الخميس مارس 28, 2024

المجلِسُ السّادِسُ: في وَداعِ رَمضانَ

في «الصّحِيحَين» و«سُنَن النّسائيّ» وغيرِها مِن حدِيث أبي هرَيرةَ رضي الله عنه عنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، وفِيهما عنه أيضًا أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

وقد جاء في روايةِ عُبادَة بنِ الصّامتِ رضي الله عنه نحوُ ذلكَ في شأنِ الصِّيامِ مع كونِه مشرُوطًا بالتحَفُّظ ممّا يَنبغِي أنْ يُتحفَّظ مِنه، ففي «مسنَد أحمد»، و«صحِيح ابنِ حِبّان» عن أبي سعِيد الخُدرِيّ رضي الله عنه عن النَبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَرَفَ حُدُودَهُ، وَتَحَفَّظَ مِمّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُتَحَفَّظَ فِيهِ، كَفَّرَ ما قَبْلَهُ» والجمهورُ على أن ذلك إنّما يُكفِّرُ الصّغائِرَ([1]).

وقال ابنُ الـمُنذِر في قيامِ لَيلةِ القَدْر إنّه يُرجَى بِه مَغفِرةُ الذُّنوبِ كَبائرِها وصَغائرِها، ودلّ حدِيثُ أبي هرَيرةَ رضي الله عنه السّابِقُ على أنّ الأسبابَ الثّلاثةَ: صِيامَ رمَضانَ، وقِيامَه، وقِيامَ لَيلةَ القَدْر، كُلّ واحدٍ مِنها مُكفِّرٌ لِما سلَف مِن الذُّنوب، فقِيامُ ليلةِ القَدْر بمُجرَّدِهِ يُكفِّرُ الذُّنوبَ لِمَن وقعَتْ له، سَواءٌ شعَر بِها أم لَمْ يَشعُرْ، أمّا صِيامُ رَمضانَ وقِيامُه فيتعلَّقُ التّكفِيرُ بهما على تَمامِ الشّهرِ كما دَلَّ علَيهِ الحدِيثُ.

غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبتْ

 

 

وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا

إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لِأَنْفُسِهِمْ

 

 

وَإِنْ أَسَاؤُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا

   

وكان السَّلَف الصّالِح يَجتهِدُون في إتمامِ العَمل وإكمالِه وإتقانِه ثُمّ يَهتَمُّون بعد ذلكَ بقَبولِه ويَخافُونَ مِن رَدِّه وهؤلاءِ الّذِين قَالَ فيهِم ربُّهم: {يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}([2]) [المؤمنون: 60]، وعَن فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ قال: «لأَنْ أَكُونَ أعلَمُ أنّ اللهَ قد تقَبَّل مِنِّي مِثقالَ حبّةٍ مِن خَرْدلٍ أحَبُّ إِليَّ مِن الدُّنيا وما فِيها»، وقال عبدُ العزِيز بنُ أبِي رَوّادٍ: «أدرَكتُهم([3]) يَجتهِدُون في العمَل الصّالِح، فإذَا فعَلُوه وقَع علَيهِم الهَمُّ أيُقْبَل مِنهُم أمْ لا». وقال بعضُ السَّلَف: كانوا يَدْعُون اللهَ سِتّةَ أشهُرٍ أنْ يُبلِّغَهم شَهرَ رمضانَ، ثُمّ يَدْعُون اللهَ سِتّةً أشُهرٍ أنْ يَتقَبّلَه مِنهُم.

ورُوي عن الحسَن البِصريّ رضي الله عنه قال: «إنّ اللهَ جعلَ شَهرَ رَمضانَ مِضْمارًا لِخَلْقِه يَستبِقُون فيه بطَاعَتِه إلى مَرْضاتِه، فسَبَق قومٌ ففازُوا وتَخلَّف ءاخَرُونَ فخابُوا».

ماذا فاتَ مَن فاتَهُ خَيرُ رَمضان، وأيُّ شيءٍ أدرَكَ مَن أدركَهُ فيه الحِرْمان، كَم بَيْن مَن حَظُّه فيه القَبُول والغُفران، ومَن كانَ حَظُّه فيه الخَيبةُ والخُسْران، رُبّ قائِمٍ حَظُّه مِن قيامِه السّهَرُ وصائِمٍ حَظُّه مِن صِيامِه الجوعُ والعطَش.

شهرُ رَمضانَ تَكثُرُ فيه أسبابُ الغُفران، فمِن أسبابِ الـمَغفِرة فيه:

  • صِيامُه وقِيامُه وقِيامُ لَيلةِ القَدْر فيه.
  • وتفطِيرُ الصُوّام والتّخفِيفُ عن المملُوكِ.
  • والإكثارُ مِن الذِّكرِ والاستِغفارِ.
  • وطَلَبُ الصّائِم الـمَغفِرة مِن اللهِ، فإنّ دُعاءَ الصّائِم مُستجابٌ عِندَ فِطْره، ولهذا كان ابنُ عُمَر رضي الله عنهُما إذا أفطَر يقُول: «اللَّهُمَّ يا واسِعَ الـمَغفرة اغفِرْ لِي».
  • واستِغفارُ الملائِكةِ للصّائمِين حتّى يُفطِرُوا، كما جاءَ في حديثٍ.

فلَمّا كَثُرَت أسبابُ الـمَغفِرة في رَمضانَ كان الّذِي تَفوتُه الـمَغفِرةُ فيه مَحرومًا غايةَ الحِرْمان، وفي «سُنَن التّرمذيّ» عن أبي هرَيرةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ([4]) ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ علَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ».

إذا لَم يَعمل العَبدُ بأسبابِ نَيلِ الغُفرانِ في رَمضانَ فمتَى يَعمَلُ ذلكَ، إذا لَم يَصلُح شأنُ العبدِ فيه فمتَى يَصلُح مِنه ذلكَ، فالجَهالةُ والغَفْلَةُ مَرَضانِ مَنعَا العَبدَ مِن الاجتهِادِ في رَمضانَ، كُلُّ ما لا يُثمِرُ مِن الأشجارِ في أوَانِ الثِّمارِ فإنّه يُقطَعُ ثُمّ يُوقَد في النارِ، ومَن فَرَّط فِي الزّرعِ فِي وَقتِ البِدارِ، لَم يَحصُد يَومَ الحَصادِ غيرَ النَّدَم والخَسَار.

شهرُ رَمضانَ شَهرٌ أوَّلُه رَحمةٌ وأوسَطُه مَغفِرةٌ وءاخِرُه عِتقٌ مِن النّارِ، رُوِي هذا عن النّبيّ([5]) صلى الله عليه وسلم، وروَى البَيهقيّ مِن حديثِ ابنِ عبّاسٍ مرفوعًا: «وَلِلَّهِ تعالى فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رمَضَانَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ أَلْفُ أَلْفِ عَتِيقٍ مِنَ النَّار ِكُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ([6])، فَإِذَا كَانَ ءَاخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَعْتَقَ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إِلَى ءاخِرِهِ»([7]).

ولمّا كانَتِ الـمَغفِرةُ والعِتقُ كُلٌ مِنهُما مُرتَّبًا على صِيامِ رَمضانَ وقِيامِه شُرِعَ التّكبيرُ والشُّكرُ للهِ سُنّة أصلِيّة يومَ العِيدِ، فمَن كان عاصِيًا مِن أصحابِ الذُّنوبِ العَظِيمة، فالغَنِيمةَ الغَنِيمةَ في هذِه الأيّامِ الكَرِيمة، فكَم يُعتِقُ اللهُ فِيها مِن النّار مِن ذي جرِيرةٍ وجَرِيمة، فمَن أُعتِقَ فيها مِن النّار فقَد فازَ بالجائِزة العَظِيمة والـمِنْحةِ الجَسِيمة.

وكَيف لا يَرجُو العاصِي العَفوَ مِن رَبِّه الكرِيم وقَد قال الله تعالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

فيا أيُّها العاصِي لا تَقْنَطْ مِن رحمةِ الله بِسُوءِ أعمالِك، فكَم يُعتَقُ مِن النّارِ في هذِه الأيّامِ مِن أمثالِك، فأَحْسِنِ الظَنَّ بمَولاكَ وتُبْ إلَيهِ.

إِذَا أَوْجَعَتْكَ الذُّنُوبُ فَدَاوِهَا

 

 

بِرَفْعِ يَدٍ بِاللَّيْلِ وَاللَيْلُ مُظْلِمُ

وَلَا تَقْنَطَنْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّمَا

 

 

قُنُوطُكَ مِنْهَا مِنْ ذُنُوبِكَ يُعْظِمُ

فَرَحْمَتُهُ لِلْمُحْسِنِينَ كَرَامَةٌ

 

 

وَرَحْمَتُهُ لِلْمُذنِبِينَ تَكَرُّمُ

   

يَنبغِي لِمَن يَرجُو العِتق في شَهرِ رَمضانَ مِن النّارِ أنْ يَأتِيَ بأسبابِ نَيلِ ذلكَ العِتق، وهي مُتيَسِّرةٌ في هذا الشّهرِ، وكان أبو قِلابةَ رضي الله عنه يُعتِقُ في ءاخِر الشّهرِ جاريةً حَسناءَ يَرجُو بعِتقِها العِتقَ مِن النّار، ففي الحديثِ المرفوعِ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَانَتْ فِدَاءَهُ مِنَ النَّارِ»، والرَّقبةُ شامِلٌ للذّكر والأُنثى. وفي حديثِ سَلمان الفارسِيّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ» إلى أنْ قالَ: «مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللهُ لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ»([8]).

رُوي أنّ عمَر بنَ عبدِ العزِيزِ رضي الله عنه كتَب إلى الأمصارِ يأمُرُهم بِخَتمِ رَمضانَ بالاستِغفارِ وصدَقةِ الفِطْر فإنّ الصّدَقةَ طُهرةٌ للصّائِم مِن اللَّغْوِ والرَّفَث، والاستِغفارَ يَرقَع ما تَخَرَّق مِن الصِّيام باللَّغوِ والرَّفَث، ولهذا قال بعضُ العُلَماء المتقدِّمين: «إنّ صدَقة الفِطرِ للصّائِم كسَجْدَتَي السَّهوِ للصّلاة» ([9]).

وقال عُمَر في كتابِه هذا: «قولُوا كما قالَ أبوُكم ءادَمُ عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقولُوا كما قالَ نُوحٌ عليه السلام: {وَإلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقولُوا كما قال موسَى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقولوا كما قال يُونسُ ذُو النُّونِ عليه السلام: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

ويُروَى عن أبي هرَيرةَ رضي الله عنه قال: «الغِيبةُ تَخرِقُ الصِّيامَ([10]) والاستِغفارُ يَرقَعُه، فمَنِ استَطاعَ مِنكُم أنْ يَجِيء بِصَوْمٍ مُرقَّعٍ فلْيَفْعَل». وعن محمّد بنِ الـمُنكَدِر رضي الله عنه قال: «الصِّيامُ جُنّةٌ([11]) مِن النّار ما لَم يَخرِقْها، والكلامُ السَيِّئُ يَخرِقُ هذه الجُنّةَ، والاستِغفارُ يَرقَعُ ما تَخرَّقَ مِنها».

عِبادَ الله، أينَ مَن كان إذا صامَ صانَ الصِّيام، وإذا قامَ استَقام في القِيام، أحسِنُوا الطّاعةَ في الإسلَام، واسألُوا اللهَ دُخول الجنّةِ بسَلام، فالصّائِمُ يُرجَى استِجابةُ دُعائِه عِندَ فِطرِه، فيَنبغِي أنْ يَدعُو بالـمُهِمّ مِن شأنِه، وكان أبو مُسلِمٍ الخَولانيُّ رضي الله عنه يقُول: «ما عرَضَتْ لي دَعوةٌ إلّا صرَفْتُها إلى الاستِعاذةِ مِن النّارِ»، {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20].

ورَوَى البيهقيُّ مِن حديثِ أنسٍ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: «اطْلُبُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ ويُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ»، فمَن أصابَتْه الرّحمةُ الخاصّةُ سَعِد سعادةً لا يَشقَى بَعدَها أبدًا، فما أعظَمَ مُصادَفَة دَعوةِ العبدِ ساعةَ إجابةٍ حِينَ يَسالُ اللهَ فيها الجنّةَ والنّجاةَ مِن النّارِ فيُجابُ إلى سُؤالِه فيَفوزُ بسَعادةِ الأبَد، قال تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [ءال عمران: 185]، وقال أيضًا: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]، إلى قولِه: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108].

لَيْسَ السَّعِيدُ الَّذِي دُنْيَاهُ تُسْعِدُهُ

 

 

إِنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ

   

عِبادَ الله، إنّ شهَر رمضَانَ موسِمٌ أيّامُه معدوداتٌ كما قال الله تعالَى، فإذا مضَى راحِلًا ولَم يَبْقَ مِنهُ إلّا القَلِيلُ فمَن أحسَنَ مِنكُم فِيه فليَغتنِم ما بَقِي، ومَن فَرَّطَ فلْيَتَدَارَكْ بالعمَل الحسَن فِيما بَقِي مِن اللّيالِي والأيّام.

كَيفَ لا يَحزَنُ الـمُؤمِن على فِراقِ الشَّهرِ عِندَ التّودِيع، ولا يَنهمِرُ مِنه حارُّ الدُّمُوع وهو لا يَدرِي هل بَقِيَ له في عمُرِه إلَيه رجُوع.

 

 

تَذَكَّرْتُ أَيَّامًا مَضَتْ وَلَيالِيَا

 

 

خَلَتْ فَجَرَتْ مِنْ ذِكْرِهنَّ دُمُوعُ

أَلَا هَلْ لَهَا يَوْمًا مِنَ العُمْرِ عَوْدَةٌ

 

 

وَهَلْ لِي إِلَى يَوْمِ الوِصَالِ رُجوعُ

   

فماذا عسَى أنْ يقولَ مَن خَسِرَ في أيّامِ رَمضانَ ولَيالِيه بأنْ ترَكَ الطّاعاتِ وضَيَّع الأوقات، فبادِرْ قَبلَ فَواتِ الشَّهرِ الكرِيم فتَتحسَّرَ وَتندَمَ وأنتَ لا تَدرِي هل تُدرِكُه العامَ القابِلَ أو لا.

قال الحافظ أبو الفرَج عبدُ الرحمنِ بنُ عليّ بنِ الجَوزيّ الحنبليّ رحِمَه الله:

إنَّ شهرَ رمضانَ قد انصَرَم وانمَحَق، وتَشتَّتَ نِظامُه بعد أنْ كان اتَّسَق، فكأنّكُم به قد رحَل وانطلَق، يَشهَد لِمَن أطاعَ وعلى مَن فَسَقَ، فأينَ الحُزنُ لفِراقِه وأين القلَق.

ما كان أشرفَ زمانَه بين صومٍ وسهَر، وما كان أصفَى أحوالَه مِن آفاتِ الكَدَر، وما كان أطيبَ المناجاةِ فيه بين وسَط اللَّيل والسَّحَر، وما كان أرَقَّ القلُوبَ عند اشتِغالها بالآيات والسُّوَر، وما كان أضوأَ لَآلِئَه في لَيالِيه جوفَ الغَسَق.

فيا ليت شِعري مَن الّذي قام بواجِباتِه وسُنَنِه، ومَن الذي تَخلَّص مِن آفاتِ الصّومِ([12]) وفِتنِه، ومَن الّذي اجتهَد في عِمارة زَمَنه، ومَن الّذي أخلَص في سِرّه وعَلَنه، ومَن الّذي قرَع فيه بابَ التوبةِ وطرق.

فيا أيها المقبولُ هنيئًا لك بثَوابِه تَثوِي به، وبُشراكَ إذا أمَّنَك الرَبُّ مِن عِقابه، وطوبَى لك حيثُ استَخلصَك لِبابِه([13])، وفَخرًا لك حيث شَغلَك بكِتابه، فاجتَهِد في بَقِيّة شَهرِك هذا قبلَ ذَهابِه، فرُبَّ مُؤمِّلٍ لِقاءَ مِثلِه ما قُدِّر له ولا اتّفَق.

ويا أيها المطرُودُ في شَهرِ السّعادة، خَيبةً لكَ إذا سَبَقَك السّادة، ونَجا المجتَهِدُون وأنتَ أسِيرُ الوِسادة، وانسلَخَ هذا الشّهرُ عَنكَ وما انسلَختَ عن قَبِيح العادَة، فأينَ تلَهُّفكَ على الفَواتِ وأينَ الحُرَق.

فيا إخواني، قد دَنا رحِيلُ هذا الشّهرِ وحان، فرُبَّ مُؤمِّلٍ لِقاءَ مِثلِه خانَه الإمْكان، فودِّعُوه بالأسَف والأحْزان، واندُبوا عليه بألْسُن الأسَى والأشْجان، السلامُ عليكَ([14]) يا شهرَ رمضان، سلامَ مُحبٍّ أوْدَى به القلَق.

السلامُ عليك يا شهرَ ضِياءِ المساجد، السلامُ عليك يا شهرَ الذِّكر والـمَحامِد، السلامُ عليك يا شهرَ زَرْع الحاصِد، السلامُ عليك يا شهرَ المتَعبِّد الزاهِد، السلامُ عليك مِن قَلبٍ لفِراقِك فاقِد، السلامُ عليك مِن عَينٍ لفراقِك في أرَق.

السلامُ عليك يا شهرَ المصابِيح، السلامُ عليك يا شهرَ التراوِيح، السلامُ عليك يا شهرَ الـمَتجَر الرَبِيح، السلامُ عليك يا شهرَ الغُفران الصَرِيح، السلامُ عليك يا شهرَ التَّبَرّي مِن كلِّ فِعل قَبيح، ويا أسَفا على ما اجتَمع فيك مِن الخيراتِ واتّسَق.

فيا ليت شِعري هل تعُود أيّامُك علَينا أم لا تعُود، ويا ليتَنا عَلِمنا مَن المقبُول مِنّا ومَن المطرُود، ويا ليتَنا تَحقَّقْنا ما تَشهَد به علَينا يومَ الورُود، ويا أسَفا لِتَصرُّمِك يا شهرَ السُّعود، ويا حَزَنا على صَفاء القلُوب وإخلاصِ السُّجود، السلامُ عليك مِنْ مُودِّعٍ بتَودِيعِك نطَق.

فرَحِم اللهُ أمرَأً بادَر خَلاصَه في باقِي ساعاتِه، والْتَفَتَ إلى وَقتِه واجتهَد في مُراعاتِه، واستَعدَّ لِسفَرِه بإخلاصِ طاعاتِه، واعتَذرَ في بَقِيّةِ شَهرِه مِن سالِف إضاعاتِه، واعتَبَر بِمَن أَمَّل أنْ يَرى مِثلَ شَهرِه هذا قَبل وَفاتِه، فتَضرَّمَتْ نارُ أجَلِه في عُودِ أمَلِه فاحتَرَق.

أين مَنْ كان معكُم في العام الماضِي، أما قصَدَتْه سِهامُ المنونِ القَواضِي، فخَلا في لَحْدِه بأعمالِه الـمَواضِي، وكان زادُه مِن جَمِيع مالِه الحَنُوطَ والخِرَق.

رحَل واللهِ عن أوطانِه وظَعَن، وأُزعِجَ عن أهلِه والوَطَن، وبَقِي في لَحْدِه أسِيرَ الحَزَن، وما نفَعَه ما جَمَع وما خَزَن، وتَمنَّى أنْ يُعاد لِيَزدادَ مِن الزادِ ولَنْ، ولقَد هتَفَ بِه هاتِفُ الإنذارِ فما فَطِن، وأَصَمَّه الهوَى عن ناصِحٍ قد نطَق. فتَيقَّظْ أيها الغافِلُ وانظُرْ بين يدَيك، واحذَرْ أن يَشهَد شَهرُ رمضانَ بالمعاصِي عليك، وتزَوَّدْ لرَحِيلِك وانصِبِ الأُخرى بين عَينَيك، واستَعِدَّ لِلمَنايا قَبل أنْ تَمُدَّ أيدِيهَا إليك، قبل أنْ يُوثَق الأسِيرُ ويشتَدَّ الزفِيرُ ويَجرِيَ العَرَق.

 

 

[1])) ويجُوز أنْ يَغفِر اللهُ الكبائِرَ بعضَها أو جمِيعَها لِمَن شاءَ، فإنّ رحمةَ اللهِ واسِعةٌ وفضَلَهُ عَظِيمٌ.

[2])) الآيةُ واردةٌ في الّذين يُعطُون الزّكاةَ والصّدَقاتِ وتبقَى قلُوبهُم خائِفةً أنْ لا تُقبَل مِنهُم خَشيةَ دُخولِ العمَلِ خلَلٌ لَم يَعلَمُوا به.

[3])) يَعنِي: الصّالحِينَ.

[4])) أي: خابَ وَفاتَهُ خَيرٌ كَبِيرٌ.

[5])) قال شيخُنا الإمامُ الهررَيّ رحمه الله: «هو حديثٌ ضعِيفٌ لكِن يجوزُ رِوايَتُه معَ البَيان».اهـ. وسببُ ضَعفِه مَدارُه على عليّ بنِ زَيدِ بنِ جُدْعانَ ونقَلَ تَضعِيفَه الحافظ العسقلانيّ.

[6])) أي: ارتكَبُوا مِن الذُّنوب ما يَستحِقُّون العذابَ عليه في النّار إنْ ماتُوا بلا تَوبةٍ ولَم يَعْفُ اللهُ عنهُم.

[7])) حكَى مُفتِي الشّافعيّة بمكّة أحمد زَينِي دَحلانَ رحمه اللهُ في كِتابِه «الدُّرَر السَنِيّة في الرّدِّ على الوهّابِيَة» أنّ رجُلًا قال يومًا لمحمَدِ بنِ عبدِ الوهّابِ الـمُجسِّم (ت1140هـ) مُؤسِّس جماعةِ الوهّابيّة المجسِّمة: كَم يُعتِقُ اللهُ كُلّ ليلةٍ في رَمضانَ؟ قال له: يُعتِقُ في كُلّ لَيلةٍ مائةَ ألْفٍ، وفي آخِر لَيلةٍ يُعتِقُ مِثلَ ما أعتَقَ في الشَّهرِ كُلِّه، فقال له الرّجُل: لَم يَبلُغْ مَنِ اتّبَعَك عُشْرَ مِعْشارِ ما ذكَرتَ، فمَن هؤلاءِ الـمُسلِمُون بَزعمِك الّذِين يُعتِقُهم اللهُ تعالَى وقد حصَرْتَ الـمُسلمِينَ فِيكَ وفِيمَن اتَّبَعكَ؟! فبُهِتَ الّذي كَفَر.

[8])) هو حديثٌ ضعِيفٌ لكِن يجوزُ رِوايَتُه معَ البَيان.

[9])) أي: يُرجَى أنْ تَجبُرا ما تَرتَّب على زَلَلِ العبدِ.

[10])) أي: تُذهِبُ مِن ثَوابِه لا أنّها تُفسِدُ الصِّيامَ.

[11])) أي: وِقايةٌ.

[12])) أي: آفات ما يحصل أثناء الصوم وليس أنّ الصومَ نفسَه آفةٌ، حاشا، إنما الكلامُ على تَجنُّب الآفاتِ المفسِدة للصوم وما يَنقُص الثوابَ أو يُذهِبه.

[13])) أي: طاعاته.

[14])) أي: سلامٌ لنا وأمانٌ دائِم، فهو بمثابة التّودِيع وطلَبِ دَوام السّلام والأمانِ فيه.