الجمعة أبريل 19, 2024

أسرار الصيامِ

يقولُ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 183]. [وروى البخاريُّ ومسلمٌ منْ حديثِ ابنِ عمرَ قالَ صلى الله عليه وسلم: «بُنيَ الإسلامُ على خمسٍ» وذكرَ منها صيامَ رمضانَ فصيامُ شهرِ رمضانَ هو أحدُ مباني الإسلامِ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، أي: يا مَنْ صَدَّقُوا وأيقَنُوا ورَضُوا باللهِ ربًّا وبالإسلامِ دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا رسولًا، فهذا خطابٌ للمؤمنينَ الذينَ التزموا الإيمانَ الحقَّ.

 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، أي: فُرِضَ عليكُمُ الصيامُ، والمرادُ صيامُ شهرِ رمضانَ كما بيّنَ ذلك في الآيةِ التي بعدَها: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة: 185].

ثم يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}، أي: هذا أمرٌ لم تنفردوا بهِ عن غيرِكم، أي: أنَّ الصيامَ كُتِبَ على الذينَ مِنْ قبلنا مِنَ الأممِ السابقةِ.

وفي هذا تعظيمُ وبيانٌ لأهميةِ شعيرةِ الصيامِ، فإنَّ اللهَ لا يَشرعُ شيئًا لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم وللأممِ السابقةِ إلا ويكونُ عظيمًا ومهمًا. ولهذا اتفقَ جميعُ الرسلِ والأنبياءِ على الدينِ العامِ وإنِ اختلفَتْ تفاصيلُ الشرائعِ ففي الصحيحين: «الأنبياءُ إخوةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُهُم واحِدٌ وأُمَّهَأتُهُم شَتَّى وأنا أولى النّاسِ بعِيسى ابنِ مَريمَ ليسَ بَيني وبينَه نَبيٌّ»، أي: أنَّهُ لا دينَ ارتضاهُ اللهُ لعبادِهِ لملائكتهِ وللإنسِ والجنِّ إلّا الإسلامُ.

فمن هنا يتبيّنُ لنا أنَّ المسلمَ – من أمة محمد – إذا علمَ أنهُ لم يُخصَّ بهذهِ الشعيرةِ وحدَهُ وأنّ الأنبياءَ والرسلَ عليهمُ السلامُ صامُوا والأمم مِنْ قبلِهِ صامَتْ كانَ ذلكَ عزاءً وتسليةً لهُ، وتقويةً لقلبهِ على الصيامِ الذي أُمِرَ بهِ كما أُمِرَ بهِ مَنْ كانَ قبلَهُ مِنَ الأممِ.

ثم يُبيّنُ بقولهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أنهم هم المقصودونَ، وأنَّ المصلحةَ لهم.

فقبولُ المسلمِ لهذه العبادةِ ورضاهُ واطمئنانُهُ بها وانشراحُ صدرِهِ لها عبادةٌ تجعله من المتقين لأنَّ حقيقةَ التقوى الانقيادُ لأوامرِ اللهِ فإذا انقادَ هذا المسلمُ لأمرِ اللهِ وصامَ طاعةً للهِ وقامَ بجميعِ ما فرضَ اللهُ عليهِ كانَ منَ المتقينَ. والتقوى تبدأُ بالإيمانِ والإسلامِ فمن ءامنَ وأسلمَ فقد اتقى الشركَ والكفرَ بجميعِ أنواعِهِ واتقى عذابَ اللهِ، فإذا صامَ فقد حقَّقَ أمرًا مِنْ أعظمِ أمورِ الإسلام.

بل مِنْ أسرارِ الصيامِ وءاثارِهِ التربيةُ على التقوى، فإنَّ اللهَ لم يشرِّعِ العبادةَ لنتعذبَ بها أو يُصيبَنا منها الحرجُ والمشقةُ بالامتناعِ عما نشتهي ولكن لحكمةِ التربيةِ على مراقبةِ اللهِ في السرِّ والعلنِ والصبرِ على ذلكَ وأن نتركَ الشيءَ لأجلِهِ سبحانَهُ حتى لو كانَ محبوبًا مشتهًى في النفوسِ.

فالتربيةُ على الأخلاقِ الحميدةِ لا تخلو منْ حملِ المرءِ نفسهُ على مخالفةِ شهواتٍ كثيرةٍ، ففي مخالفتِها تعبٌ يجب الصبرُ عليهِ حتى تصيرَ مكارمُ الأخلاقِ ملكةً لِمن روَضَ نفسَهُ عليها.

فمن امتنعَ عما تشتهيهِ نفسُهُ مِنْ أكلٍ وشربٍ وغيرِهِ مما أحلَّهُ اللهُ طاعةً لربهِ وقُربةً لهُ وتعبُّدًا حريٌّ بهِ أن يتولدَ في قلبهِ نفورٌ وابتعادٌ عما هو محرمٌ في الأصلِ وإلا فما معنى أن يتركَ الصائمُ ما طابَ مما أحلَّهُ اللهُ من طعامٍ وشرابٍ وغيرهِ ثم هو يقعُ فيما حرَّمهُ اللهُ في رمضانَ وغيرِه، وفي الصحيحِ: «مَنْ لمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَملَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ»، أي: لا يقبلُ اللهُ منهُ إمساكَهُ عنِ الطعامِ والشرابِ ولا يُثيبُهُ أي لا يُعطيهِ ثوابًا، وإنما حظُّهُ مِنْ صيامهِ الجوعُ والعطشُ.

اللَّهُمَّ يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنى

 

 

عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، وله حاجة، فأبطأت عليه، قال: «يا عائشة؛ عليك بجُمَلِ الدعاء وجوامِعِه» فلما انصرفت قلت: يا رسول الله وما جعل الدعاء وجوامعه؟ قال قولي:

اللَّهُمَّ إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله

ما علمت منه وما لم أعلم

وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله

ما علمت منه وما لم أعلم

وأسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل

وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل

وأسألك مما سألك به عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم

وأعوذ بك مما تعوذ منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم

وأعوذ بك مما تعوذ منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم

وما قضيت لي من قضاء فاجعل عاقبته رشدا

رواه البخاري في «الأدب المفرد» (639)