الخميس مارس 28, 2024

إنّا أنزلناه في ليلةِ القدرِ

قالَ اللهُ تباركَ وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [سورة الدخان: 3، 4]، المعنى: أنَّ اللهَ أنزلَ القرءانَ في ليلةٍ مباركةٍ أي في ليلةِ القدرِ.

هو القرءانُ كان في اللوحِ المحفوظِ، ثم بعدَ أن تمَّ لسيدِنا محمدٍ مِنَ العمرِ أربعونَ سنةً أمرَ اللهُ جبريلَ بأن يُنزلَ القرءانَ جملةً واحدةً إلى السماءِ الدنيا إلى بيتِ العزَّةِ، كانت تلك الليلةُ ليلةً مِنْ رمضانَ في ذلك العامِ الذي بدأَ على الرسولِ نزولُ القرءانِ فيهِ.

جبريلُ لَم يُنْزلْهُ على الرسولِ دفعةً واحدةً، إنما بحسبِ ما يُؤمرُ جبريلُ مِنْ قِبَلِ اللهِ تعالى. كان جبريلُ يُنَزّلُ منهُ ءاياتٍ وأحيانًا سورًا كاملةً. وأولُ ما أُنزلُ على الرسولِ مِنَ القرءانِ خمسُ ءاياتٍ مِنْ سورةِ العلقِ، لم تَنْزلْ عليهِ بتمامِها بل أُنْزِلَ عليهِ منها أولًا خمسُ ءاياتٍ. ثم بعدَ عشرينَ سنةً تمَّ نزولُ القرءانِ عليهِ، فلما تمَّ نزولُ القرءانِ عليهِ علَّمَ أصحابَهُ ترتيبَ القراءةِ.

قبلَ ذلكَ كانَ جبريلُ يَنزلُ عليهِ بشيءٍ مِنَ القرءانِ ليسَ على حسبِ الترتيبِ الذي هو الآنَ في المصحفِ؛ بل على غيرِ ذلكَ الترتيبِ. إنما بعدَ اكتمالِ نزولهِ، أي: بعدَ عشرينَ سنةً مِنْ بَدْءِ نزولِ القرءانِ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تمَّ نزولُ القرءانِ عليهِ، فعلّمَهم رسولُ اللهِ قراءةَ القرءانِ على الترتيبِ الذي هو الآنَ في المصحفِ.

ليسَ أصحابُ الرسولِ باجتهادِهم قدَّموا وأخَّروا ووضعوا هذه السورةَ هنا وتلك السورةَ هناكَ وتلكَ السورةَ في موضعٍ وتلكَ السورةَ في موضعٍ ءاخرَ، إنما على حسبٍ تعليمِ الرسولِ رتَّبُوا القرءانَ كتابةً. لأنَّ النبيَّ كانَ أُميًّا لا يقرأُ المكتوبَ. عاش ولم يتعلمِ الخطَّ، ومع ذلكَ أعطاهُ اللهُ عِلمَ الأولينَ والآخرينَ.

اللهُ تبارك وتعالى أخبرنا في القرءانِ الكريمِ بأنَّهُ أنزلَ القرءانَ في ليلةٍ مباركةٍ قالَ : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}، تلكَ الليلةُ هي ليلةُ القدْرِ {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. ثم اللهُ تباركَ وتعالى أخبرنا بقولهِ: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أنَّ ليلةَ القدرِ التي هي مِنْ رمضانَ هي الليلةُ التي يُفرَقُ فيها كلُّ أَمرٍ حكيمٍ أي كلُّ أمرٍ مُبْرَمٍ أي مما يحدثُ في تلكَ السنةِ من موتٍ وصحةٍ ومرضٍ وفقرٍ وغنًى وغيرِ ذلكَ مما يطرَاُ على البشرِ مِنَ الأحوالِ المختلفةِ إلى مثلِها في العامِ القابلِ. هذا شيءٌ ثابتٌ عن عبدِ اللهِ ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما ابنِ عمِّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، هو روى ذلك. وعبدُ اللهِ بنُ عباسٍ مِنْ إتقانهِ لتفسيرِ القرءانِ برزَ بينَ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى لقَّبَهُ بعضُهم «تُرْجُمانَ القرءانِ».

ورمضانُ تُصادفُ فيهِ هذه الليلةُ إما أولَهُ وإما وسطَهُ وإما ءاخرَهُ، لكنْ هذه الليلةُ في الغالبِ تُصادفُ مِنْ رمضانَ ليلةَ سبع وعشرينَ أو تسعٍ وعشرينَ أو ثلاثٍ وعشرينَ أو إحدى وعشرينَ. لكن أرجى أن تكونَ ليلةُ القدرِ مِنْ سائرِ ليالي رمضانَ هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ لذلكَ شُهِرَ عندَ الناسِ إذا قِيلَ ليلةُ القدرِ أنها ليلةُ سبعٍ وعشرينَ، هكذا يسبقُ إلى أذهانِ الناسِ. ثمّ الناسُ يُسَمُّونَ تلكَ الليلةَ ليلةَ القدرِ لكن لا ينبغي الجزْمُ بأنها في كلِّ السنينَ هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ مِنْ رمضانَ.

هو المؤمنُ ينبغي أن يجتهدَ في طاعةِ اللهِ تعالى في كلِّ رمضانَ لأنَّ الثوابَ فيهِ أعظمُ مِنْ سائرِ الشهورِ، ثوابُ قيامِ الليلِ في رمضانَ أعظمُ مِنْ ثوابِ قيامِ الليلِ في غيرِ رمضانَ. ثم كُلُّ ساعاتِ المؤمنِ ينبغي أن يحرصَ فيها على أنْ يتزودَ منها مِنْ طاعةِ اللهِ تباركَ وتعالى؛ لأنَّ العواقبَ مستورةٌ، اللهُ تباركَ وتعالى هو الذي يَعلمُ كلَّ شيءٍ كلَّ ما وقعَ وكلَّ ما سيقعُ. هو الذي لا تخفى عليه خافيةٌ، أما بعض الخلقُ فلم يُطْلِعْهمُ اللهَ تباركَ وتعالى إلا على القليلِ من الخفياتِ.

اللَّهُمَّ قِنا شَرَّ ما نتخوفُ

ربَّنا اغفِرْ لنا ولإخوانِنا الذينَ سبقونا بالإيمانِ

ولا تجعَلْ في قلوبِنا غِلًّا للذينَ ءامنوا