الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
[الحديد: 4].

قال المفسر القاضي أبو محمد بن عطية الأندلسي في كتابه «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» ما نصه([1]): «وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} معناه: بقدرته وعلمه وإحاطته. وهذه آية أجمعت الأمة على هذا التأويل فيها، وأنها مخرجة عن معنى لفظها المعهود، ودخل في الإجماع من يقول بأن المشتبه كله ينبغي أن يمر ويؤمن به ولا يفسر فقد أجمعوا على تأويل هذه لبيان وجوب إحراجها عن ظاهرها. قال سفيان الثوري: معناه علمه معكم، وتأولهم هذه حجة عليهم في غيرها». اهـ.

وقال المفسر فخر الدين الرازي في «التفسير الكبير»([2]): «المسألة الثانية: قال المتكلمون هذه المعية إما بالعلم وإما بالحفظ، وعلى التقديرين فقد انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز، فإذًا قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} لا بد فيه من التأويل. وإذا جوَّزنا التأويل في موضع وجب تجويزه في سائر المواضع». اهـ.

أما سيد قطب فقد قال في كتابه المسمى في ظلال القرءان ما نصه([3]): «{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، كلمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز والله تعالى مع كل شيء ومع كل واحد في كل وقت وفي كل مكان». اهـ.

وقال خالد الجندي في شريط له سماه «الرزق وإنفاقه» باللغة العامة المصرية: «هو ما فيش حاجة في حياتك إلا وربنا فيها لأنه قال وهو معكم أينما كنتم». ثم قال: «كل واحد فينا في كل لحظة من حياته الله في داخله في قلبه».

الرد:

ليُعلم أن سيد قطب بعقيدته هذه يخالف جميع علماء الإسلام من السلف والخلف لأنه جعل الله منتشرًا في العالم وهذا كفر، وقوله: «في كل مكان» هذا لم يقله أحد من السلف إنما قاله جهم بن صفوان الذي قُتل على الزندقة في أواخر أيام الأمويين ثم تبعه بعض جهلة المتصوفة من غير فهم للمعنى الذي كان يريده جهم. أما جهم فكان يقول هذه العبارة ويريد معناها الحقيقي وهو الانتشار، وجهلة المتصوفة يريدون منها السيطرة على كل مكان، وقد نسب هذا القول إلى جهلة المتصوفة إسماعيل حقي النازلي في تفسيره «روح البيان» وهو من الصوفية، فليعلم هؤلاء في أي وادٍ يتيهون.

ثم إن كل علماء الإسلام اتفقوا على أن معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] إحاطة علمه تعالى بكل الخلق، وأما سيد قطب فينطبق عليه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: «من شذّ شذّ في النار» رواه الترمذي، فبان واتضح لكل منصف أن سيد قطب مارق خارج من الدين والإسلام.

فانظر أخي المؤمن إلى هذا التجرؤ على الله تعالى حيث ينسب الحلول بكلمات واضحة وفاضحة تكشف عما في نفسه، ألم يقرأ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]؟ ألم يبلغه نقل الحافظ السيوطي في كتابه «الحاوي للفتاوى» إجماع المسلمين على تكفير من قال بالحلول أو الاتحاد؟ حيث قال ما نصه([4]): «وقال القاضي عياض في الشفا ما معناه: أجمع المسلمون على كفر أصحاب الحلول ومن ادَّعى حلول الباري سبحانه في أحد الأشخاص كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة. وقال في موضع آخر: ما عرف الله من شبهه وجسمه. ثم قال بعد كلام: بل يُقطَع بتكفير القائلين بالحلول إجماعًا. ثم قال بعد ذلك: فإذًا أصل الاتحاد باطل محال مردود شرعًا وعقلا وعُرفًا بإجماع الأنبياء والأولياء ومشايخ الصوفية وسائر العلماء والمسلمين وليس هذا مذهب الصوفية وإنما قاله طائفة غلاة لقلة علمهم وسوء حفظهم من الله تعالى فشابهوا بهذا القول النصارى». اهـ.

ألم يسمع خالد الجندي وسيد قطب وناظم قبرصلي وشيخه الداغستاني وكل الحلولية والاتحادية قول الإمام الأكبر الشيخ محيي الدين بن عربي: من قال بالحلول فدينه معلول، نقله الإمام عبد الوهاب الشعراني في كتابه «اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر»([5])، وقول الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله في «الفيض الرباني»: «من قال إن الله انحل منه شيء أو انحل في شيء فقد كفر». اهـ.

حتى إن إمام المشبهة والمجسمة ابن تيمية الحراني يقول في كتابه المسمى «مجموع الفتاوى»([6]) ناقلًا ومؤيدًا لقول الطلمنكي: «أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ القُرءانِ: أَنَّ ذَلِكَ عِلْمُهُ». اهـ.

فيا لفضيحة الوهابية الذين يقولون بأن التأويل تعطيل، هل سيقولون عن شيخهم المجسم ابن تيمية بأنه معطل في هذه المسألة؟ هل سينسلخون منه أم سيقولون عنه بعد ذلك «شيخ الإسلام»، خوفًا من أن ينقطع عنهم الدينار والدرهم؟

ولو كان هؤلاء الحلولية شموا رائحة العلم الشرعي لعلموا أن من وصف الله بالحلول فقد نسب الكيفية لله وهي منفية عنه تعالى وعن صفاته، وأن ذلك تجسيم وكفر كما نقل الحافظ السيوطي في كتابه «الأشباه والنظائر»([7]) عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: «المجسم كافر»، بل جاء ذلك عن أئمة المذاهب الأربعة رضي الله عنهم كما في كتاب المنهاج القويم شرح ابن حجر الهيتمي على المقدمة الحضرمية فإنه يقول فيه ما نصه([8]): «واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك».اهـ.

ويكفي في إثبات جهل سيد قطب ما ذكره في تفسيره في الجزء السابع عشر في تفسير سورة الأنبياء، حيث قال: «ولا بقاء لشيء يطارده الله». اهـ.

وقال في تفسير سورة الأعراف: «ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق الساحق الوضيء». اهـ.

ثم قول خالد الجندي «كل لحظة من حياته الله في داخله في قلبه» فإننا نعوذ بالله من هذا الكفر فقد جعل الله تعالى يحل في القلوب، جعل الله جسمًا حادثًا وكذّب قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3]. في هذه الآية نفي للمادية والانحلال. وقد وقع خالد الجندي في كفر أهل الاتحاد والحلول وهو أشد أنواع الكفر وكذب قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وكذب قول ذي النون المصري «مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك» أي لا يشبه ذلك، رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق.

ما عرف الله من اعتقد أن الله يحل في الأشياء في القلوب أو الهواء أو الإنسان أو الشجر. فتأمل في هذا الكلام وانتبه يا خالد كيف تتكلم وتطلق العبارات لأنك ستحاسب يوم القيامة، قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وقال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ}. وقد قال سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه: «لفظتان ثلمتان في الدين القول بالوحدة والشطح المجاوز حدّ التحدث بالنعمة».

ومعنى قول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] أي أن الله تعالى أعلم بالعبد من نفسه، هو أعلم بنا من أنفسنا، الله تعالى تعظيمًا لنفسه يقول: «ونحن أقرب إليه» أي إلى العبد «من حبل الوريد» والوريد عرقان في الإنسان من جانبي الرقبة ينزلان من الرأس ويتصلان بعرق القلب. وقد قال النازلي صاحب التفسير المعروف: «لا يجوز أن نقول إنه تعالى بكل مكان وهذا قول جهلة المتصوفة»، وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رضي الله عنه: «قال عليّ الخواص – شيخه في التصوف -: لا يجوز أن يقول إنه تعالى بكل مكان، وأول من قال بهذا جهم بن صفوان». فقول خالد الجندي «الله في داخله في قلبه» يفيد الحلول، ومن قال بالحلول فدينه معلول وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد كما قال الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله. ثم أمَا قرأ خالد أيضًا نقل جلال الدين السيوطي الإجماع في كتابه «الحاوي للفتاوي» على تكفير من قال بالحلول أو الاتحاد. وهذا تجرؤ على الله بهذه الكلمات كأنه لم يقرأ كلام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته الشهيرة: «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر»، وكأنه ما قرأ قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} وقوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} أي لا تشبهوا الله بخلقه، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي لله الوصف الذي لا يشبه وصف غيره.

تَفْسِيرُ مَعِيَّةِ الله الـمَذْكُرَةِ في القرءَانِ

وَمَعْنَى قَولِه تَعَالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]ُ الإحاطة بالعِلْمِ.

الشرح: أي محيطٌ بكم عِلمًا لا يَخفَى عليه شيءٌ أينما كنتم وقولُهُ تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] مهناهُ أنَّ الله تعالى أعلمُ بالعَبدِ من نفسِهِ هُوَ أعلمُ بنا من أنفسِنا، الله تعالى تعظيمًا لنفسه يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي إلى العبدِ {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} الوريد عرقانِ في الإنسان من جَانِبَي الرقبةِ ينزلانِ من الرَّأْسِ بعرقِ القلب.

وقد قال إسماعيل حقي صاحبُ التَّفسير المعروف([9]) لا يجوزُ أن نقولَ أنهُ تعالى بكلّ مكانٍ وهذا قولُ جهلةِ المتصوّفةِ، وقال الشيخ عبد الوهاب الشَّعرانيُّ: «قالَ عليٌّ الخوَّاص – يعني شيخهُ في التصوف – لا يجوز أن يقال إنه تعالى بكلّ مكانٍ»، وأوَّل من قال هذا القول رجلٌ اسمُهُ جهمُ بن صفوانَ.

قال المؤلف رحمه الله: وتَأْتي الـمَعِيَّةُ أَيْضًا بمعْنى النُّصرَةِ والكِلاءَةِ كقوله تعالى: {إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ} [النحل: 128].

الشرح: معنى الآيةِ أن الله مع الذين يخافونَهُ، أي ينصرُهُم ويحفظُهُم، وليس عناه يمشي وينتقل مَهم، فإن الله تعالى نَصَرَ الأولياءَ وحفظَهُم أن يُغرقَهم الشّيطانُ في المعاصي، وما أقبح قول ابن تيمية([10]) إنّ الله على العرش حقيقة ومعنا حقيقة. هذا مع أنه ثبت عنه أنه قال([11]): إن الله بقدر العرش لا أصغر ولا أكبر. اهـ. وقد صدق قول الحافظ أبي زرعة العراقي فيه([12]) «علمه أكبر من عقله». اهـ. أي محفوظته أكبر من فهمه أي أنه فاسد الفهم كثير الحفظ.

وأما النَّصرُ إن كانَ بالنّسبةِ للأعداءِ كالكفّار فالمؤمنُ منصورٌ معنًى ولو كانَ بحسبِ الظَّاهرِ أصابَهُ من العدوّ تلفُ مالٍ ونفسٍ فهو منصورٌ لأن الحقَّ مَعَهُ، فكم من نبيّ قَتَلَهُ الكفَّارُ، والأنبياءُ ليسوا هَيّنينَ عندَ الله، أما أعداؤهُم فهم المغلوبونَ لأنهم على باطلٍ وفي الآخرةِ ليسَ لهم إلا العذابُ الأليمُ، أما أولياءُ الله فهم في الدنيا منصورون بالحجة وأحيانًا بالحجة والغلبة الظاهرة وفي الآخرة منصورون حجة وظاهرًا وهذا معنى قول الله تعالى: {إِنَّا لَننَصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا} الآية [غافر: 51] فمعنَى معيّةِ الكلاءةِ والنُّصرةِ يحفظُهُم من أن يغرقوا في المعاصي فَيَصيروا أُسَرَاءَ للشّيطانِ.

المعيَّة الأولى في قولِهِ تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} تشملُ جميعَ الخلقِ المؤمنَ والكافرَ لأن الله عالمٌ بأحوالِ الجميعِ، بأحوالِ المؤمنينَ وبأحوالِ الكافرينَ لا يَخفَى عليه شيءٌ، أما معيَّةُ الكلاءةِ والنُّصرَةِ فهي خاصَّةٌ بالمؤمنينَ الأتقياء.

تنبيهٌ: قولُهُ تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] أي أننا نتفضَّلُ ونتكرَّمُ عليهم، وليس المعنَى أنه فرضٌ على الله لأنه لا يجبُ شيءٌ على الله، فالله تعالى ليسَ لأحدٍ حقٌّ لازمٌ عليه أي أمرٌ يلزمُهُ وهو مجبورٌ عليهِ وإن تَرَكَهُ يكونُ ظالمًا، الله منزَّهٌ عن ذلك إنما الله متفضّلٌ على عبادِهِ المؤمنينَ بأن يكرمَهُم إن هم أدَّوا ما عليهم، ومن هنا كَرِهَ الإمامُ أبو حنيفة([13]).

أن يقولَ الرّجلُ: أسألُكَ بحقّ فلانٍ لأنه يَرَى أن هذه العبارة توهِمُ أن على الله حقًّا لخلقِهِ لازمًا له فمن هذهِ الحيثية كَرِهَ ذلكَ، ثم غيرُ أبي حنيفة يَرَى أن هذه العبارة لا تُوهِمُ ذلك إنما معناهُ أسألكَ بما لفلانٍ عندَك من الفضلِ والكرامةِ أن تعطيَنَا كذا وكذا، وهذا هو القولُ الصَّحيحُ الرَّاجحُ لثبوته في الحديث وهو حديث([14]) «أسألك بحق السائلين عليك» إلى ءاخره. فإنه حديث حسن كما قال الحافظ ابن حجر وغيره([15]).

قال المؤلف رحمه الله: وَلَيسَ المغنِيُّ بِهَا الحلولَ والاتّصالَ ويَكْفرُ مَنْ يَعتَقِدُ ذَلِكَ لأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعَألى مُنَزَّهٌ عن الاتّصالِ والانْفِصَالِ بالـمَسَافَةِ. فَلا يُقالُ إنَّه مُتَّصلٌ بالعَالَم ولا مُنْفَصِلٌ عنَهْ بالـمَساَفَةِ لأنَّ هذِهِ الأمُور مِن صِفَاتِ الحَجمِ والحجمُ هو الذي يَقبَلُ الأمرَين والله جلَّ وعَلا لَيْسَ بحادِثٍ، نَفى ذلكَ عن نفسِهِ بقولِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

الشرح: لا يجوزُ على الله أن يكون متَّصلًا بالعالم ولا منفصلًا عن العالـمِ بالمسافةِ، وحينما يراهُ المؤمنونَ في الآخرة بعدما يدخلون الجنَّةَ يرونَهُ بلا مسافةٍ بينهم وبينَهُ لا يرونَهُ حجمًا لطيفًا ولا حجمًا كثيفًا ولا بمسافةٍ قريبةٍ وبعيدةٍ.

قال المؤلف رحمه الله: وَلَا يُوصَفُ الله تَعَالى بالكِبَرِ حَجْمًا([16]) ولا بالصّغَرِ، ولا بالطُّولِ ولا بالقِصَرِ، لأنَّهُ مُخالِفٌ للحَوادِثِ، ويَجبُ طَرْدُ كُلّ فِكْرَةٍ عَن الأَذْهانِ تُفْضِي إلى تَقْدِيرِ الله تَعالى وتَحدِيدِه.

الشرح: كلُّ شيءٍ يوهِمُ أن الله له حجمٌ ومساحةٌ وكميَّةٌ يجبُ إخراجُهُ من القلبِ لأن الله منزَّهٌ عن ذلكَ كُلِّهِ. فالحجمُ حادِثٌ مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، وأصغرُ الأشياءِ يقالُ له الجوهرُ الفردُ وهو لا ينقسِمُ وأعظُم الأجرام هو العرشُ والله تعالى لا يُشبهُ هذا ولا هذا. كلُّ شيءٍ فيه تأليفٌ وتركيبٌ محتاجٌ إلى من ألَّفَهُ وركَّبَهُ والله منزَّه عن أن يكونَ كذلكَ، فالمؤمنُ يُريحُ ضميرَهُ باعتقادِ أنه مهما تصوَّرَ ببالِهِ فالله بخلاف ذلك، فإذا لَزِمَ هذا ارتاحَ ضميرُهُ.

فكلُّ الخواطرِ التي تؤدّي إلى جَعلِ الله تعالى ذا مقدارٍ وشكلٍ وهيئةٍ تُنبَذُ وتُطردُ فالمؤمنُ يتركُ هذه الخواطر وينشغلُ بغيرِها، وقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ف الحديثِ الذي رواه عنه أبو القاسم الأنصاريُّ([17]): «لا فِكرَةَ في الرَّبّ» معناهُ: أن الله تعالى لا يُدرِكُهُ الوَهمُ لأن الوهمَ يُدرِكُ الأشياءَ التي ألِفَهَا أو هي من جنس ما ألفَهُ كالإنسانِ والغَمَامِ والمطرِ والشجرِ والضوءِ والظلامِ والريحِ والظلِ ونحوِ ذلك، والأشياءُ الحادثةُ لو لم يرها الإنسانُ كالعرشِ يستطيعُ أن يتصوَّرها ولو من بعضِ الوجوهِ، وكذلك إذا ذُكِرَت لنا الجنةُ يمكننا أن نتصوَّرَها في أوهامِنا فنصادفُ الحقيقةَ في بعضِ الصفاتِ ونخطئ في بعض الصفاتِ، أما الله تعالى فلا تدركهُ تصوراتُ العبادِ وأوهامُهُم وقد قال أبيُّ بن كعبٍ الذي هو من مشاهير الصحابةِ في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَأَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ}: «إليهِ ينتهي فِكرُ مَن تَفَكَّرَ» رواهُ أبو القاسم الأنصاريُّ في شرحِ الإرشادِ([18]).

قال المؤلف رحمه الله: كَانَ اليَهُودُ قَدْ نَسَبُوا إلى الله تعالى التَّعَبَ، فَقَالوا إنَّه بَعْدَ خَلْقِ السَّموات والأرْضِ استَراحَ فاسْتَلْقَى علَى قَفَاهُ، وقولهم هَذَا كُفرٌ. والله تعَالى مُنزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وعَنِ الانفْعِالِ كالإحْساسِ بالتَّعبِ والآلام واللذَّاتِ فالذي تَلحَقُهُ هَذِهِ الأحْوالُ يَجبُ أنْ يكُونَ حادِثًا مَخْلُوقًا يَلْحَقُه التّغَيُّرُ، وهَذا يَسْتَحيلُ عَلى الله تعالى. قالَ تَعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].

الشرح: اليهودُ قالت إن الله خَلَقَ السَّموات والأرض في ستَّةِ أيّامٍ ثم استراحَ يومَ السَّبتِ فاستلقى على قَفَاهُ جعلوهُ جسمًا له أعضاءٌ، وكذلك المشبهةُ جعلتهُ جسمًا له أعضاء فقالت إنه جالس على العرش. فالمشبهةُ إخوةُ اليهودِ وإن ظنوا بأنفسِهم أنهم مُوحّدونَ وقد أخبرَ الله تعالى أنه خَلَقَ السَّموات والأرضَ وما أصابَهُ من لُغوبٍ واللغوبُ معناهُ التعبُ لأن الله منزَّهٌ عن التَّعبِ وعن كُلّ الانفعالاتِ ومنزَّهٌ عن الغضبِ بالانفعالِ والرّضَا بالانفعالِ.

فائدةٌ: خُلِقَت الأرضُ يومَ الأحدِ والاثنينِ ثم خُلِقَت السَّمواتُ في اليومين التاليين الثلاثاء والأربعاء ثم خُلِقَت البهائمُ والأشجارُ الخميسَ والجمعةَ ثم دُحِيَت الأرضُ والدَّحْوُ هو البَسطُ بأن خَلَقَ فيها الأشجارَ والأنهارَ وسائرَ المرافِقِ وذلك معنَى قولِ الله {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وليس معنَى الدَّحْو جعلها كُرَويةً وهذا خلافُ اللغةِ، ثم خُلِقَ ءادمُ ءاخر يوم الجمعةِ وكلُّ يومٍ من هذه الأيّامِ السّتةِ التي خُلِقَت فيها السَّمواتُ والأرضُ قَدرُ ألفِ سنةٍ بتقديرِ أيَّامنا هذهِ. وكلُّ شيءٍ ينتفعُ بهِ ابنُ ءادم خُلقَ قبلَ ابن ءادم، البهائمُ خلقت لننتفعُ بها وكذلكَ الطيورُ قالَ تعالى: {وَسَخَرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13].

والأرضُ مسطوحةٌ شبيهةٌ بالكرةِ لا تنافي بينَ الأمرينِ بين سَطحِهَا وبينَ شبههَا بالكرةِ لأن معنَى مَسطوحةٍ موسَّعةٌ قال تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] معناهُ وسَّعَها، وليس معنَى قوله تعالى: {وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20] أنها ليست شبيهةً بالكرةِ فالأرضُ لها شَبَهٌ بالكرةِ وهي واسِعَةٌ.

قال المؤلف رحمه الله: إنَّما يَلْغَبُ مَن يَعْمَلُ بالجَوارِحِ والله سُبْحَانَهُ وتَعَالى مُنزَّهٌ عن الجارِحَةِ.

الشرح: الذي يلغَبُ هو الذي يفعلُ بالجوارحِ أما من فعلُهُ بلا جارحة ولا حركةٍ ولا ءالةٍ ولا مباشرةٍ بل بالقدرةِ والإرادةِ والعلمِ فلا يَلغَبُ أي لا يَلحقُهُ تَعَبٌ.

قال المؤلف رحمه الله: قال تَعَالى: {إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [غافر: 20].

الشرح: البارئ موصوف بالبصر أي بالرُّؤية وبالسَّمع أي أنه يسمعُ الأصواتَ لا بسمعٍ حَادِثٍ عند حدوث الأصوات، ويرى ذاتَه والمخلوقات برؤية أزلية ليست برؤية تَحدُث له عند حدوث المرئيات وذلك لأن ذلك شأنُ العباد يسمعون الأصوات بسمع يحدث لهم عند حدوثها ويرون المبصَرات برؤية تَحدُث لهم عند رؤيتها.

قال المؤلف رحمه الله: فَالله تَعالى سَميعٌ وبَصيرٌ بلا كيْفِيَّةٍ، فالسَّمْعُ والبَصَرُ هُمَا صِفَتَانِ أزَليَتانِ بلا جَارحَةٍ، أيْ بلا أُذُنٍ أوْ حَدَقَةٍ وبلا شَرْطٍ قُرْبٍ أو بُعْدٍ أو جِهَةٍ، وبدُوْنِ انبِعَاثِ شَعاعٍ مِنَ البَصَرِ، أو تَمَوُّجِ هَوَاءٍ.

وَمَنْ قَالَ لله أُذُنٌ فَقَدْ كَفَرَ وَلَو قَالَ لَهُ أُذُنٌ لَيْسَت كآذانِنا، بِخلافِ مَنْ قالَ لهُ عَيْنٌ ليسَتْ كعُيُونِنَا وَيَدٌ لَيْسَت كأَيدينَا بل بمَعْنَى الصّفَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لوُرُودِ إطْلاقِ العَيْنِ واليَدِ في القرءانِ ولَم يَرِدْ إطْلاقُ الأُذُنِ عَلَيْهِ.

الشرح: لا يجوزُ أن يقالَ لله أُذُنٌ ليست كآذانِنَا لأنه لم يَرِد إطلاقُ الأذنِ مُضافًا إلى الله لا في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ، أما أن يقالَ لله عينٌ ليست كأعيننا أو لله يدٌ ليست كأيدينا أو لله وَجهٌ ليست كوجوهِنا فيجوزُ لأن ذلك وَرَدَ في الشَّرعِ لكن مع تنزيهِ الله عن الجارحةِ، ولا نَقيسُ على اليدِ والوجهِ والعينِ لأن هذا وَرَدَ وذاك لم يَرِد، قالَ أبو الحسن الأشعري: «ما أَطلَقَ الله على نفسِهِ أطلقناهُ عليهِ وما لا فلا».

وأما الحديثُ([19]) الذي فيه: «للهُ أشدُّ أَذَنًا لقارئ حسن الصوت بالقرءان مِن أحدكم يستمع إلى قَينته» فالأَذَنُ هو الاستماعُ([20]) وليس الأذُنَ.

وقال عمرو خالد المصري على قناة المحور في تفسير هذه الآية {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} عن سيدنا آدم، قال باللهجة المصرية: «إحنا – نحن – فينا حتّة – جزء – من ربنا»، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

 

 

([1]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1413هـ الجزء الخامس ص257).

([2]) التفسير الكبير (طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد الخامس عشر الجزء 29 ص187).

([3]) في ظلال القرءان المجلد السادس (ص3481).

([4]) الحاوي للفتاوى (308، 309، 310 الجزء الثاني دار الكتاب العربي – بيروت).

([5]) اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى الجزء الأول ص86).

([6]) مجموع الفتاوى (طبع دار الوفاء، الطبعة الأولى 1418هـ المجلد الثاني 163).

([7]) الأشباه والنظائر (ص488).

([8]) المنهاج القويم (ص224).

([9]) روح البيان (5/370).

([10]) الرسالة الكبرى الحموية.

([11]) انظر: ذخائر القصر (ص69)، مخطوط.

([12]) الأجوبة المرضية لا(ص92، 93).

([13]) رد المحتار على الدر المختار (5/274).

([14]) أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب المساجد والجماعات: باب المشي إلى الصلاة.

([15]) نتائج الأفكار (1/272)، المغني عن حمل الأسفار (1/289).

([16]) فقولنا: «الله أكبر» معناه أكبر من كل كبير قدرًا ودرجةً وقوّةً وعلمًا لا امتدادًا وهذا مراد السَّلف بقوله في الآيات المتشابهة: «أمرُّوها كما جاءت بلا كيفيّةٍ» ليس معناه أن له كيفيّة ليست معلومةً لنا. وليس موافقًا للسّلف من يقول بناءً على ذلك استواء الله تعالى على العرش جلوس ولكن لا نعلم كيفيّة ذلك الجلوس.

([17]) رواه مرفوعًا عن الدارقطني في الأفراد (1/397)، والبغوي في تفسيره (5/255)، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (ص31) عن سفيان الثوري من قوله.

([18]) رواه الدارقطني في الأفراد (1/397).

([19]) أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب إقامة الصلاة وسننه فيها: باب في حسن الصوت بالقرءان.

([20]) كما قال الإمام الأوزاعي رضي الله عنه. ومعناه أن الله يحب سماع القرءان لقارئ مؤمن يُحسن قراءته أكثرَ مما يحب صاحبُ القينةِ الاستماعَ إلى قينته أي جاريته التي تغني له. انظر: المصباح المنير (ص4).