الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ لهُ النّعمَةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَنُ صَلَواتُ اللهِ البرّ الرّحيم والملائكةِ المقَرّبينَ على سيّدِنا محمّدٍ أشرفِ المرسَلِينَ وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسلينَ وسَلامُه علَيهِم أجمَعين، أمّا بعدُ فإني أذكّركُم بتَوحيدِ اللهِ تعالى في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه، اللهُ تَعالى ذاتُه ليسَ كسَائر الذّواتِ، ليسَ جِسمًا لطيفًا ولا جِسمًا كثِيفًا، الجِسمُ اللّطيفُ كالهواءِ والرُّوح أمّا الجسمُ الكثيفُ فهو كالإنسانِ والشّجَر والحجَر والنُّجُوم، فمَن لم يُنزّه اللهَ تعالى عن التّشبِيهِ بخَلقِه فهو غيرُ عارفٍ برَبّه، غيرُ مؤمنٍ بربّه، إنّما المؤمنُ هو الذي يؤمنُ بوجُودِ اللهِ مِن غيرِ أن يُشبّهَه بشَىء، فاللهُ تعالى ذاتُه أي حقِيقتُه لا يُشبهُ الذّوات، وأمّا تَوحيدُ اللهِ في صفاتِه فهوَ أن يعتقدَ الإنسانُ أنّ اللهَ تعالى لهُ صفاتٌ أزليةٌ أبديةٌ ليسَت طارئةً عليه، وجُودُ اللهِ تعالى ليسَ كوجُودنا، وجودُنا حادثٌ أمّا وجودُ الله تعالى فأزليٌّ .وأمّا توحيدُ الله في الأفعالِ فهو أن يعتقدَ المرءُ أنّ اللهَ تباركَ وتعالى يفعَلُ فِعلًا بقُدرته الأزليّةِ بتَكوينِه الأزليّ بلا مُباشَرةٍ ولا مماسَّةٍ لشَىءٍ، اللهُ تَعالى ما خَلَق شَيئًا مِن خَلْقِه بالممَاسّةِ إنّما خَلَقَه بقُدرتِه الأزليّةِ ومشيئتِهِ الأزليّةِ مِنْ دُونِ عِلاجٍ أي مِن دونِ حركَةٍ ومُباشَرَةٍ، الحاصِلُ أنّ أفعالَ اللهِ تعالى ليسَت كأفعالِنا. اللهُ تعالى لا يَمَسُّ ولا يُمَسُّ وذلكَ لأنّ الماسَّ والممسُوسَ لا يكونُ إلا حادثًا، لو كانَ اللهُ تَعالى يمَسُّ أو يُمَسُّ لم يكنْ إلًها.
قالَ اللهُ تَعالى: {إنّما أمرُه إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ له كُن فيَكون} 82 سورة يس . معناهُ اللهُ تَبارك وتعالى يَخلُق الشّىءَ بلا حَركةٍ ولا استعمَالِ ءالَةٍ إنّما بمجَرّدِ مشِيئَتِه الأزليّةِ يحصُلُ الشّىءُ، بمجرّدِ إرادتِه الأزليّةِ وقُدرَتِه الأزليّةِ يَحصُل الشّىءُ، هَذه العَوالم كلُّها دَخلَت في الوجُودِ بمشيئَةِ اللهِ وقُدرَتِه الأزليَّين، هذا معنى {إنّما أمرُه إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ له كُن فيَكون}، ليسَ المعنى أنّ اللهَ تَعالى يُحدِث قَولا مركّبًا مِن كافٍ ونُونٍ عندَ تَكوِينِ كُلّ شىءٍ مِن خَلقِه، ليس معناهُ أنّه يقولُ “كُن” كما نَحنُ نقُولُ كُن، نأتي بحرفَين الكافِ والنّون، الذي يتَوهَّم هذا في حقّ اللهِ تَعالى فهَذا نسَبَ إلى الله صِفةَ الحدُوث، جعَلَ اللهَ حَادثًا مَخلُوقًا، وهؤلاءِ الذينَ لا يُنزّهونَ اللهَ تَبارك وتعالى عن مُشابَهةِ الخَلق على زعمِهم كيفَ يَكونُ الأمرُ، هل يقولونَ عندَ خَلقِ أيّ شىءٍ يَنطِقُ بالكَاف والنّون، هذه صِفةُ المخلوقاتِ، اللهُ تَعالى لا يجُوز عليهِ أن يَنطِقَ بمثلِ هذا اللّفظِ إنّما عَبّرَ اللهُ تعالى في القرءانِ بهذا التّعبِير ليُقَرّبَ لنا ويفَهّمَنا أنّهُ يَخلُق الأشياءَ بلا تعَبٍ ومَشَقّةٍ كما أنّه في حَقّ المخلوقِ كلِمةُ كن ما فيها تعَبٌ، فاللهُ تعَالى قرّبَ لنَا بقولِه هذا إثباتَ تَكوينِه للمَخلوقاتِ حتى نَفهم أنّ اللهَ تباركَ وتعالى لا يَحتَاجُ في خَلقِ شَىء ما إلى حرَكةٍ وسكُونٍ واستِعمَالِ ءالةٍ فبمجَرّدِ تعَلُّقِ إرادتِه الأزليّةِ ومشيئَتِه وقُدرَتِه الأزليّةِ على وَفْق عِلمِه الأزليّ بالمحدَثاتِ تُوجَدُ المحدَثاتُ، تُخلَق المحدَثاتُ.
هذا التّنزيهُ لا يَغِبْ عن بالِكُم استَحضِرُوه على الدّوام واطرُدوا عن خواطِرِكُم ما يخالِفُ هذا. أمّا بعضُ أهلِ السّنةِ الذينَ يقولونَ قولُه تعالى: {إنّما أمرُه إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ له كُن فيَكون} أنّ مَعناهُ أنّ اللهَ تَعالى تَكلَّم في الأزل بمَدلولِ كلمةِ كُن، تَكلَّم في الأزل بكلامِه الذي ليسَ حَرفًا ولا صَوتًا فبِكلامِه ذلكَ وقُدرتِه وعِلمِه ومشيئَتِه تَحدُثُ العوالمُ، تحدُث الأشياءُ كلُّها، فهَذا ما فيهِ ضَررٌ. وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «لَيسَ الشَّديدُ مَنْ غلَبَ النّاسَ ولكنَّ الشّديدَ مَن غَلَبَ نَفسَه» رواه النسَائي، وإنما حدّثَنا رسولُ الله ﷺ بهذا الحديثِ لأنّ شرَّ النّفْسِ عَظيمٌ فهوَ يحذّرُنا مِن شُرور أنفُسنا فالنَّفْسُ مَن أطَاعَها في هَواها هلَكَ.
فالرَّسولُ ﷺ يحَذّرُنا مِن شَرّ أنفُسِنا، وذلكَ أنّ النّفسَ مَيّالَةٌ إلى الشّر والسّوءِ فمَن أطَاع هواهُ هلَك، يقَعُ في أنواعٍ مِنَ المهَالِك، مِن جُملَةِ تِلكَ المهَالِكِ الكفرُ الذي هو أعظَمُ المهالِكِ وأعظَمُ الخُسرَان، لأنّ الإنسَانَ يَغضَبُ فإذا غَضِبَ يُريدُ أنْ يَشتَفيَ لغَيظِه ممّن اغتَاظَه فيتَكلَّمُ بكَلمَةٍ هيَ فيها هلاكُه لكونها كُفرًا فإنْ لم تكن كُفرًا تَكونُ معصيَةً كبيرةً وإنْ لم تكنْ مَعصيَةً كبيرةً تكونُ معصيَةً مِنَ الصّغائرِ فكُلُّ ذلكَ ضَررٌ على الإنسَان، مَن أطَاعَ هَواهُ فكفَر فقَد خَسِرَ أعظَمَ الخُسرَانِ، ومَن أطاعَ هواهُ فوقَع في كبيرةٍ منَ الكبائر فقَد أهلَكَ نَفْسَه، ومَن أطَاعَ نَفْسَه في هَواها فارتكَب مَعصيَةً منَ الصّغائر فكذلكَ هذا خَسَارٌ وهَلاكٌ لهُ لكنّ الهلاكَ مَراتِبُ.
الهلاكُ الذي يتَرتّبُ على الكفرِ أشَدُّ الهلاكِ ثم يَليْه الهلاكُ الذي يتَرتّبُ على الكبائر منَ الذّنوب، ثم يليْه الهلاكُ الذي يتَرتّبُ على المعاصي الصّغَائر، والرّسولُ ﷺ يحَذّرُنا مِن ذلكَ كلِّه لأنّ الذي يُطِيعُ هَواهُ إذا غضِبَ ولم يملِكْ نَفْسَه قَد يقَعُ في كُفرٍ وقَد يقَعُ في معصيةٍ منَ الكبائرِ وقَد يقَعُ في معصيةٍ منَ الصّغائرِ وكلُّ ذلكَ خسَارٌ عليه، فلِأجْل عُظْم شَرّ النّفْسِ أوصَانا رسولُ الله ﷺ بأنْ نملِكَ أنفُسَنا ونَقهرَها إذا هيَ نزَغَت([1]) إلى معصيةٍ مِن مَعاصي اللهِ تَبارك وتعالى وقد يكونُ الإنسانُ في حَالتِه التي لا يكونُ فيها منفَعِلًا مِن غَيظٍ مِن إنسَانٍ لا يقصِدُ ولا يَعمِدُ إلى شَىءٍ مِن المهالِك ثم يحصُل لهُ انفِعالٌ مِن غَيظٍ مِنْ شَخصٍ مِنَ الأشخاصِ ويُريدُ أن يَشتَفِيَ مِن غَيظِه فلا يَملِكُ نَفسَه بل يُرسِلُها حتى تقَع في كفريّةٍ أو تقَعَ في معصيةٍ كبيرةٍ أو تقعَ في معصيَةٍ صغيرةٍ وكُلُّ ذلكَ خُسرانٌ علَيهِ.
وكذلكَ حَذّرَنا رسولُ الله ﷺ مِن اتّباع الغضَب المؤدّي إلى الهلاك، قال رجلٌ: أَوصِني يا رسولَ الله فقال له: «لا تَغضَبْ»، فعادَ فقالَ أوْصِني يا رسُولَ الله فأعادَ عليهِ كلِمَتَه: «لا تَغضَبْ»، ثم عادَ فقال أَوصِني يا رسولَ الله فأعادَ عليه الرّسولُ كلمَتَه فقال: «لا تَغضَبْ» رواه البخاري ومسلم.
ردّدَ قولَه: «لا تَغضَبْ» مِرارًا وذلكَ لحِكمةٍ عظِيمةٍ لأنّ الإنسانَ إذا غضِبَ فلَم يملِكْ نَفسَه واستَرسَل مع غضَبِه، انطلَق مع غضَبِه قد يَكفُر أو يقَعُ في معصيةٍ كبِيرةٍ أو يقَعُ في معصيةٍ صغِيرةٍ، كثيرٌ منَ النّاس إنّما يَكفُرونَ في حالِ الغضَب.
كثيرٌ منَ النّاس إنما يرتَكبُون الكبائرَ في حَالِ الغضَب، قَد يُقدِمُ الشّخصُ عندَ الغضَب إذا اتّبَع غضَبَه ولم يكُفَّ نَفسَه على قَتلِ نفسٍ مؤمنةٍ، وقَد يَنطَلِقُ الإنسانُ مِن أجلِ الغضَب على قَتلِ رَحِمِه وقَد يَنطَلِق عندَ الغضَب على قطِيعَةِ صدِيقِه الذي كان يعمَلُ معَه مَعروفًا فيكتَسِبُ حسَناتٍ بالمعروف الذي يعمَلُه مع صَديقِه، فبغَضبَةٍ واحدةٍ الإنسانُ يقطَعُ المعروفَ الذي كانَ يَعمَلُه مع صَديقِه أو يَقطَع رحمَه وفي قَطْع الرّحِم هَلاكٌ كَبِيرٌ، قالَ رسولُ الله ﷺ: «لا يَدخُلُ الجنّةَ قَاطِعٌ» رواه البخاري ومسلم وغيرُهما.
المعنى القَاطعُ أي قاطعُ الرّحِم لا يَدخُلُ الجنّةَ مع الأوّلينَ إنّما يَدخُل مع الآخِرينَ، الجنّةُ لا يَدخُلها أهْلُوهَا دَفعةً واحِدَةً، بل بينَ دخُولِ فَوج وفَوجٍ قَد يكونُ مُدّةٌ طَويلةٌ، فقراءُ المهاجِرينَ الذينَ كانوا ترَكوا بلادَهم حُبّا في اللهِ ورسولِه فهاجَرُوا إلى المدينةِ حُبّا باللهِ ورسولِه، تركُوا بلادَهم لكَونِ أهلِ بلادِهم مُشركِين، ترَكوا بلادَهم وهاجَروا إلى المدينةِ كما أنّ الرسولَ هاجَرَ بإذنِ الله تعالى مِن مكةَ إلى المدينةِ، فهؤلاء مؤازَرةً للرّسول هاجَروا، حُبًّا باللهِ ورسوله وكانوا فقراءَ إلا النّادرَ وكانوا مِن أهلِ الصَّبر، هؤلاءِ اللهُ تبارك وتعالى يُدخلُهمُ الجنةَ قبلَ الأغنياء بخمسِمائةِ عَام، وكذلكَ الفقراءُ الذينَ جاؤوا بعدَ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ([2]).
المهاجِرونَ الأوّلُونَ الذينَ هاجَرُوا في زمنِ رسولِ الله إلى المدينة يَسبِقُونَ غيرَهم منَ الأغنياءِ في دخُول الجنّةِ، يَدخُلونَ فيتَمتّعُونَ بالجنّةِ جزاءً منَ الله على صَبْرهم على فَقْرهم مع التّمسُّك بالإيمان، فالمسلمُ الفَقير الذي يَصبرُ على قَضاءِ الله وقدَرِه ولا يتَسَّخّطُ مِن قضَاءِ الله مِن أجْلِ الفَقْر الذي أصابَه لهُ أجْرٌ جَزيلٌ عندَ الله، يُدخِلُهمُ اللهُ الجَنّةَ قبلَ الأغنياءِ بخَمسِمائة عام، أمّا الفقيرُ الذي لا يَصبِرُ على قضاءِ اللهِ فيَسُوقُه فَقرُه إلى طلَبِ المال مِن طَريقٍ حَرامٍ هَذا ليسَ لهُ هذا الفَضلُ، لا يَنالُ هذا الفَضلَ، إنّما ذلكَ الفَضلُ هوَ لمن صَبَر فلَم يَعصِ ربَّه مِن أَجْلِ فَقْره بل تحَمّلَ مَرارَةَ الفَقرِ بالصّبْر والكَفّ عن المال الحَرام.
الذي يَصبرُ عن المالِ الحرام ويَمنَعُ نَفسَه ويَقنَع بما رزقَه اللهُ تَعالى مِنَ المعيشَةِ الضّيّقَةِ فهَذا لهُ ذلكَ الأجرُ العظيمُ عندَ الله، يَسبِقُ الأغنياءَ إلى دخولِ الجنّة بخمسِمائةِ عام وذلكَ لأنّ الفَقرَ مِن جملَة أنواع البلاءِ الذي يَبتَلي به مَن شاءَ مِن عبادِه، اللهُ تعالى يَبتَلِي عبادَه بأنواعٍ منَ البلاء منهُم مَن يَكونُ مُعظَمُ بلائه بالفَقر ومنهُم مَن يكون مُعظَمُ بلائه بالأسقام أي الأمراضِ ومنهم مَن يَكونُ مُعظَمُ بلائِه بأذَى النّاس له. ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى جعَلَ أكثرَ المؤمنينَ الأتقياءَ أعظمَ الناسِ بلاءً في الدّنيا فلِذَلكَ كانَ أكثرُ الأنبياءِ والأولياءِ فُقَراءَ، الأغنياءُ فيهِم بالنّسبةِ إلى فُقرائِهم قِلّةٌ، المعروفُ بالغِنى في الأنبياءِ قَليلٌ بالنّسبَةِ لمن كانوا فقراءَ، كذلكَ الأولياءُ نِسبَةُ الفقَراءِ فيهم أكثرُ مِن نِسبَةِ الأغنياءِ وذلكَ لأنّ الفَقْرَ مَرارَتُه شَدِيدَةٌ.
المؤمنُ الصّادقُ القَانعُ بما رَزقَه اللهُ الذي لا يَدفعُه فَقرُه إلى طلَب الحرام فهذا جَاهَدَ نَفسَه، اللهُ تَبارك وتعالى أَعْظَمَ لهمُ الأجرَ بأنْ جَعَلَهُم يَسبِقُون الأغنياءَ بخمسِمائةِ عام، يومُ القيامةِ يومٌ طَويلٌ مِقدارَ خمسينَ ألفَ سنَةٍ ثم هذا اليومُ الطّويلُ بالنّسبةِ لعبادِ اللهِ المتّقينَ الذين قامُوا بحقُوقِ الله وحقُوقِ عبادِه يَصيرُ خَفيفًا علَيهِم لا يُحِسُّونَ بمَلَلٍ ولا بضِيقٍ مِنْ عُظْم ما مَلأ قُلُوبَهُم منَ الفرَح والسُّرور، الأتقياءُ ذلكَ اليومَ في سُرورٍ وفرَح متوَاصِلٍ مُستَمِرّ، فيَجعَلُ اللهُ تَعالى هذه المدّةَ الطّويلةَ، مِقدارَ يوم القيامةِ، على بَعضِهم يجعَلُه كمَا بينَ العصرِ إلى الغرُوبِ، كمَا بينَ العَصر إلى غروبِ الشّمس، وعلى بَعضِهم كما بَينَ مَيلِ الشّمسِ للغُروبِ إلى أن تَغرُبَ، هَذا سَببُه أنّ اللهَ تعالى شَغَلَ نفُوسَهم وقلُوبَهُم بسُرورٍ مُتَواصِلٍ لا يَشعُرُونَ مَعه بكآبةٍ ولا حَزَن.
وفي الحديثِ أنّ العَرَقَ يَكونُ منَ النّاسِ يومَ القِيامَةِ على قَدْر أعمَالِهم كما جاء في حديثٍ ءاخَر «فيَكونُ الناسُ على قَدْر أعمالِهم في العرَق، فمِنهُم مَن يكونُ العرَقُ إلى كَعبَيه، ومنهم مَن يكونُ إلى رُكبَتَيه، ومنهم مَن يكونُ إلى حِقْوَيْه، ومنهم مَن يُلجِمُه العَرَقُ إلْجَامًا» رواه مسلم. (حِقْوَيْه بفَتح الحاءِ وكَسرِها وهما مَعقِدُ الإزارِ والمرادُ هُنا ما يُحَاذِي ذلكَ الموضِعَ مِنْ جَنْبَيْه)
وفي الحديث: «تَدنُو الشّمسُ يومَ القيامةِ مِنَ الخَلْق حتى تَكُونَ مِنهُم كمِقدَار مِيْلٍ» رواه مسلم.
وقال رسول الله ﷺ: «مَن تَكفَّلَ لِيْ مَا بَين شِدْقَيه وفَخِذَيه تَكفَّلتُ لهُ بالجَنّة»([3]). لمّا كانَ ابتِلاءُ الإنسانِ بالمعَاصي بلسَانِه كثِيرًا جِدّا أكّدَ رسولُ الله ﷺ حِفظَ اللّسانِ لكَثرةِ معَاصيْه على معاصِي سائرِ الجَوارح، قال رسول الله ﷺ: «مَن صمتَ نجَا» رواه أحمد والترمذي والدارمي والبيهقي. صَمَت معناهُ سكَت كفّ لسَانَه عن الكلام أي إلا مِن خَيرٍ، أمّا كثرَةُ شَغْلِ اللّسان بكلامِ الخَيرِ كقِراءةِ قرءانٍ أو تَعليم عِلم دِينٍ ونَحوِ ذلكَ فهذا رِفعَةٌ في الدّرجَاتِ، أمّا الكلامُ الذي ليسَ مِن هذا القَبِيلِ فالسّكُوتُ عنهُ فضِيلَةٌ لذلكَ قالَ رسول الله ﷺ: «مَن صَمَتَ نَجَا».
وحَذّرَ رسولُ اللهِ ﷺ النّساءَ في حَديثِه الصّحيحِ الثّابتِ وهوَ أنّه ﷺ كانَ ذاتَ يوم وكانَ ذلكَ اليومُ يومَ العيدِ ومعهُ بِلالٌ رضي اللهُ عنه، النّسَاءُ كُنّ في زَمَن الرّسولِ عليه السلام يَخرُجْنَ لصَلاةِ العِيد، حتى النّساءُ الحُيَّضُ كُنّ يَخرُجْن([4]) لكنّ الحُيّضَ يَعتَزلْنَ مَكانَ الصّلاة، أمّا غيرُ الحُيّض فكُنّ يُصَلّينَ خَلفَ صُفوفِ الرّجالِ فقالَ الرسولُ ﷺ: «تَصَدَّقْنَ فَإنّي رَأيتُكُنَّ أكثَرَ أهلِ النّار» رواه البخاري ومسلم. فكانَت النّساءُ يتصَدّقْنَ بالقُرْطِ، القُرْطُ هوَ هَذا الذي يُعلَّقُ على شَحمَةِ الأذُن([5])، كُنّ يتَصَدّقْنَ بالحُليّ الذي يُعَلّقنَه في ءاذَانهِنّ وخَواتِيمِهنّ، النّساءُ المؤمناتُ في ذلكَ الزّمَن كُنّ سَريعاتٍ لإجابَةِ دَعوةِ الخَير، لما سمِعْنَ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ لهنّ: «تَصَدَّقْنَ فَإنّي رَأيتُكُنَّ أكثَرَ أهلِ النّار» صِرْنَ يتَصدّقْنَ، هذه تُلقِي خاتَمها في ثَوبِ بلال، بلالٌ فتَحَ ثوبَه فتَرمي هذه وهذِه الخاتَم أو القُرْطَ، فذكَرَ مِن أسبابِ كونهِنّ أكثرَ أهلِ النار أنهنّ «يَكفُرْن» ثم فسَّر قولَه يَكفُرْن بأنهنّ «يَكفُرْنَ العَشِيرَ» أي يُنكِرْنَ إحسانَ الزَّوج([6]).
خرجَ رسولُ الله ﷺ في أضْحى أو فِطْرٍ إلى المصَلَّى فمَرّ على النّساء فقال: «يا مَعشَر النّساءِ تصَدّقْنَ فإنّي أُرِيتُكُنَّ أَكثَرَ أهلِ النّار»، فقلنَ: لم يا رسولَ الله؟ قال: «تُكثِرْنَ اللّعْنَ وتَكفُرنَ العَشِيرَ، مَا رأيتُ مِن ناقِصاتِ عَقلٍ ودِينٍ أذهَبَ للُبّ الرّجُل الحَازمِ مِن إحْداكُنّ»، قلنَ: وما نُقصَانُ عَقلِنا ودِينِنا يا رسولَ الله؟ قال: «أليسَ شَهادَةُ المَرأةِ مِثلَ نِصفِ شَهادَةِ الرّجُل؟» قُلنَ: بَلَى، قال: «فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيسَ إذَا حَاضَت لم تُصَلّ ولم تَصُم؟» قُلنَ: بلى، قال: «فذَلكَ مِن نُقصَانِ دِينِها» رواه البخاري([7]).
مِنَ الحَرام أن تُنكِرَ المرأةُ إذا غضِبَت مِن زَوجِها إحسانَه الذي كانَ يُحسِنُه إليها كذلكَ ذكَر أنهُنّ يُكثِرْنَ اللّعْنَ وهَذا شىءٌ واقعٌ حاصِل، أكثرُ السّبّ مِن النّساء، اللّعنُ في النّسَاء أكثرُ مِنهُ في الرّجَال.
الصّدَقةُ أحيَانًا تُخَلّصُ صَاحبَها مِن دخُولِ النّار إنْ كانَ مِن أهلِ الكبائر أليسَ قال الرسولُ ﷺ: «اتّقُوا النّارَ ولَو بشِقّ تَمرَة» رواه البخاري وغيره([8]) يعني نِصفَ حَبّةِ تمرةٍ إذا إنسانٌ تصَدّقَ به أي مِن مَالٍ حَلالٍ لوجهِ الله تعالى مخلِصًا في نيّتِه، نصفُ حَبّةِ تَمرةٍ واحِدةٍ يُعتِقُ اللهُ بهِ الشّخصَ المسلمَ مِنَ النار، ليسَ لكُلّ إنسانٍ هذا، هذا لبَعضِ المسلمِين، لمنْ شاءَ اللهُ منَ المسلمِين، إذا كانَ نِصفُ تَمرةٍ واحِدةٍ إنْ تصَدّقَ بهِ لوجهِ اللهِ تعالى ويكونُ ذلكَ التّمرُ حَلالًا يُنقِذُ المتصَدّقَ بهِ منَ النّار فكيفَ الصّدقةُ الكبيرةُ، ولكنْ ليسَ معنى الحديثِ أنّ أيَّ إنسانٍ يُذنب ذنبًا صَغيرًا أو كبيرًا إذا تصَدّقَ صَدقةً انمحَى ذلكَ الذّنبُ كائنًا مَا كان، المعنى أنّ اللهَ تعالى قَد يُعتِق المؤمنَ منَ النّار بنِصْف تمرةٍ واحِدةٍ إذا تَصَدّق بها.
اللهُ تباركَ وتعالى إذا أرادَ أن يُنقِذَ عبدَه المسلمَ ينقِذُه بأيّ حسَنةٍ منَ الحسَناتِ مِنْ عذَابِه، يمحُو عنهُ الكبيرةَ والصّغيرةَ، وقَد ذُكِر في حديثِ رسولِ الله ﷺ أنّ امرأةً في بني إسرائيلَ أيْ مسلِمةً، هذا قبلَ الرّسولِ عليه الصلاة السلام، الرسولُ عليه الصلاة السلام مِن طَريق الوَحْي يتَحدَّث، ليسَ عمّا حصلَ في زمانِه، امرأةٌ كانَت بغِيًّا أي زانيةً ذاتَ يومٍ وَجَدت كلبًا يَلهَثُ منَ العطَش أي مدَّ لها لِسانَه فرَقَّ لهُ قَلبُها فأرادَتْ أن تَرحمَه، أنْ ترحَمَ هَذا الكلبَ مِنَ العَطَش الذي بلَغَه للهِ تعالى، هيَ نَوتْ للهِ تَعالى، فمَا وجَدَتْ شَيئًا تَأخُذُ بهِ الماءَ منَ البِئرِ وتَسقِيْ به هذا الكَلبَ، فخَلَعَت حذاءَها فأخَذَتْ فيهِ الماءَ وسَقَتِ الكَلبَ فغَفَرَ اللهُ لها، يعني محَى ذَنبَ زِناهَا الذي كانت تتَعاطَاه، لكنْ ليسَ مَعنى هَذا الحديثِ أنّ أيَّ إنسَانٍ إذا عَمِلَ مِن هذا الفِعلِ تُمحَى عَنهُ الذّنُوبُ الكَبِيرَةُ كالزّنى، هذا معناهُ قَد يَحصُلُ لبَعضِ النّاس([9]). واللهُ سُبحانَهُ وتعالَى أعلَم.
([2]) عن أبي سَعيد الخُدريّ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَدخُلُ فُقَراءُ المسلمينَ الجنّةَ قَبلَ أغنيائهِم بخَمسِمائةِ عام» رواه الطبراني. وقال ﷺ «فقَراءُ المهاجِرينَ يَدخُلونَ الجنّةَ قَبلَ أغنِيائِهم بخَمسِمائةِ عام» رواه الترمذي.
([3]) عن سَهل بنِ سَعدٍ السّاعدِيّ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَن توكَّلَ ليْ ما بَينَ رِجْلَيْه ومَا بَينَ لَحْيَيْه تَوكّلتُ لهُ بالجنّة» رواه البخاري.
([6]) عن ابنِ عمرَ أنّ النبي ﷺ قال: «يا مَعشَرَ النّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وأَكْثِرْنَ مِنَ الاستِغفارِ فإنّي رأَيتُكُنّ أكثَرَ أهلِ النّار» قالت امرأةٌ منهُنّ جَزْلَةٌ (أي تامَّةُ الخَلْق ويجوزُ أنْ تكونَ ذاتَ كلامٍ جَزْلٍ أي قَوِيّ شَدِيد) ما لنَا أكثرُ أهلِ النّار؟ قال: «تُكثِرْنَ اللّعْنَ وتَكفُرْنَ العشِيْرَ ما رأيتُ مِن ناقِصاتِ عَقْلٍ ودِينٍ أغْلَبُ لذِي لُبّ مِنكُنّ» قالت: ما نُقصَان العقلِ والدّين؟ قال: «شَهادةُ امرأتَينِ بشَهادةِ رجُلٍ، وتَمكُث الأيّامَ لا تُصَلّي» رواه البخاري ومسلم.
([7]) لأنهُنّ إذا كُنّ سبَبًا لإذْهابِ عَقلِ الرّجُل الحَازم حتى يَفعلَ أو يقولَ مَا لا ينبَغي فقد شَاركْنَه في الإثم وزِدْنَ عليه، قوله «أذهَب» أي أشدَّ إذهَابًا، واللُّبُّ أخَصُّ منَ العَقلِ وهوَ الخالِصُ منهُ، والحَازمُ الضّابطُ لأمرِه، وهذه مُبَالغَةٌ في وصْفِهنّ بذلكَ لأنّ الضّابطَ لأمرِه إذا كانَ يَنقَادُ لهُنّ فغَيرُ الضّابطِ أَوْلَى.
([8]) قال عَدِيٌّ سمعتُ النبي ﷺ يقول: «اتّقُوا النّارَ ولَو بشِقّ تَمرَة فمَن لم يجِدْ شِقّ تَمرَةٍ فبكَلِمةٍ طيّبَةٍ».
([9]) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي ﷺ «إنّ امرأةً بغِيًّا رأَت كَلبًا في يومٍ حَارّ يَطِيفُ ببِئرٍ قَد أدْلَع لِسَانه منَ العَطش فنَزعَت لهُ بمُوقها فغفرَ لها» رواه البخاري ومسلم. قوله: «أَدْلَعَ» أي أخرجَ. وعن عبد الله بن مُغَفَّل أن امرأةً كانَت بغِيًّا في الجاهليّة فمرّ بها رجلٌ أو مرّت به فبَسطَ يدَه إليها فقالت مَه إنّ اللهَ ذهَبَ بالشّرك وجاءَ بالإسلام، فتَركَها ووَلّى وجعَلَ يَنظُر إليها حتى أصابَ وجْهَهُ الحائطُ، فأَتَى النّبيَّ ﷺ فذكَرَ ذلكَ له، فقال «أنتَ عَبدٌ أرادَ اللهُ بكَ خَيرًا، إنّ اللهَ تَبارك وتعالى إذَا أرادَ بعَبدٍ خَيرًا عَجّلَ لهُ عقُوبةَ ذَنْبِه وإذا أرادَ بهِ شرًّا أمسَكَ علَيهِ العقُوبةَ بذنْبِه حتى يُوافَى بهِ يومَ القيامةِ» رواه الحاكم في مستدركه.