الخميس أبريل 18, 2024

الفرق بين النبيّ والرسول

إنَّ معرفةَ النبيّ والرسول والتمييزَ بينهما من مُهمّات الدين، كيف لا وطريق معرفتهم هو طريق لمعرفة ما جاؤوا به وبلّغوه عن الله، فكان من الضروريّ التنبيه على ذلك، خاصة أنَّه قد اشتبه هذا الأمر على كثير من المتأخرين في الشروحات والحواشي، فلم يُحقّقُوا هذه المسألة، فإذا عرفت هذا نقول:

يشترك كلٌّ من الرسول والنبيّ في الوحي، فكلٌّ قد أوحى الله إليه بشرع يعمل به لتبليغه للناس، غير أن الرسول يوحى إليه بنسخ بعض شرع من قبله، أي: بنسخ بعض الأحكام التي كانت في زمن الرسول الذي قبله، أو بشرع جديد، أي: بأحكام لم تُنْزَل على من قبله من الأنبياء.

أما النبيّ غير الرسول فإنه يوحى إليه ليبلّغ شرع الرسول الذي قبله. وقد خفي هذا على كثير من الناس فغلطوا في هذا التعريف وادَّعوا أن النبيَّ أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، وهذا الكلام لا يليق بمقام النبوة، فإن كل أنبياء الله مأمورون بالتبليغ، وكلهم أدّوا ما أُمروا به.

قال الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميميّ البغداديّ([1]) في أصول الدين ما نصّه: «والفرق بينهما – أي: النبيّ والرسول – أن النبيَّ من أتاه الوحي من الله عزَّ وجلَّ ونزل عليه الملك بالوحي، والرسول من يأتي بشرع على الابتداء أو ينسخ بعض أحكام شريعة قبله»([2]).اهـ.

قال المفسر ناصر الدين البيضاوي([3]) في تفسيره ما نصّه: «الرسول مَنْ بعثه الله بشريعة مجدّدَة يدعو الناس إليها، والنبيّ يعمُّه ومَن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام»([4]).اهـ.

وقال العلامة كمال الدين البياضيّ الحنفيّ([5]) في إشارات المرام ما نصّه: «فالنبيّ إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحي إليه، وكذا الرسول، فهو المراد هنا، ولذا اقتصر على الأنبياء»([6]).اهـ. قال في موضع آخر من كتابه المذكور: «الثالثة: أن الرسول من جاء برع مبتدأ، والنبيّ من لم يأت به وإن أُمِرَ بالإبلاغ كما في شرح التأويلات الماتريدية»، إلى أن قال: «واختاره المحققون وصرّح به البيضاويّ في سورة الحج»([7]).اهـ.

وقال الشيخ أحمد الغماريّ([8]) ما نصه: «الفرق بين النبيّ والرسول دقيق وقد خفي على كثير من الناس، والمشهور في كتب المتكلمين في الفرق بينهما أن الرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبيّ إنسان أوحي إليه بشرع فلم يؤمر بتبليغه، وهذا كلام جاهل بالسُّنَّة والأخبار بل وبصريح القرآن، فإن قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] صريح في إرسالهما حقًّا، وكذلك قول النبيّ ﷺ: «وكان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة»([9])، والأخبار والأحاديث التي فيها: «فأوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه أن قل لفلان العابد أو للملك الفلانيّ أو للقرية الفلانية» لا تكاد تنحصر، وهذا هو الإرسال، والذي عندنا أن الرسول يفارق النبيّ في ثلاثة أمور». ثم قال: «الثالثة: أن الرسول يبعث بشريعة مستقلة والنبيّ يبعث بتقرير شريعة من قبله»([10]).اهـ.

ومما يدل على ذلك أيضًا قولُ الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]، أليس هذا الإرسال المذكور في هذه الآية هو إرسال تبليغ ودعوة إلى عبادة الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يوفق بين هذه الآية وبين قولهم: «إن النبيّ أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه»؟ والله عزَّ وجلَّ قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]، وقال تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهم مِّن نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يسْتَهْزِءُونَ} [الزخرف: 6، 7]. فإن الوصف بـ(النذير) في الآية الأولى يقتضي المبالغة في الإنذار وهذا شأن من يُبلّغ العباد أمور الدين حيث الآية الأولى يقتضي المبالغة في الإنذار وهذا شأن من يُبلّغ العباد أمور الدين حيث يدعوهم إلى الإسلام ويخوّفهم العذاب المقيم مرةً بعد مرة، وذكر الاستهزاء من المشركين في الآية الثانية يفهم منه أنه كان مسبوقًا بدعوة تبليغ من النبيّ وإلا فما وجه الاستهزاء حينئذٍ، إنه استهزاء عناد ومكابرة بعد أن بُلّغوا وأُمروا بعبادةِ الواحد القهّار وتركِ ما هم عليه من الشرك.

وقال القونوي النسفيّ([11]) ما نصّه: «والفرق بين النبيّ والرسول أن الرسول مَن بعثه الله تعالى إلى قوم وأنزل عليه كتابًا أو لم ينزل لكن أمره بحكم لم يكن ذلك الحكم في دين الرسول الذي كان قبله، والنبيّ من لم ينزل عليه كتابًا ولم يأمره بحكم جديد؛ بل أمره بأن يدعو الناس إلى دين الرسول الذي كان قبله»([12]).اهـ.

وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} الآية [الحج: 52]، فالله تعالى قال: {أَرْسَلْنَا}، ثم في قوله سبحانه: {مِن رَّسُولٍ ولَا نَبِيٍ} إطلاق الإرسال على النبيّ والرسول، ويكفي هذا دليلًا على أن النبيّ يبلّغ، وعلى بطلان قول من يقول إن النبيَّ ليس مأمورًا بالتبليغ؛ إذ لا معنى للإرسال بدون الأمر بالتبليغ، فالرسول والنبيّ كلاهما مأموران بالتبليغ، إنما الفرق بينهما بما سوى ذلك كالذي ذكره الإمام عبد القاهر بن طاهر التميميّ الذي وصفه ابن حجر الهيتميّ([13]) بقوله: «الإمام الكبير إمام أصحابنا»([14]).اهـ.

وهذا الذي كان عليه المتقدمون، فلا عبرة بالرأي الذي ذكره بعض المتأخرين المخالف للنص ولِـما قاله المتقدمون، ولا تَغْتَرَّ بكثرة وقوعه في المصنَّفات، فإنَّ الأئمة المحققين في علم الكلام ردّوه، وإنَّما وقع هذا التعريف الفاسد في عبارات المتأخرين حيث ينقل أحدهم عن الآخر بمحض التقليد دونما تحقيق.

وقال شيخنا شيخ الإسلام المحدّث عبد الله الهرريّ رحمه الله: «والنبيّ غير الرسول يُوحى إليه ليتّبع شرع رسول قبلَه ليبلّغه. وهذا الفرق بين النبيّ والرسول هو الصحيح، وأما ما ذكره بعض المتأخرين في مؤلفاتهم من أن النبيّ مَنْ أُوحيَ إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه فهو فاسد بعيد من معنى النبوة فليُحذر، وهذا التفسير الصحيح ذكره كثير كالإمام الجليل شيخ الشافعية والأشاعرة أبي منصور البغدادي والقونويّ شارح الطحاوية والـمُناويّ، فلذلك قال العلماء: كلّ رسول نبيّ وليس كلّ نبيّ رسولًا ثم أيضًا يفترقان في أن الرسالة يوصف بها الملَك والبشر والنبوة لا تكون إلا في البشر، لأنّ الرسل أفضل من الأنبياء غير الرسل، فكلّ من كان رسولًا هو نبيّ، وليس كلّ من كان نبيًّا هو رسول. الملائكة فيهم رسل منهم جبريل عليه السلام فهو رسول من الملائكة، كذلك يوجد غيره يرسله الله إلى الملائكة ليبلّغ الوحي، الله تعالى يأمرهم بأن يبلّغوا طائفة من الملائكة بأمرٍ، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، أي: الله يختار من بين الملائكة رسلًا ومن بين البشر رسلًا فجبريل سفير بين الله وبين الأنبياء والرسل من البشر، وبين الله وبين الملائكة أيضًا»([15]).اهـ.

[1])) عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله البغداديّ التميميّ الأسفرايينيّ (ت429هـ)، أبو منصور، عالم متفنن، من أئمة الأصول. كان صدر الإسلام في عصره. ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان فاستقر في نيسابور. وفارقها على أثر فتنة التركمان، قال السبكي: «ومن خراب نيسابور اضطرار مثله إلى مفارقتها».اهـ. ومات في أسفرائين. كان يدرس في سبعة عشر فنًّا. من تصانيفه: (أصول الدين)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(الفرق بين الفرق). طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، (5/137). الأعلام، الزركلي، (4/48).

[2])) أصول الدين، أبو منصور التميميّ البغداديّ، (ص154).

[3])) عبد الله بن عمر بن محمد بن عليّ الشيرازيّ، أبو سعيد، أو أبو الخير، ناصر الدين البيضاويّ (ت685هـ)، قاض مفسر. ولد في المدينة البيضاء بفارس قرب شيراز وولي قضاء شيراز مدة. وصرف عن القضاء، فرحل إلى تبريز فتوفي فيها. من تصانيفه: (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، و(منهاج الوصول إلى علم الأصول)، و(لب اللباب في علم الإعراب). بغية الوعاة، السيوطيّ، (ص286). الأعلام، الزركلي، (4/110).

[4])) أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاويّ، (4/57).

[5])) أحمد بن حسن بن سنان الدين (ت1098هـ)، قاض فاضل، بوسنويّ الأصل. ولد في إستانبول وأخذ عن علمائها، وولي قضاء حلب، ثم بروسه ثم مكة فإستانبول، وتوفي في قرية قريبة منها. له تآليف بالعربية، منها: (إشارات المرام من عبارات الإمام) في فقه الحنفية، و(سوانح العلوم)، و(الفقه الأبسط). الأعلام، الزركلي، (1/112).

[6])) إشارات المرام من عبارات الإمام، البياضيّ، (ص311).

[7])) إشارات المرام من عبارات الإمام، البياضيّ، (ص333).

[8])) أحمد بن محمد بن الصديق بن أحمد، أبو الفيض الغماريّ الحسنيّ الأزهريّ (ت1380هت)، مغربيّ من نزلاء طنجة. تعلم في الأزهر، واستقر وتوفي بالقاهرة. عرف بابن الصديق كأبيه. له كتب منها: (رياض التنزيه في فضل القرآن وحامليه)، و(المعجم الوجيز للمستجيز). الأعلام، الزركلي، (1/253).

[9])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب الصلاة، باب: قول النبيّ r: «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، (1/119)، رقم 328. ومتن الحديث: «عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبيَّ r قال: «أُعطيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحد قبلي، نُصرت بالرعب مسيرة شهر =وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أُمّتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأُحِلّت لي المغانم ولم تحلَّ لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة، وكان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة»».اهـ.

[10])) جؤنة العطار في طرف الفوائد ونوادر الأخبار، الغماريّ، (ص40، 41).

[11])) محمود بن أحمد بن مسعود بن عبد الرحمن القونوي، أبو الثناء، جمال الدين (ت77هـ)، قاضٍ من فقهاء الحنفية. له مشاركة في العلوم العقلية. من أهل دمشق. ولي قضاءها. من كتبه: (بغية القنية) في الفقه، و(المنتهى) في شرح المغني في الأصول، و(الزبدة شرح العمدة) في أصول الدين. الأعلام، الزركلي، (7/162).

[12])) القلائد شرح العقائد، القونوي، (ص34)، مخطوط.

[13])) أحمد بن محمد بن عليّ بن حجر الهيتميّ السعديّ الأنصاريّ (ت974هـ)، شهاب الدين، أبو العباس، فقيه باحث مصريّ، مولده في محلة أبي الهيتم (من إقليم الغربية بمصر) وإليها نسبته. تلقى العلم في الأزهر، ومات بمكة. له تصانيف، منها: (مبلغ الأرب في فضائل العرب)، و(الجوهر المنظم)، و(تحفة المحتاج لشرح المنهاج) في فقه الشافعية. الأعلام، الزركلي، (1/234).

[14])) الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم، الهرري، (380).

[15])) الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم، الهرري، (420، 421).