّ مِمَّنْ يَسْمَعُونَ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّسُولِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَنْ حَظُّهُ أَنْ يَرْوِىَ مَا سَمِعَهُ لِغَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ فَهْمُهُ أَقَلَّ مِنْ فَهْمِ مَنْ يُبَلِّغُهُ بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ يُبَلِّغُهُ هَذَا السَّامِعُ يَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةِ قَرِيحَتِهِ أَنْ يَسْتَخِرَجَ مِنْهُ أَحْكَامًا وَمَسَائِلَ وَيُسَمَّى هَذَا الِاسْتِنْبَاطَ وَ)يَكُونُ فِى الْوَقْتِ نَفْسِهِ الْمُبَلِّغُ (الَّذِى سَمِعَ) الْحَدِيثَ مُبَاشَرَةً مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقَرِيحَةُ الْقَوِيَّةُ إِنَّمَا يَفْهَمُ الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ قَرِيبٌ مِنَ اللَّفْظِ) وَ(مِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ يَكُونُونَ أَقَلَّ فَهْمًا) أَىْ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِنْبَاطُ (مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّابِعِينَ (وَفِى) بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا يُصَرّحُ أَيْضًا بِذَلِكَ فَفِى (لَفْظٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) اﻫ (وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِى) كِتَابِ الْعِلْمِ مِنْ سُنَنِ (التِّرْمِذِىِّ وَ)فِى صَحِيحِ (ابْنِ حِبَّانَ. وَهَذَا الْمُجْتَهِدُ هُوَ مَوْرِدُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ) أَىْ لِاجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ (وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) اﻫ أَىْ لِاجْتِهَادِهِ وَإِنْ لَمْ يُصِبْ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ) فِى كِتَابِ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صَحِيحِهِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ إِذَا تَسَوَّرَ مَرْتَبَةَ الِاجْتِهَادِ وَأَفْتَى فِى الْحَوَادِثِ وَالنَّوَازِلِ لَمْ يَنَلْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا الإِثْمُ وَالْوِزْرُ لِأَنَّهُ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَعَصَى اللَّهَ بِذَلِكَ (وَإِنَّمَا خَصَّ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِى هَذَا الْحَدِيثِ الْحَاكِمَ بِالذِّكْرِ) مَعَ أَنَّ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ وَالإِصَابَةِ وَعَدَمَ مُضَاعَفَةِ الأَجْرِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ الإِصَابَةِ يَشْمَلُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ سَوَاءٌ كَانَ حَاكِمًا أَمْ غَيْرَ حَاكِمٍ (لِأَنَّهُ) أَىِ الْحَاكِمَ (أَحْوَجُ إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ مَضَى مُجْتَهِدُونَ فِى السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِمْ حَاكِمِينَ كَالْخُلَفَاءِ السِّتَّةِ) الرَّاشِدِينَ (أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِىٍّ وَالْحَسَنِ بنِ عَلِىٍّ وَعُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ (وَ)كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَةً مِثْلِ (شُرَيحٍ الْقَاضِى. وَ)مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُونَ إِلَى مُجْتَهِدٍ وَغَيْرِ مُجْتَهِدٍ مَا نَقَلَتْهُ مُصَنَّفَاتُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذْ (قَدْ عَدَّ) بَعْضُ (عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِى كُتُبِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ الْمُفْتِينَ) أَىِ الْمُجْتَهِدِينَ (فِى الصَّحَابَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ) ذَكَرَهُ السُّيُوطِىُّ فِى تَدْرِيبِ الرَّاوِى وَغَيْرُهُ حَتَّى (قِيلَ) كَانُوا (نَحْوَ سِتَّةٍ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) إِنَّ (نَحْوَ مِائَتَيْنِ مِنْهُمْ) أَىْ مِنَ الصَّحَابَةِ (بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا الْقَوْلُ) الثَّانِى (هُوَ الأَصَحُّ. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ فِى الصَّحَابَةِ هَكَذَا فَمِنْ أَيْنَ يَصِحُّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْءَانَ وَيُطَالِعَ فِى بَعْضِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُولَ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ) أَىْ فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى الِاجْتِهَادِ (فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نُقَلِّدَهُمْ) اﻫ (وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ كَانُوا غَيْرَ مُجْتَهِدِينَ بَلْ كَانُوا مُقَلِّدِينَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ) عَامِلِينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَتَىِ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّحْلِ ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (فَفِى) كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ (صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ أَجِيرًا لِرَجُلٍ فَزَنَا بِامْرَأَتِهِ فَسَأَلَ أَبُوهُ) عَمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ابْنِهِ (فَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ مِائَةَ شَاةٍ وَأَمَة) يَدْفَعُهَا لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ (ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا لَهُ إِنَّ عَلَى ابْنِكَ جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ) وَلَيْسَ هُنَاكَ مَالٌ يَجِبُ دَفْعُهُ لِلزَّوْجِ فِى هَذِهِ الْحَالِ (فَجَاءَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ زَوْجِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا) أَىْ أَجِيرًا عِنْدَهُ (وَزَنَا بِامْرَأَتِهِ فَقَالَ لِى نَاسٌ عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ ابْنِى مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَقَالُوا إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ) أَىْ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْءَانُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطِبًا زَوْجَ الْمَرْأَةِ (أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْهِ) أَىْ عَلَى وَالِدِ الزَّانِى وَقَالَ مُخَاطِبًا هَذَا الأَخِيرَ (وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) اﻫ (فَهَذَا الرَّجُلُ مَعَ كَوْنِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ سَأَلَ أُنَاسًا مِنَ الصَّحَابَةِ فَأَخْطَأُوا الصَّوَابَ ثُمَّ سَأَلَ عُلَمَاءَ مِنْهُمْ) فَأَجَابُوا بِالصَّوَابِ (ثُمَّ أَفْتَاهُ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِمَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ) وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِأَنَّهُ اسْتَفْتَى أَهْلَ الْعِلْمِ وَلا قَالَ لَهُ كَانَ عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ (فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَفْهَمَنَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُمْ فِقْهٌ أَىْ مَقْدِرَةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الأَحْكَامِ مِنْ حَدِيثِهِ وَإِنَّمَا حَظُّهُمْ أَنْ يَرْوُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوهُ مَعَ كَوْنِهِمْ) سَلِيقِيِّينَ (يَفْهَمُونَ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ) الْفَصِيحَةَ وَ(الْفُصْحَى) عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُدَاخِلَ لُغتَهُمْ عُجْمَةٌ وَلا عَامِيَّةٌ (فَمَا بَالُ هَؤُلاءِ الْغَوْغَاءِ الَّذِينَ) لا يَعْرِفُونَ اللُّغَةَ وَلا يَتَحَقَّقُ فِيهِمُ الشَّرْطُ السَّابِقُ شَرْحُهُ لِلِاجْتِهَادِ (يَتَجَرَّءُونَ عَلَى قَوْلِ أُولَئِكَ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ) فَلا نَحْتَاجُ إِلَى تَقْلِيدِهِمْ وَقَوْلُهُمْ (أُولَئِكَ رِجَالٌ يَعْنُونَ) بِهِ (الْمُجْتَهِدِينَ كَالأَئِمَّةِ الأَرْبَعَةِ) وَالسُّفْيَانَيْنِ وَالأَوْزَاعِىِّ وَأَمْثَالِهِمْ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِمَّنِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْوَرَعِ مَا يَنْدُرُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِى إِنْسَانٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَكَى.

   (وَفِى هَذَا الْمَعْنَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ) فِى كِتَابِ الطَّهَارَةِ مِنْ سُنَنِهِ (مِنْ قِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِى كَانَتْ بِرَأْسِهِ شَجَّةٌ) أَىْ جُرْحٌ بِسَبَبِ ضَرْبَةٍ تَلَقَّاهَا (فَأَجْنَبَ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَاسْتَفْتَى مَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لَهُ اغْتَسِلْ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَتَلُوهُ) أَىْ تَسَبَّبُوا فِى مَوْتِهِ (قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِىِّ السُّؤَالُ) اﻫ (أَىْ شِفَاءُ الْجَهْلِ السُّؤَالُ أَىْ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ) مُتَابِعًا كَلامَهُ (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ) وَهَذَا (الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) كَمَا تَقَدَّمَ (وَغَيْرُهُ) وَهُوَ يَشْهَدُ لِمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ حَظَّ قِسْمٍ مِنَ النَّاسِ هُوَ اسْتِفْتَاءُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَمَّا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ النَّوَازلِ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُفْتُوا فِيهَا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَكْمِلُوا الشُّرُوطَ الْمَطْلُوبَةَ فِى الْمُفْتِى (فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ يَصِحُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ لَمَا ذَمَّ رَسُولُ اللَّهِ) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَفْتَوْهُ) أَىْ أَفْتَوْا صَاحِبَ الشَّجَّةِ أَنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَغْسِلُهُ لِلطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ (وَ)هُمْ (لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. ثُمَّ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ الَّتِى هِىَ خَاصَّةٌ لَهُ) وَلا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا (الْقِيَاسُ أَىْ أَنْ يَعْتَبِرَ مَا) يَطْرَأُ مِنَ الْحَادِثَاتِ مِمَّا (لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ) أَىْ لَمْ يُصَرِّحِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِحُكْمِهِ (بِمَا وَرَدَ فِيهِ نَصٌّ) يُصَرِّحُ بِحُكْمِهِ (لِشَبَهٍ بَيْنَهُمَا) فَيُلْحَقَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ بِالأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِعِلَّةٍ تَجْمَعُهُمَا (فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الَّذِينَ) يَدَّعُونَ الِاجْتِهَادَ وَ(يَحُثُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ كَوْنِهِمْ وَكَوْنِ مَتْبُوعِيهِمْ بَعِيدِينَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَهَؤُلاءِ يُخَرِّبُونَ وَيَدْعُونَ أَتْبَاعَهُمْ إِلَى التَّخْرِيبِ فِى أُمُورِ الدِّينِ) وَمَنْهَجُهُمْ يَقْتَضِى الْفَوْضَى فِى الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَهِىَ قَبِيحَةٌ مَذْمُومَةٌ (وَشَبِيهٌ بِهَؤُلاءِ أُنَاسٌ تَعَوَّدُوا فِى مَجَالِسِهِمْ أَنْ يُوَزِّعُوا عَلَى الْحَاضِرِينَ تَفْسِيرَ ءَايَةٍ أَوْ حَدِيثٍ) مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ (مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ تَلَقٍّ مُعْتَبَرٌ مِنْ أَفْوَاهِ الْعُلَمَاءِ فَهَؤُلاءِ الْمُدَّعُونَ) لِلِاجْتِهَادِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا مِمَّنْ لَمْ يَتَأَهَّلْ لِذَلِكَ (شَذُّوا عَنْ عُلَمَاءِ الأُصُولِ) أَىْ أُصُولِ الْفِقْهِ (لِأَنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ قَالُوا الْقِيَاسُ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ وَخَالَفُوا عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ أَيْضًا) فَإِنَّ ءَالافًا وَءَالافًا مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ مَضَوْا كَانُوا يَرْجِعُونَ فِى أَحْكَامِ الدِّينِ إِلَى أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَمْ يَدَّعُوا أَهْلِيَّةَ الْفَتْوَى مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْفَظُونَ ءَالافًا وَأَحْيَانًا عَشَرَاتِ الآلافِ بَلْ وَمِئَاتِ الآلافِ مِنَ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ مَعَ مَعْرِفَةِ أَسَانِيدِهَا وَأَحْوَالِ الرُّوَاةِ إِلَى جَانِبِ حِفْظِ الْقُرْءَانِ وَإِتْقَانِ اللُّغَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَدَّعِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بَلِ انْتَسَبُوا إِلَى الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ فَكَانَ يَحْيَى بنُ مَعِينٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ وَالزيلعىُّ وقُطْلُوبُغَا وَبَدْرُ الدِّينِ الْعَيْنِىُّ وَمُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ مَثَلًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَنَفِىِّ وَكَانَ سحنُونُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِى عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ وَالْحَافِظُ ابْنُ رَشِيدٍ وَمُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بنِ فَرَحٍ الْقُرْطُبِىُّ الْمُفَسِّرُ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقَسْطَلَّانِىُّ شَارِحُ الْبُخَارِىِّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَالِكِىِّ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِىُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِىُّ وَمُحْيِى الدِّينِ النَّوَوِىُّ وَزَيْنُ الدِّينِ الْعِرَاقِىُّ وَوَلَدُهُ وَلِىُّ الدِّينِ وَنُورُ الدِّينِ الْهَيْثَمِىُّ وَالشِّهَابُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الشَّافِعِىِّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِىُّ وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِىِّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ رَجَبٍ عَلَى الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِىِّ وَلَمْ يَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِمَّنْ رَزَقَهُ اللَّهُ قُوَّةَ الْقَرِيحَةِ وَالْفَهْمِ مَعَ الْعِلْمِ الْكَافِى بِذَلِكَ كَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِىِّ وَأَبِى ثَوْرٍ وَبَعْضٍ ءَاخَرِينَ.