قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير»([1]): «قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}: ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}» ثم قال: «{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي متمم عمرك فحينئذٍ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن».
ثم نقل الرازي عن بعض المفسرين([2]) قالوا: «إن قوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يقتضي أنه رفعه حيًّا، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى إني رافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرءان. والمراد بقوله تعالى: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعًا إليه للتفخيم والتعظيم، ومثله قوله {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99]، أي إلى طاعة ربي، أي إلى حيث وَجَّهني ربي، إلى مكانٍ أمرني الله أن أذهب إليه، وإنما ذهب إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العراق إلى بَرّ الشام لأنه عرفَ، بتعريف الله إياه، أن الشام مهبط الرحمات وأن أكثر الوحي يكونُ بالشام وأن أكثر الأنبياء كانوا بها، وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، فكذا ههنا». اهـ.
ومثل ذلك قال القرطبي في تفسيره([3]): «الجامع لأحكام القرءان» سنة 1373هـ في شرحه لهذه الآية.
ومن أمثلة التقديم والتأخير في القرءان الكريم قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 5]، ومعروف أن النبات يكون أولاً طريًا أخضر اللون ثم يجف وييبس، وأما الآية ففيها {غُثَاءً} أي يابسًا، ثم جاء فيها {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي أخضر، والمعنى أنه بعد الخضرة يجف وييبس لكن التقديم والتأخير من أساليب البلاغة.
وليس صحيحًا أن عيسى عليه الصلاة والسلام عندما رُفع إلى السماء كان ميتًا ثم أحياه الله في السماء، هذا كذب يجب الحذر منه، وقال القرطبي في تفسيره عن هذا القول: «وهذا فيه بعد».اهـ
وليس صحيحًا أنه رفع نائمًا، بل الصحيح والمعتمد أنه رفع إلى السماء حيًا يقظان، وهذه معجزة عظيمة له عليه الصلاة والسلام.
ومن سخافة عقول الوهابية أنهم احتجوا بهذه الآية على أن الله تعالى في السماء ورفع عيسى «حقيقة» إليه، وهذا من أسخف السخافات، لأن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض والجهات كلها، يعني كان موجودًا قبلها، فعلى زعم ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وابن باز ومحمد خليل هراس ومحمد العريفي الوهابية، أن الله تعالى بذاته حقيقة في السماء ورفع المسيح حقيقة إليه، فعلى زعمهم أين كان الله قبل أن كان قبل أن يخلق السماء؟! وإن كان كما زعموا فقد جعلوا الله تعالى مع المسيح في السماء الثانية حقيقة، وعلى قولهم هذا فقد جعلوا الله تحت أقدام الملائكة الذين في السماء الثالثة، وجعلوا الله تعالى جسمًا تحاصره السماوات، وجعلوا الله محتاجًا إلى خلقه، وجعلوا الله متغيرًا متطورًا متبدلًا عاجزًا ضعيفًا يتغير من حال إلى حال، والتغير أكبر علامات الحدوث، وتنزه الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وإليكم نصوص عباراتهم التي تدل على جهلهم العريض.
يقول شيخ المجسمة والمشبهة أحمد بن تيمية الحراني في كتابه المسمى «بيان تلبيس الجهمية»([4]): «قال تعالى: {إذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وأجمعت الأمة على أن الله عزّ وجلّ رفع عيسى إليه إلى السماء». اهـ.
ويقول تلميذه الذي جمع كتبه وعقيدته المخالفة لكتاب الله وسُنَّة نبيّه وإجماع الأمة ابن قيم الجوزية في كتابه المسمى «نونية ابن قيم» مع شرح الوهابي العنيد محمد خليل هراس عليها ما نصه([5]): «وإليه رفع المسيح حقيقة ولسوف ينزل كي يرى بعيان». اهـ. هذا الوهابي المجسم محمد خليل هراس يقول شارحًا لهذا البيت مفتريًا على الله ودينه وأهل السُّنَّة والجماعة: «هذا من جملة كلام أهل السُّنَّة والجماعة في إثبات الفوقية لله عزّ وجلّ على الحقيقة حيث أخبر سبحانه أنه رفع عيسى عليه السلام إليه بجسده وروحه حيًّا كما قال تعالى: {إذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}» اهـ.
وقال مثل ذلك ابن باز مفتي الوهابية مستشهدًا بهذه الآية بزعمه في إثبات الجهة لله تعالى، ذكر ذلك في موقعه الرسمي على الإنترنت.
ومثل ذلك قال الوهابي محمد العريفي المجسم ناقلًا عن ابن باز كذلك في موقعه الرسمي على الإنترنت.
وهكذا قال تابعهم عبد الهادي حسن وهبي في كتابه المسمى «غاية البيان في إثبات علو الرحمن» طبعة ما يسمى جمعية السراج المنير الطبعة الأولى.
ومن عجيب تناقضاتهم أنه وافقهم في هذه العقيدة ثم كفّرهم عليها فهو قال في هذا الكتاب ما نصه([6]): «وليس المراد بأن السماء تحصر الرب وتحويه كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما فإن هذا لا يقوله مسلم ولا يعتقده عاقل». اهـ.
فكيف يتفق هذا مع قول ابن قيم: «إن الله رفع المسيح إليه حقيقة»؟
فهم متناقضون يكفر بعضهم بعضًا.
وقول ابن قيم ومن وافقه إن الله حقيقة في السماء الثانية، يؤدي إلى أن الله محصور بلا شك، وقد كفرهم الإمام جعفر الصادق على ذلك. قال رضي الله عنه: «من زعم أن الله تعالى في شيء أو من شيء أو على شيء فقد أشرك، إذ لو كان في شيء لكان محصورًا، ولو كان من شيء لكان محدثًا، ولو كان على شيء لكان محمولاً». رواه القشيري في الرسالة القشيرية([7]). قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا}. فهل الله بزعمكم يكون طاويًا ومطويًا في آن واحد.
فلا مفر ولا مهرب للوهابية وأئمتها من الكفر والضلال إلا بأن يتركوا ما هم عليه ويرجعوا إلى مذهب أهل السُّنَّة والجماعة من التنزيه والتوحيد.
الله تعَالى غَنِيٌّ عن العَالمينَ أي مُسْتَغنٍ عَن كُلّ ما سِوَاهُ أَزَلًا وأَبَدًا فَلا يَحْتَاجُ إلى مَكَانٍ يتحيز فيه أو شَيءٍ يَحُلُّ به أو إلى جِهَةٍ لأنه ليس كشيءٍ منَ الأشياء ليس حجمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا والتحيزُ من صفاتِ الجسمِ الكثيفِ واللطيفِ فالجسمُ الكثيفُ والجسمُ اللطيفُ متحيزٌ في جهةٍ ومكانٍ قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 33، 34] فأثبتَ الله تعالى لكل من الأربعة التحيز في فلكه وهو المدار.
ويَكفِي في تَنزِيهِ الله عن الـمَكَانِ والحَيّزِ والجِهَةِ قَولُه تَعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] لأنه لَو كَانَ لَه مَكانٌ لَكَانَ لَهُ أَمثَالٌ وأبعَادٌ طُولٌ وعَرْضٌ وعُمْقٌ، ومَنْ كَانَ كذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا مُحْتَاجًا إلى من حَدَّهُ بِهَذَا الطُّولِ وبِهَذَا العَرْضِ وبِهَذَا العُمْقِ، هذَا الدليلُ منَ القُرءانِ.
أمَّا مِنَ الحَدِيثِ فما رَواه البُخَارِيُّ وابنُ الجارودِ والبَيْهقيُّ بالإسْنادِ الصَّحِيحِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: «كانَ الله ولَم يكن شَيءٌ غَيرُهُ»، ومَعناهُ أنَّ الله لم يَزَلْ مَوْجُودًا في الأَزَلِ لَيسَ مَعَهُ غيرُه لا مَاءٌ ولا هَواءٌ ولا أَرْضٌ ولا سَماءٌ ولا كُرْسيٌّ ولا عَرْشٌ ولا إنْسٌ ولا جِنٌّ ولا مَلائِكَةٌ ولا زَمَانٌ ولا مَكانٌ ولا جِهاتٌ، فَهُو تَعَالَى مَوجُودٌ قَبْلَ الـمَكَانِ بِلا مَكَانٍ، وهُو الّذي خَلَقَ الـمَكَانَ فَلَيسَ بِحَاجَةٍ إلَيهِ، وهَذا ما يُسْتَفادُ منَ الحدِيثِ الـمَذْكُورِ.
وقالَ البيهقيُّ في كتابِه «الأسماءُ والصّفَاتُ»: «اسْتَدَلَّ بَعْضُ أصْحَابِنا في نَفْي الـمَكَانِ عَنْهُ بِقَولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيسَ فَوقَكَ شَيءٌ وأَنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُوْنَكَ شيءٌ» رواه مسلم، وإذَا لَم يَكُن فوقَهُ شَيءٌ وَلا دُونَهُ شَيءٌ لَم يَكُن فِي مَكَانٍ». اهـ.
وهَذَا الحَدِيثُ فِيه الرّدُّ أَيضًا عَلى القَائِلينَ بالجِهَةِ في حَقّهِ تَعَالَى. وقَد قَالَ عليٌّ رضيَ الله عنه: «كانَ الله ولا مكانَ وهوَ الآنَ على ما عليْهِ كَانَ» رواهُ أبو منْصُورٍ البَغْدَادِيُّ.
ولَيْسَ مِحْورُ الاعْتِقَادِ علَى الوَهْمِ بَل عَلَى ما يَقْتَضِيهِ العَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الذي هُوَ شَاهِدٌ للشَّرْعِ، وذَلِكَ أن المحدودَ محتاجٌ إلى من حدَّه بذلكَ الحدّ فلا يكُون إلٰهًا.
فَكَمَا صَحَّ وجُودُ الله تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَجِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ والجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وجُودُهُ بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ بِلا مَكَانٍ وجِهَةٍ، وهَذَا لا يكونُ نَفيًا لِوجُودِهِ تَعَالى كما زعمت المشبّهةُ والوهابيّةُ وهم الدُّعاةُ إلى التّجسيمِ في هذا العصرِ.
وحُكْمُ مَن يَقُولُ: «إنَّ الله تَعالى في كُلّ مَكَانٍ أَو في جَمِيع الأَمَاكِنِ» التَّكْفِيْرُ إذا كَانَ يَفهَم من هَذِهِ العِبَارَةِ أنَّ الله بذاتِهِ مُنْبَثٌّ أوْ حَالٌّ في الأَمَاكِنِ، أَمَّا إذا كَانَ يَفْهَمُ مِنْ هَذِهِ العِبَارَةِ أَنَّهُ تَعَالى مُسَيطِرٌ عَلَى كُلّ شَيءٍ وعَالِمٌ بكُلّ شَيءٍ فلا يكفُرُ، وهَذَا قَصْدُ كَثِيْرٍ مِمَّن يَلْهَجُ بِهَاتَيْن الكَلِمَتَينِ، ويَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُمَا على كُلّ حَالٍ، لأنهما ليستا صادرتين عن السّلَف بل عن المعتزلة ثم استعملهما جهلَةُ العَوامّ.
ونَرفَعُ الأَيدِيَ في الدُّعاءِ للسَّمَاءِ لأَنَّها مَهْبِطُ الرَّحمَاتِ والبَركاتِ ولَيْسَ لأَنَّ الله مَوجودٌ بِذَاتِهِ في السَّمَاءِ، كَما أنّنَا نَسْتَقْبِلُ الكَعْبَة الشَّرِيْفَة في الصَّلاةِ لأَنَّ الله تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ وَلَيْسَ لأَنَّ لَهَا مِيزَةً وخُصوصِيَّةً بسُكْنى الله فيها.
ويكْفُر من يَعتقدُ التّحيُّزَ لله تَعالى، أوْ يَعتقِدُ أنَّ الله شَيءٌ كالهَواءِ أوْ كالنُّورِ يَملأُ مكَانًا أو غُرفةً أو مَسْجدًا ويُرَدُّ على المعتقدِين أنَّ الله متحيزٌ في جهةِ العلوِ ويقولون لذلك تُرفعُ الأيدي عند الدعاء بما ثَبتَ عن الرسولِ أنه استَسْقَى أي طلَبَ المطَرَ وجعلَ بَطْنَ كفَّيهِ إلى الأرضِ وظاهرَهُمَا إلى السماءِ وبأنه صلى الله عليه وسلم نهَى المصلي أن يرفعَ رأسَهُ إلى السماءِ، ولو كان الله متحيزًا في جهةِ العلوِ كما تظنُّ المشبهةُ ما نهانا عن رفعِ أبصارِنا في الصلاةِ إلى السماءِ، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه المسبحة عند قول «إلا الله» في التحيات ويحنيها قليلًا فلو كان الأمرُ كما تقولُ المشبهةُ ما كان يحنيها بل يرفعُها إلى السماءِ وكلُّ هذا ثابتٌ حديثًا عند المحدِّثين. فماذا تفعلُ المشبهةُ والوهابيةُ؟!
ونسمّي المسَاجِدَ بُيوتَ الله لا لأنَّ الله يَسكنُها بل لأنَّها أمَاكنُ مُعَدَّة لذكرِ الله وعبادتِهِ، ويقالُ في العرشِ إنه جرمٌ أعدَّه الله ليَطوفَ به الملائكةُ كما يطوف المؤمنونَ في الأرض بالكعبةِ. وفي البخاري أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فلو تُرك الحديث على ظاهره لكان الله بزعمهم تحت الأرض أي تحت رجلي المصلي والعياذ بالله.
([1]) التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد الرابع الجزء 8 ص60).
([3]) الجامع لأحكام القرءان (طبعة دار الكتب المصرية سنة 1373هـ).
([4]) بيان تلبيس الجهمية (في الجزء الرابع من طبعة المملكة العربية السعودية وزارة ما يسمى الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوى والإرشاد مجمع الملك فهد للطباعة المصحف الشريف سنة.
([5]) نونية ابن قيم (طبعة مطبعة الإمام مصر ص70).
([6]) غاية البيان في إثبات علو الرحمن (ص27).
([7]) الرسالة القشيرية (طبعة دار الجيل بيروت سنة 1410هـ الطبعة الثانية ص46).