الجمعة مارس 29, 2024

إِثْبَاتُ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ شِرْكًا كَمَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ

 

   (اعْلَمْ) أَنَّ التَّوَسُّلَ هُوَ طَلَبُ حُصُولِ مَنْفَعَةٍ أَوِ انْدِفَاعِ مَضَرَّةٍ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرِ اسْمِ نَبِىٍّ أَوْ وَلِىٍّ إِكْرَامًا لِلْمُتَوَسَّلِ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أُمُورَ الدُّنْيَا عَلَى الأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ مَعَ (أَنَّهُ) قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعْطِيَنَا الثَّوَابَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقُومَ بِالأَعْمَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾ وَقَالَ ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ أَىِ اطْلُبُوا كُلَّ شَىْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ يَعْنِى هَذِهِ الأَسْبَابَ اعْمَلُوا الأَسْبَابَ فَنُحَقِّقَ لَكُمُ الْمُسَبَّبَاتِ نُحَقِّقُ لَكُمْ مَطَالِبَكُمْ بِهَذِهِ الأَسْبَابِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَحْقِيقِهَا بِدُونِ هَذِهِ الأَسْبَابِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ لَنَا لِتَحْقِيقِ مَطَالِبَ لَنَا التَّوَسُّلَ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِى حَالِ حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ فَنَحْنُ نَسْأَلُ اللَّهَ بِهِمْ رَجَاءَ تَحْقِيقِ مَطَالِبِنَا فَنَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِجَاهِ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ بِحُرْمَةِ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ تَقْضِىَ حَاجَتِي وَتُفَرِّجَ كَرْبِى أَوْ نَقُولُ اللَّهُمَّ بِجَاهِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلانِىِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَ(لا دَلِيلَ حَقِيقِىٌّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ فِى حَالِ الْغَيْبَةِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ) وَإِنَّمَا حَرَّمَ ذَلِكَ الْوَهَّابِيَّةُ (بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ) فَشَذُّوا بِذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ (لِأَنَّهُ لَيْسَ عِبَادَةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ مُجَرَّدَ النِّدَاءِ لِحَىٍّ أَوْ مَيِّتٍ وَلا مُجَرَّدَ التَّعْظِيمِ وَلا مُجَرَّدَ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلا مُجَرَّدَ قَصْدِ قَبْرِ وَلِىٍّ لِلتَّبَرُّكِ وَلا مُجَرَّدَ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنِ النَّاسِ وَلا مُجَرَّدَ صِيغَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَىْ لَيْسَ ذَلِكَ شِرْكًا لِأَنَّهُ لا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْعِبَادَةِ عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ) بَلْ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ فِى تَفْسِيرِهِمْ لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ (لِأَنَّ الْعِبَادَةَ عِنْدَهُمُ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ. قَالَ الأَزْهَرِىُّ الَّذِى هُوَ أَحَدُ كِبَارِ اللُّغَوِيِّينَ فِى كِتَابِ تَهْذِيبِ اللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ الزَّجَّاجِ الَّذِى هُوَ مِنْ أَشْهَرِهِمْ »الْعِبَادَةُ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ« وَقَالَ مِثْلَهُ) إِمَامُ اللُّغَوِيِّينَ الَّذِينَ أَلَّفُوا فِى لُغَةِ الْعَرَبِ (الْفَرَّاءُ كَمَا فِى لِسَانِ الْعَرَبِ لِابْنِ مَنْظُورٍ) وَبِهَذَا فَسَّرُوا الآيَةَ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أَىْ نُطِيعُكَ الطَّاعَةَ الَّتِى مَعَهَا الْخُضُوعُ وَالْخُضُوعُ مَعْنَاهُ التَّذَلُّلُ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) الْعِبَادَةُ (أَقْصَى غَايَةِ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ) وَهَذَا قَوْلُ السُّبْكِىِّ فِى فَتَاوِيهِ وَعِبَارَتُهُ أَقْصَى غَايَةِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ (وَقَالَ بَعْضٌ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلامِ شَارِحِ الْقَامُوسِ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىِّ خَاتِمَةِ اللُّغَوِيِّينَ) فِى تَاجِ الْعَرُوسِ (وَهَذَا الَّذِى يَسْتَقِيمُ لُغَةً وَعُرْفًا. وَلَيْسَ مُجَرَّدُ التَّذَلُّلِ عِبَادَةً لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِلَّا لَكَفَرَ كُلُّ مَنْ يَتَذَلَّلُ لِلْمُلُوكِ وَالْعُظَمَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُعَاذَ بنَ جَبَلٍ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ الرَّسُولُ »مَا هَذَا« فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ) وَالْبِطْرِيقُ مِنَ الرُّومِ كَالْقَائِدِ مِنَ الْعَرَبِ (وَأَسَاقِفَتِهِمْ) أَىْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى (وَأَنْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ فَقَالَ »لا تَفْعَلْ لَوْ كُنْتُ ءَامُرُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا« رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا. وَلَمْ يَقُلْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرْتَ وَلا قَالَ لَهُ أَشْرَكْتَ مَعَ أَنَّ سُجُودَهُ لِلنَّبِىِّ مَظْهَرٌ كَبِيرٌ مِنْ مَظَاهِرِ التَّذَلُّلِ) وَالسُّجُودُ لإِنْسَانٍ وَلَوْ لِنَبِـىٍّ حَرَامٌ فِى الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَوْ كَانَ بِقَصْدِ التَّحِيَّةِ (فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ الشَّخْصَ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الأَوْلِيَاءِ لِلتَّبَرُّكِ فَهُمْ جَهِلُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَخَالَفُوا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا لَمْ يَزَالُوا يَزُورُونَ قَبْرَ النَّبِىِّ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ مَعْنَى الزِّيَارَةِ لِلتَّبَرُّكِ أَنَّ الرَّسُولَ يَخْلُقُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمُ الْبَرَكَةَ بِزِيَارَتِهِمْ لِقَبْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ) فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ (بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ مَالِكِ الدَّارِ وَكَانَ خَازِنَ عُمَرَ قَالَ أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ) أَىْ وَقَعَتْ مَجَاعَةٌ (فِى زَمَانِ عُمَرَ) أَىْ فِى خِلافَتِهِ انْقَطَعَ الْمَطَرُ عَنْهُمْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (فَجَاءَ رَجُلٌ) أَىْ مِنَ الصَّحَابَةِ (إِلَى قَبْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ لِأُمَّتِكَ) مَعْنَاهُ اطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الْمَطَرَ لِأُمَّتِكَ (فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا فَأُتِىَ الرَّجُلُ فِى الْمَنَامِ) أَىْ أُرِىَ فِى الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ (فَقِيلَ لَهُ أَقْرِئْ عُمَرَ السَّلامَ) أَىْ سَلِّمْ لِى عَلَيْهِ (وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ) أَىْ سَيَأْتِيهِمُ الْمَطَرُ ثُمَّ سَقَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى سُمِّىَ ذَلِكَ الْعَامُ عَامَ الْفَتْقِ مِنْ شِدَّةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الأَعْشَابِ وَسَمِنَتِ الْمَوَاشِى حَتَّى تَفَتَّقَتْ بِالشَّحْمِ ثُمَّ قَالَ (وَقُلْ لَهُ عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ) أَىْ عَلَيْكَ بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا تَرَكْتَ فِعْلَهُ مِمَّا يَنْبَغِى لِتَزُولَ هَذِهِ النَّازِلَةُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ (فَأَتَى الرَّجُلُ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ يَا رَبِّ مَا ءَالُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ) أَىْ لا أُقَصِّرُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ أَىْ سَأَفْعَلُ مَا فِى وُسْعِى لِخِدْمَةِ الأُمَّةِ (وَقَدْ جَاءَ فِى تَفْسِيرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ بِلالُ بنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِىُّ الصَّحَابِىُّ) رَوَاهُ سَيْفٌ فِى الْفُتُوحِ كَمَا فِى فَتْحِ الْبَارِي. وَقَوْلُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ مَالِكَ الدَّارِ مَجْهُولٌ يَرُدُّهُ أَنَّ عُمَرَ لا يَتَّخِذُ خَازِنًا إِلَّا خَازِنًا ثِقَةً وَقَدْ وَثَّقَهُ الْحَافِظُ الْخَلِيلِىُّ فِى كِتَابِهِ الإِرْشَادِ وَمُحَاوَلَتُهُمْ لِتَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَمَا صَحَّحَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ لَغْوٌ لا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ فَمَا حَصَلَ مِنْ هَذَا الصَّحَابِىِّ اسْتِغَاثَةٌ وَتَوَسُّلٌ. وَبِهَذَا الأَثَرِ يَبْطُلُ أَيْضًا قَوْلُ الْوَهَّابِيَّةِ إِنَّ الِاسْتِغَاثَةَ بِالرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ شِرْكٌ (فَهَذَا الصَّحَابِىُّ قَدْ قَصَدَ قَبْرَ الرَّسُولِ لِلتَّبَرُّكِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ وَلا غَيْرُهُ فَبَطَلَ دَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَارَةَ شِرْكِيَّةٌ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ وَلِىُّ الدِّينِ الْعِرَاقِىُّ فِى حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ مُوسَى) عَلَيْهِ السَّلامُ (قَالَ »رَبِّ أَدْنِنِى مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ«) أَىْ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَجَعَلَ اللَّهُ وَفَاتَهُ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهَا وَالأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ تَبْدَأُ مِنَ الْجِبَالِ الَّتِى بَعْدَ أَرِيحَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ (وَأَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ »وَاللَّهِ لَوْ أَنِّى عِنْدَهُ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ«) الَّذِى هُوَ قُرْبَ أَرِيحَا وَ(فِيهِ اسْتِحْبَابُ مَعْرِفَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ لِزِيَارَتِهَا وَالْقِيَامِ بِحَقِّهَا اهـ) أَىْ أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ عَنْ قَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فِيهِ الإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ مَطْلُوبَةٌ وَعَلَى هَذَا كَانَ الأَكَابِرُ وَعَلَى ذَلِكَ نَصُّوا (وَقَالَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ حَدَّثَنِى سَالِمُ التَّلِّ قَالَ »مَا رَأَيْتُ اسْتِجَابَةَ الدُّعَاءِ أَسْرَعَ مِنْهَا عِنْدَ هَذَا الْقَبْرِ وَحَدَّثَنِى الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُونُسَ الْمَعْرُوفُ بِالأَرْمَنِىِّ أَنَّهُ زَارَ هَذَا الْقَبْرَ وَأَنَّهُ نَامَ فَرَأَى فِى مَنَامِهِ قُبَّةً عِنْدَهُ وَفِيهَا شَخْصٌ أَسْمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ أَوْ قَالَ نَبِىُّ اللَّهِ فَقَالَ نَعَمْ فَقُلْتُ قُلْ لِى شَيْئًا فَأَوْمَأَ إِلَىَّ بِأَرْبَعِ أَصَابِعَ وَوَصَفَ طُولَهُنَّ فَانْتَبَهْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا قَالَ فَأَخْبَرْتُ الشَّيْخَ ذَيَّالًا بِذَلِكَ فَقَالَ يُولَدُ لَكَ أَرْبَعَةُ أَوْلادٍ فَقُلْتُ أَنَا قَدْ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً لَمْ أَقْرَبْهَا فَقَالَ تَكُونُ غَيْرُ هَذِهِ فَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى فَوَلَدَتْ لِى أَرْبَعَةَ أَوْلادٍ« انْتَهَى) ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَاسْمُهُ الْحَافِظُ سِرَاجُ الدِّينِ بنُ الْمُلَقِّنِ هَذَا تُوُفِّىَ بَعْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ بِنَحْوِ سِتِّينَ سَنَةً وَهُوَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ ذَكَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ »ذَهَبْتُ إِلَى قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِىِّ وَقَفْتُ وَدَعَوْتُ اللَّهَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ فَالأَمْرُ الَّذِى كَانَ يَصْعُبُ عَلَىَّ يَنْقَضِى عِنْدَمَا أَدْعُو اللَّهَ هُنَاكَ عِنْدَ قَبْرِهِ«، هَذَا مَعْرُوفٌ الْكَرْخِىُّ مِنَ الأَوْلِيَاءِ الْبَارِزِينَ الْمَشْهُورِينَ فِى بَغْدَادَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ يَقْصِدُونَ قَبْرَهُ لِلتَّبَرُّكِ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِىُّ فِى تَارِيخِ بَغْدَادَ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّلَفِ مِمَّنْ كَانَ فِي زَمَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَاسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِىُّ أَبُو إِسْحَاقَ وَكَانَ حَافِظًا فَقِيهًا مُجْتَهِدًا يُشَبَّهُ بِأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَكَانَ الإِمَامُ أَحْمَدُ يُرْسِلُ ابْنَهُ لِيَتَعَلَّمَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ أَنَّهُ قَالَ قَبْرُ مَعْرُوفٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ وَالتِّرْيَاقُ هُوَ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الأَطِبَاءِ الْقُدَامَى مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ شَبَّهَ الْحَرْبِىُّ قَبْرَ مَعْرُوفٍ بِالتِّرْيَاقِ فِى كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ فَكَأَنَّ الْحَرْبِىَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ اقْصِدُوا قَبْرَ مَعْرُوفٍ تَبَرُّكًا بِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَنَافِعِهِ. وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِىُّ فِى تَارِيخَ بَغْدَادَ عَنِ الشَّافِعِىِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ »إِنِّى لَأَتَبَرَّكُ بِأَبِى حَنِيفَةَ وَأَجِىءُ إِلَى قَبْرِهِ فِى كُلِّ يَوْمٍ يَعْنِى زَائِرًا فَإِذَا عَرَضَتْ لِى حَاجَةٌ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَجِئْتُ إِلَى قَبْرِهِ وَسَأَلْتُ اللَّهَ تَعَالَى الْحَاجَةَ عِنْدَهُ فَمَا تَبْعُدُ عَنِّى حَتَّى تُقْضَى«. وَنَخْتِمُ هَذَا الْمَقَالَ بِقَوْلِ الإِمَامِ مَالِكٍ لِلْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ لَمَّا حَجَّ فَزَارَ قَبْرَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ مَالِكًا قَائِلًا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلِ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعَهُ اللَّهُ ذَكَرَهُ الْقَاضِى عِيَاضٌ فِى كِتَابِ الشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ الْمُصْطَفَى. فَكَيْفَ تَجَرَّأَ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَتَكْفِيرِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ فَمَا أَعْظَمَ مَا تَرَتَّبَ مِنْ كَلامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذَا مِنْ تَكْفِيرِ أَتْبَاعِهِ الْوَهَّابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ وَالأَوْلِيَاءَ أَسْبَابٌ فَقَطْ لا يَخْلُقُونَ مَنْفَعَةً وَلا مَضَرَّةً فَكُلُّ إِثْمِ تَكْفِيرِ هَؤُلاءِ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ فِى صَحَائِفِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ هَذَا (وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِى الْمُسْنَدِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ) فِى فَتْحِ الْبَارِى (أَنَّ الْحَارِثَ بنَ حَسَّانٍ الْبَكْرِىَّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ« الْحَدِيثَ بِطُولِهِ دَلِيلٌ يُبْطِلُ قَوْلَ الْوَهَّابِيَّةِ الِاسْتِعَاذَةُ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ) وَوَجْهُ الدَّلِيلِ فِى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَقُلْ لِلْحَارِثِ أَشْرَكْتَ لِقَوْلِكَ »وَرَسُولِهِ« حَيْثُ اسْتَعَذْتَ بِى وَقَدْ جَمَعَ الْحَارِثُ الِاسْتِعَاذَةَ بِالرَّسُولِ مَعَ الِاسْتِعَاذَةِ بِاللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَمُسْتَعَاذٌ بِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ سَبَبٌ. وَالْحَارِثُ جَاءَ لِيَطْلُبَ مِنَ الرَّسُولِ أَرْضًا فَوَجَدَ فِى طَرِيقِهِ امْرَأَةً لَهَا حَاجَةٌ عِنْدَ النَّبِىِّ فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ فَلَمَّا أَوْصَلَهَا إِلَى الرَّسُولِ فَإِذَا بِهَا تَذْكُرُ لِلرَّسُولِ مَا عِنْدَهَا فَتَبَيَّنَ لِلْحَارِثِ أَنَّ حَاجَتَهَا مِثْلُ حَاجَتِهِ فَقَالَ الصَّحَابِىُّ »أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ« يَعْنِى أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ خَائِبًا فِى أَمَلِى الَّذِى أَمَّلْتُهُ مَعْنَاهُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَسْبِقَنِى إِلَى مَا هُوَ حَاجَتِى. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا اسْتِعَاذَةٌ بِالرَّسُولِ فِى حَيَاتِهِ فِى حَضْرَتِهِ وَنَحْنُ لا نُنْكِرُ هَذَا إِنَّمَا نُنْكِرُ الِاسْتِعَاذَةَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ قُلْنَا الِاسْتِعَاذَةُ مَعْنًى وَاحِدٌ إِنْ كَانَ طَلَبُهَا مِنْ حَىٍّ حَاضِرٍ أَوْ غَائِبٍ فَكَيْفَ يَكُونُ طَلَبُهَا مِنَ الْحَاضِرِ جَائِزًا وَمِنَ الْغَائِبِ شِرْكًا هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ إِنِ اسْتَعَاذَ بِحَىٍّ أَوْ مَيِّتٍ فَإِنَّهُ يَرَى الْمُسْتَعَاذَ بِهِ سَبَبًا أَىْ أَنَّهُ يَنْفَعُ الْمُسْتَعِيذَ بِهِ إِنْ كَتَبَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ فَلا الْحَىُّ الْحَاضِرُ الْمُسْتَعَاذُ بِهِ خَالِقٌ لِلإِعَاذَةِ وَلا الْمَيِّتُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾ وَأَيْنَ مَعْنَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فِى هَذَا أَلَيْسَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لُغَةً وَشَرْعًا هُوَ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ يَا مُكَفِّرِينَ لِأُمَّةِ الْهُدَى بِلا سَبَبٍ افْهَمُوا مَعْنَى الْعِبَادَةِ ثُمَّ تَكَلَّمُوا (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ »إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِى الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ« رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ) وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ (وَقَالَ الْحَافِظُ الْهَيْثَمِىُّ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ) وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دِلالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِغَاثَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ إِذَا أَصَابَ أَحَدَنَا مُشْكِلَةٌ فِى فَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ أَىْ بَرِّيَّةٍ »يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُوا« فَإِنَّ هَذَا يَنْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى يُسْمِعُ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ وُكِّلُوا بِأَنْ يَكْتُبُوا مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ فِى الْبَرِّيَّةِ نِدَاءَ هَذَا الشَّخْصِ لَوْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ مِنْهُمْ. الْمَلِكُ الْحَىُّ الْحَاضِرُ إِذَا اسْتُغِيثَ بِهِ لا يُغِيثُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كَذَلِكَ هَؤُلاءِ الْمَلائِكَةُ لا يُغِيثُونَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كَذَلِكَ الأَوْلِيَاءُ وَالأَنْبِيَاءُ إِذَا إِنْسَانٌ اسْتَغَاثَ بِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ يُغِيثُونَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذًا هَؤُلاءِ سَبَبٌ وَكِلا الأَمْرَيْنِ جَائِزٌ. أَمَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ فَيَقُولُ قَوْلُ أَغِثْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ شِرْكٌ إِنْ كَانَ فِى غِيَابِهِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ عِنْدَهُ لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ، يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَالْوَهَّابِيَّةُ لِمَ تَسْتَغِيثُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَى وَاسِطَةٍ فَيُقَالُ فِى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ الْمَلِكُ اللَّهُ تَعَالَى لا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِيُغِيثَكَ وَكَذَلِكَ الْمَلائِكَةُ اللَّهُ لا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ لِيُغِيثُوكَ فَمَا أَبْعَدَ ابْنَ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعَهُ عَنِ الْحَقِّ حَيْثُ إِنَّهُمْ وَضَعُوا شُرُوطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ اللَّهِ لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ وَلا فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ (وَ)قَدْ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »حَيَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ وَوَفَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَىَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ« رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ) فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِىَّ يَنْفَعُ بَعْدَ مَوْتِهِ خِلافًا لِلْوَهَّابِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لا يَنْفَعُ أَحَدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لَمَّا قَالَ »وَمَمَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ« أَفْهَمَنَا أَنَّهُ يَنْفَعُنَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَيْضًا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا نَفَعَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لَمَّا سَأَلَ النَّبِىَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِكَ فَقَالَ لَهُ »خَمْسِينَ صَلاةً« قَالَ ارْجِعْ وَسَلِ التَّخْفِيفَ فَإِنِّى جَرَّبْتُ بَنِى إِسْرَائِيلَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ صَلاتَانِ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِمَا فَرَجَعَ فَطَلَبَ التَّخْفِيفَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَفِى كُلِّ مَرَّةٍ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَقُولُ لَهُ ارْجِعْ فَسَلِ التَّخْفِيفَ إِلَى أَنْ صَارُوا خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِأَجْرِ خَمْسِينَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ فَهَلْ يَشُكُّ عَاقِلٌ بِنَفْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ هَذَا النَّفْعَ الْعَظِيمَ وَقَدْ كَانَ مُوسَى تُوُفِّيَ قَبْلَ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ فَهَذَا عَمَلٌ بَعْدَ الْمَوْتِ نَفَعَ بِهِ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ »تُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ« فَمَعْنَاهُ يَحْصُلُ مِنْكُمْ أُمُورٌ ثُمَّ يَأْتِى الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الْوَحْىِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ. ثُمَّ يُؤَكِّدُ النَّبِىُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ نَفْعَهُ لِأُمَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِقَوْلِهِ »وَوَفَاتِى خَيْرٌ لَكُمْ تُعْرَضُ عَلَىَّ أَعْمَالُكُمْ فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللَّهَ عَلَيْهِ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ لَكُمْ« (وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِىُّ فِى مُعْجَمَيْهِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ عَنْ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ) أَىْ يَتَرَدَّدُ (إِلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فَكَانَ عُثْمَانُ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلا يَنْظُرُ فِى حَاجَتِهِ فَلَقِىَ عُثْمَانَ بنَ حُنَيْفٍ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ نَبِىِّ الرَّحْمَةِ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّى فِى حَاجَتِى لِتُقْضَى لِى ثُمَّ رُحْ حَتَّى أَرُوحَ مَعَكَ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَفَعَلَ مَا قَالَ ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ فَجَاءَ الْبَوَّابُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى طِنْفِسَتِهِ) أَىْ سَجَّادَتِهِ (فَقَالَ مَا حَاجَتُكَ فَذَكَرَ لَهُ حَاجَتَهُ فَقَضَى لَهُ حَاجَتَهُ وَقَالَ مَا ذَكَرْتُ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَقِىَ عُثْمَانَ ابْنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ فِى حَاجَتِى وَلا يَلْتَفِتُ إِلَىَّ حَتَّى كَلَّمْتَهُ فِىَّ فَقَالَ عُثْمَانُ بنُ حُنَيْفٍ وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُهُ وَلَكِنْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَى إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ »إِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ وَإِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ لَكَ« قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ شَقَّ عَلَىَّ ذَهَابُ بَصَرِى وَإِنَّهُ لَيْسَ لِى قَائِدٌ فَقَالَ لَهُ »ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قُلْ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ« فَفَعَلَ الرَّجُلُ مَا قَالَ فَوَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا وَلا طَالَ بِنَا الْمَجْلِسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ وَقَدْ أَبْصَرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضُرٌّ قَطُّ اهـ قَالَ الطَّبَرَانِىُّ فِى كُلٍّ مِنْ مُعْجَمَيْهِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ اهـ. وَالطَّبَرَانِىُّ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لا يُصَحِّحُ حَدِيثًا مَعَ اتِّسَاعِ كِتَابِهِ الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ مَا قَالَ عَنْ حَدِيثٍ أَوْرَدَهُ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ إِلَّا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ فِى الصَّغِيرِ وَصَحَّحَهُ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الأَعْمَى تَوَسَّلَ بِالنَّبِىِّ فِى غَيْرِ حَضْرَتِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُثْمَانَ بنِ حُنَيْفٍ »حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ« وَفِيهِ أَنَّ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِىِّ جَائِزٌ فِى حَالَةِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ »لا يَجُوزُ التَّوَسُّلُ إِلَّا بِالْحَىِّ الْحَاضِرِ« وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِى كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ) وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَةَ لَيْسَ التَّوَسُّلُ الْوَارِدُ فِى الْحَدِيثِ تَوَسُّلًا بِذَاتِ النَّبِىِّ بَلْ بِدُعَائِهِ فَهُوَ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِأَنَّ التَّوَسُّلَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ التَّبَرُّكِ الرَّسُولُ ذَاتُهُ مُبَارَكَةٌ وَءَاثَارُهُ أَىْ شَعَرُهُ وَقُلامَةُ ظُفْرِهِ وَالْمَاءُ الَّذِى تَوَضَّأَ بِهِ وَنُخَامَتُهُ وَرِيقُهُ مُبَارَكٌ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَتَبَرَّكُونَ بِذَلِكَ كَمَا وَرَدَ فِى الصَّحِيحِ فَكَأَنَّ قَوْلَ ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذَا يُنَادِى بِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحَقِيقَةَ بَلْ كَانُوا جَاهِلِينَ وَمَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلأُصُولِ فَإِنَّ عُلَمَاءَ الأُصُولِ لا يُسَوِّغُونَ التَّأْوِيلَ إِلَّا لِدَلِيلٍ عَقْلِىٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِىٍّ ثَابِتٍ وَكَلامُ ابْنِ تَيْمِيَةَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ فَالْحَدِيثُ عِنْدَهُ يُقَدَّرُ فِيهِ مَحْذُوفٌ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى مُوجَبِ دَعْوَاهُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِدُعَاءِ نَبِيِّنَا وَكَذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّى أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّى يَلْزَمُ مِنْهُ التَّقْدِيرُ إِنِّى أَتَوَجَّهُ بِدُعَائِكَ إِلَى رَبِّى وَالأَصْلُ فِى النُّصُوصِ عَدَمُ التَّقْدِيرِ وَالتَّقْدِيرُ لا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ وَهَذَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الأُصُولِ فَابْنُ تَيْمِيَةَ حُبِّبَ إِلَيْهِ الشُّذُوذُ وَخَرْقُ الإِجْمَاعِ مِنْ شِدَّةِ إِعْجَابِهِ بِنَفْسِهِ (وَأَمَّا تَمَسُّكُ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ لِدَعْوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ هَذِهِ فِى رِوَايَةِ حَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ الَّذِى فِيهِ »اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِىَّ وَشَفِّعْنِى فِى نَفْسِى« فَلا يُفِيدُ أَنَّهُ لا يُتَبَرَّكُ بِذَاتِ النَّبِىِّ بَلِ التَّبَرُّكُ بِذَاتِ النَّبِىِّ إِجْمَاعٌ لَمْ يُخَالِفْهُ إِلَّا ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَالرَّسُولُ هُوَ الَّذِى قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ [الطَّوِيل]

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ        ثِـمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ

أَوْرَدَهُ الْبُخَارِىُّ. وَأَمَّا تَوَسُّلُ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَدْ مَاتَ بَلْ كَانَ لِأَجْلِ رِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنَ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ حِينَ قَدَّمَهُ عُمَرُ »اللَّهُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَوَجَّهُوا بِى إِلَيْكَ لِمَكَانِى مِنْ نَبِيِّكَ«) أَىْ لِمَكَانَتِى عِنْدَهُ (فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ رَأْىِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ مُنْكِرِى التَّوَسُّلِ. رَوَى هَذَا الأَثَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ) فِى فَتْحِ الْبَارِى (وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ أَنَّ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ »أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرَى لِلْعَبَّاسِ مَا يَرَى الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ يُعَظِّمُهُ وَيُفَخِّمُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ فَاقْتَدُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَاتَّخِذُوهُ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَزَلَ بِكُمْ« فَهَذَا يُوضِحُ سَبَبَ تَوَسُّلِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ) وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ تَوَسُّلَ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ كَانَ لِرِعَايَةِ حَقِّ قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرْكُ عُمَرَ التَّوَسُّلَ بِالنَّبِىِّ فِى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَيْسَ فِيهِ دِلالَةٌ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ الْحَىِّ الْحَاضِرِ فَقَدْ تَرَكَ النَّبِىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَهَلْ دَلَّ تَرْكُهُ لَهَا عَلَى حُرْمَتِهَا وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِى كُتُبِ الأُصُولِ أَنَّ تَرْكَ الشَّىْءِ لا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِهِ. وَقَدْ أَرَادَ سَيِّدُنَا عُمَرُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ جَوَازَ التَّوَسُّلِ بِغَيْرِ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِى فَتْحِ الْبَارِى عَقِبَ هَذِهِ الْقِصَّةِ مَا نَصُّهُ »يُسْتَفَادُ مِنْ قِصَّةِ الْعَبَّاسِ اسْتِحْبَابُ الِاسْتِشْفَاعِ بِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ وَأَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ« اهـ (فَلا الْتِفَاتَ بَعْدَ هَذَا إِلَى دَعْوَى بَعْضِ هَؤُلاءِ الْمُشَوِّشِينَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِى إِسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمُوا بَلْ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا هُوَ أَبُو جَعْفَرٍ الْخَطْمِىُّ ثِقَةٌ وَكَذَلِكَ دَعْوَى بَعْضِهِمْ وَهُوَ نَاصِرُ الدِّينِ الأَلْبَانِىُّ أَنَّ مُرَادَ الطَّبَرَانِىِّ بِقَوْلِهِ »وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ« الْقَدْرُ الأَصْلِىُّ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الأَعْمَى فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَطْ وَلَيْسَ مُرَادُهُ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ أَيَّامَ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ وَهَذَا مَرْدُودٌ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمُصْطَلَحِ قَالُوا »الْحَدِيثُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِىِّ وَالْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ«) وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ مِنْهُمُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِـىُّ كَمَا نَقَلَ عَنْهُ السُّيُوطِىُّ فِى تَدْرِيبِ الرَّاوِى وَابْنُ الصَّلاحِ فِى مُقَدِّمَتِهِ فِى عُلُومِ الْحَدِيثِ (أَىْ أَنَّ كَلامَ الرَّسُولِ يُسَمَّى حَدِيثًا وَقَوْلَ الصَّحَابِىِّ يُسَمَّى حَدِيثًا وَلَيْسَ لَفْظُ الْحَدِيثِ مَقْصُورًا عَلَى كَلامِ النَّبِىِّ فَقَطْ فِى اصْطِلاحِهِمْ وَهَذَا الْمُمَوِّهُ كَلامُهُ لا يُوَافِقُ الْمُقَرَّرَ فِى عِلْمِ الْمُصْطَلَحِ فَلْيَنْظُرْ مَنْ شَاءَ فِى كِتَابِ تَدْرِيبِ الرَّاوِى وَالإِفْصَاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ الْمُصْطَلَحِ فَإِنَّ الأَلْبَانِىَّ لَمْ يَجُرَّهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى إِلَّا شِدَّةُ تَعَصُّبِهِ لِهَوَاهُ وَعَدَمُ مُبَالاتِهِ بِمُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ كَسَلَفِهِ ابْنِ تَيْمِيَةَ. أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ »إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ« فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَوْلَى بِأَنْ يُسْأَلَ وَيُسْتَعَانَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ مَعْنَاهُ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ) فَالْمُتَوَسِّلُ الْقَائِلُ اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِنَبِيِّكَ أَوْ بِأَبِى بَكْرٍ أَوْ بِأُوَيْسٍ الْقَرَنِىِّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ سَأَلَ اللَّهَ وَلَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ فَأَيْنَ الْحَدِيثُ وَأَيْنَ دَعْوَاهُمْ ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ أَدَاةُ نَهْىٍ لَمْ يَقُلِ الرَّسُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ لا تَسْأَلْ غَيْرَ اللَّهِ وَلا تَسْتَعِنْ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ وَرَدَ بِلَفْظِ النَّهْىِ فَلَيْسَ كُلُّ أَدَاةِ نَهْىٍ لِلتَّحْرِيمِ (نَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الَّذِى أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ وَابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ (»لا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِىٌّ«) فَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ وُجُودِ أَدَاةِ النَّهْىِ فِيهِ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى التَّحْرِيمِ (فَكَمَا لا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَدَمُ جَوَازِ صُحْبَةِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ وَإِطْعَامِ غَيْرِ التَّقِىِّ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الأَوْلَى فِى الصُّحْبَةِ الْمُؤْمِنُ وَأَنَّ الأَوْلَى بِالإِطْعَامِ هُوَ التَّقِىُّ، كَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الأَوْلَوِيَّةُ وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الَّذِى يَدَّعُونَهُ فَلَيْسَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ) فَكَيْفَ تَجَرَّأَتِ الْوَهَّابِيَّةُ عَلَى الِاسْتِدْلالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِمَنْعِ التَّوَسُّلِ بِالأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّكْفِيرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ (وَلا فَرْقَ بَيْنَ التَّوَسُّلِ وَالِاسْتِغَاثَةِ فَالتَّوَسُّلُ يُسَمَّى اسْتِغَاثَةً كَمَا جَاءَ فِى حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ »إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ« صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ فِى رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ لِحَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ يَأْتِى بِمَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ وَفِيه رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ التَّوَسُّلَ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكًا (وَفِى رِوَايَةِ أَنَسٍ) لِهَذَا الْحَدِيثِ »يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا« (رُوِىَ بِلَفْظِ الِاسْتِشْفَاعِ وَكِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ فِى الصَّحِيحِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِشْفَاعَ وَالِاسْتِغَاثَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَسَمَّى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الطَّلَبَ مِنْ ءَادَمَ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ إِلَى رَبِّهِمُ اسْتِغَاثَةً) وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ فِى شِفَاءِ السَّقَامِ »الِاسْتِشْفَاعُ وَالتَّوَسُّلُ وَالتَّوَجُّهُ وَالتَّجَوُّهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ«. وَالتَّقِىُّ السُّبْكِىُّ مُحَدِّثٌ حَافِظٌ فَقِيهٌ لُغَوِيٌّ كَمَا وَصَفَهُ بِذَلِكَ السُّيُوطِىُّ فِى الذَّيْلِ (ثُمَّ الرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ) فِى سُنَنِهِ (وَغَيْرُهُ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ »اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارٍّ عَاجِلًا غَيْرَ ءَاجِلٍ« فَالرَّسُولُ سَمَّى الْمَطَرَ مُغِيثًا لِأَنَّهُ يُنْقِذُ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ كَذَلِكَ النَّبِىُّ وَالْوَلِىُّ يُنْقِذَانِ مِنَ الشِّدَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى) بَقِىَ لَنَا أَنْ نَذْكُرَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِى ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ الدَّلِيلَ عَلَى جَوَازِ طَلَبِ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَنَّ رَبِيعَةَ بنَ كَعْبٍ الأَسْلَمِىَّ الَّذِى خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ بَابِ حُبِّ الْمُكَافَأَةِ »سَلْنِى« فَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقَهُ فِى الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِى الْجَنَّةِ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ بَلْ قَالَ لَهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ »أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ« فَقَالَ الصَّحَابِىُّ هُوَ ذَاكَ فَقَالَ لَهُ »فَأَعِنِّى عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ« وَكَذَلِكَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ طَلَبَتْ مِنْهُ عَجُوزٌ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ مَعَهُ فِى الْجَنَّةِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا ذَلِكَ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ فَمِنْ أَيْنَ لِابْنِ تَيْمِيَةَ وَأَتْبَاعِهِ أَنْ يَبْنُوا قَاعِدَةً وَهِىَ قَوْلُهُمْ طَلَبُ مَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ.