قال المحدث عبد الله بن محمد صديق الغماري الحسني الإدريسي في كتابه «بدع التفاسير» ما نصه[(411)]: «تفسير الجلالين ينساق مع الإسرائيليات».
والظن أنه مما أدخل عليه ودس فيه، وإنما اخترناه دون غيره لشهرته وتوفره بين أيدي الناس، على أنا سنذكر التفسير الصحيح أولا إن شاء الله تعالى، ثم نذكر الدخيل الفاسد.
قال أبو بكر بن العربي: «اَلَّذِي أَوْقَعَ النَّاسَ فِي قبول الأخبار الضعيفة والموضوعة في حق الأنبياء هو رِوَايَةُ الْمُفَسِّرِينَ، وَأَهْلُ التَّقْصِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي قَصَصِ الأَْنْبِيَاءِ، وهي مَصَائِب لاَ قَدْرَ عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ اعْتَقَدَهَا رِوَايَاتٍ وَمَذَاهِبَ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ حُسْنِ الأدَبِ مَعَ الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَلاَّ تُبَثُّ عَثَرَاتُهُمْ لَوْ عَثَرُوا، وَلاَ تُبَثُّ فَلَتَاتُهُمْ لَوْ اسْتَفْلَتُوا؛ فَإِنَّ إسْبَالَ السِّتْرِ عَلَى الْجَارِ وَالْوَلَدِ وَالأخِ وَالْفَضِيلَةُ أَكْرَمُ فَضِيلَةٍ، فَكَيْفَ سَتَرْت عَلَى جَارِك حَتَّى لَمْ تَقُصَّ نَبَأَهُ فِي أَخْبَارِك؛ وَعَكَفْت عَلَى أَنْبِيَائِك وَأَحْبَارِك تَقُولُ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَتَنْسُبُ إلَيْهِمْ مَا لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِهِ، وَلاَ تَلَوَّثُوا بِهِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا التَّعَدِّي وَالْجَهْلِ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ فِي الأَْنْبِيَاءِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[(412)]. وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِعِبَادِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَكَيْفَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ؟ فَمَا ظَنُّك بِالأَْنْبِيَاءِ، وَحَقُّهُمْ أَعْظَمُ، وَحُرْمَتُهُمْ آكَدُ، وَأَنْتُمْ تَغْمِسُونَ أَلْسِنَتَكُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ، وَلَوْ قَرَّرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ حُرْمَتَهُمْ لَمَا ذَكَرْتُمْ قِصَّتَهُمْ من غير تبصر وتثبت.
والْحِكْمَةَ فِي أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَصَصَ الأَْنْبِيَاءِ ليقتدي بهم الناس في أخبارهم كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} يَعْنِي أَصْدَقَهُ، وَقَالَ: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} ، ولا ينبغي للناس أن يَخُوضُوا فِيهَم إلا بِقَدْرٍ، وَأن يَتَكَلَّمُوا فِي شأنهم بِالحِكْمَة، وإذَا كانوا لاَ بُدَّ آخِذِينَ فِي شَأْنِهِمْ ذَاكِرِينَ قَصَصَهُمْ فينبغي أَلاَّ يُجاوزوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأن يقُولُوا ذَلِكَ بِصِفَةِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَالتَّنْزِيهِ عَنْ غَيْرِ مَا نَسَبَ اللَّهُ إلَيْهِمْ[(413)]. وقد قال علماء الحديث رضي الله عنهم: «الإسناد كالسيف للمقاتل، وكالسلم لمن يريد الصعود إلى المقصود»، وروى الإمام مسلم عن الإمام عبد الله بن المبارك نفعنا الله بهما أنه قال: «الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء»[(414)]، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «الذي يطلب الحديث بلا سند كحاطب ليل يحمل الحطب وفيه أفعى وهو لا يدري»[(415)]، أي فربما تقتله، فيكون ممن حمل حتفه، وهو هنا قد يكون هلاكه ووقوعه في الضلال المبين.
في الجزء الأول من تفسير الجلالين موضعان:
الأول: عند قوله تعالى في تفسير سورة الأعراف: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [(416)] التفسير الصحيح لهذه الآية أن الأب والأم من ذرية آدم وحواء من بعد نبي الله إدريس أشركوا بدل أن يشكروا الله بطاعته، ويدل آخر الآية على ذلك، وهو قوله تعالى: {…فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *}.
قال الحافظ ابن جرير الطبري: «حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: {…جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا… *} قال: «كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم».
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن: «عنى بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده»[(417)].
ولهذا قال المفسر النسفي في تفسيره: « {…جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا… *} أي جعل أولادهما (أي من بعد نبي الله إدريس) له شركاء على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك: {…جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا… *} أي آتى أولادهما، دليله: {…فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *} حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك»[(418)] اهـ.
وقال أبو حيّان الأندلسي: «ومعنى: {…جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا… *} أي حرفاه عن الفطرة إلى الشرك، كما جاء: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه»، وقال القفالُ نحوَ هذا القولِ، قال: «هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة، وجعل من جنسها زوجها، وذكر حال الزوج والزوجة: {…جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا… *} أي الزوج والزوجة {…جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا… *} لله تعالى {…جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا… *} لأنهما تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب، كما هو قول المنجّمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان، كما هو قول عبدة الأصنام»، وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية»[(419)] وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين من الزوج والزوجة، لا إلى آدم وحواء.
أما الدخيل على تفسير الجلالين فهو ما ورد فيه من قولهم: «إن آدم وحواء وافقا إبليس في أمره لهما بتسمية المولود الذي يأتيهما «عبد الحارث»[(420)].
الملاحظة: أن هذا شىء لا يليق بآدم وحواء أن ينخدعا للشيطان إلى حد الإشراك، فيستحيل على نبي من الأنبياء أن يشرك بالله قبل النبوة وبعدها، وذلك متفق عليه بلا خلاف في عقيدة المسلمين، وقد قال المفسر أبو السعود: «ولا ريب في أنهما عليهما الصلاة والسلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه»[(421)]، وقال أيضا: «وأما ما قيل من أنه لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل، فقال لها: «ما يدريك ما في بطنك؟ لعله بهيمة أو كلب أو خنزير، وما يدريك من أين يخرج؟»، فخافت من ذلك، فذكرته لآدم، فأهمهما ذلك، ثم عاد إليها، وقال: «إني من الله تعالى بمنزلة، فإن دعوته أن يجعله خلقا مثلك، ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث؟»، وكان اسمه حارثا في الملائكة، فقبلت، فلما ولدته سمته عبد الحارث، فمما لا تعويل عليه، كيف لا وأنه صلى الله عليه وسلم كان علما في علم الأسماء والمسميات؟!! فعدم علمه بإبليس واسمه واتباعه إياه في مثل هذا الشأن الخطير أمر قريب من المحال[(422)] ثم حواء ولية من الوليات أيضا لا تنخدع بهذا للشيطان، فالله يقول في أوليائه: {…لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [(423)].
الثاني: في تفسير سورة يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [(424)].
التفسير الصحيح: قال الفخر الرازي: «المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه، ومنعها عن ذلك القبيح، لأن الهم هو القصد، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به، فاللائق بالمرأة (أي في حق زليخا امرأة العزيز) القصد إلى تحصيل اللذة والتنعم والتمتع، واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقال: هممت بفلان أي بضربه ودفعه.
فإن قيل: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [(425)] فائدة.
قلنا: بل فيه أعظم الفوائد، وبيانه من وجهين:
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر بقتله، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صونا للنفس عن الهلاك.
والثاني: أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به فكان يتمزق من قُدام، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزقا من خلف لكانت المرأة هي الخائنة، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولى عنها حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية»[(426)] اهـ.
ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا، قاله الحافظ ابن الجوزي[(427)].
وقال الفخر الرازي في تفسيره: «إن يوسف عليه السلام كان بريئا عن العمل الباطل والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول، وعنه نذب»[(428)] اهـ، أي ندفع.
وقال بعض العلماء في تفسير: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} : «أحسن ما قيل: «إن جواب لولا محذوف يدل عليه ما قبله: أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فلم يحصل منه هم بالزنا لأن الله أراه برهانه، كما تقول لصديقك: «زرتك لولا أمطرت» فلم تحصل الزيارة لنزول المطر»، وهو ما نبّه إليه المفسر اللغوي أبو حيان الأندلسي في تفسيره، فقال: «الذي نقوله إن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم ألبتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: قارفت لولا أن عصمك الله»[(429)] اهـ.
ومن الأدلة على براءة نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام: «أن الأنبياء متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك، وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار، ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع، وحيث لم يوجد شىء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية»[(430)] اهـ.
«واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السلام وتلك المرأة وزوجها والنسوة والشهود، ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضًا عن المعصية، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب.
أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب، فهو قوله عليه السلام: {…هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [(431)]، وقوله عليه السلام: {…رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [(432)].
وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: {…وَلَقَدْ رَاوَدْتَّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [(433)].
وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك فهو قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ *يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ *} [(434)].
وأما الشهود فقوله تعالى: {…وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *} [(435)].
وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله: {…كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ *} [(436)] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات:
أولها قوله: {…لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} واللام للتوكيد والمبالغة، و الثاني قوله: {…لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء، و الثالث قوله: {…إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ *} ، مع أنه قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا *} [(437)]، و الرابع قوله: {…إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ *} وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه ءاتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص، ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه.
وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته فلأنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ *} [(438)] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {…إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ *} فكان هذا إقرارًا من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى»[(439)] اهـ.
فيتلخص مما ذكر: أن الله عصم الأنبياء عن الرذائل، ونزههم عنها، ويوسف عليه السلام لم يَشْتَهِها لنفسه، ولا أراد أن يواقعها، ولم يهم بذلك، هذا هو اللائق بالنبي، وهو من تعلق قلبه بمحبة الله وتعظيمه ومخافته، وهذا هو اعتقاد المسلمين.
فالقول بأن سيدنا يوسف عليه السلام هم بالزنا بامرأة العزيز أي قصد ذلك، هو قول باطل فاسد، مخالف لهدي القرءان، وفيه طعن وقدح بنبي من الأنبياء، وهي دعوى باطلة بالنقل والعقل كما رأيت، بل هي ضلال مبين.
أما الدخيل على تفسير الجلالين فهو قولهم فيه: «قصد ذلك» أي الجماع، أي قصد الزنا[(440)].
الملاحظة: هذا غلط شنيع يخالف نزاهة الأنبياء، فيستحيل على نبي من الأنبياء قصد الزنا، كما يستحيل عليه فعله لما فيه من الطعن والقدح بنبي من الأنبياء، ومعتقده هالك يلزمه أن يتخلى عن هذا الاعتقاد، وأن يتشهد بنية الرجوع للإسلام. وفي الجزء الثاني من هذا التفسير غلطان:
الأول: في تفسير سورة الحج عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ… *} [(441)].
التفسير الصحيح: أن كلاً من الأنبياء كان يقرأ على قومه، ثم الشيطان يلقي إلى الناس كلامًا غير الذي يقرءونه، أي يزيد للناس من كلامه على ما قاله النبي ليوهم أن النبي قال ذلك، أي ليفتنهم، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ويثبت ما يقرءونه، وذلك ابتلاء من الله، ولا يصح القول بأن الشيطان يلقي على ألسنة الأنبياء كلامًا، وإلا لارتفعت الثقة في كلامهم، ولقال الناس: «لعل هذا من إلقاء الشيطان»، ولذلك استحال حصول ذلك.
قال القشيري: «الشياطين يتعرّضون للأنبياء عليهم السلام، ولكن لا سلطان ولا تأثير فى أحوالهم منهم، ونبيّنا صلى الله عليه وسلم أفضل الجماعة – أي أفضل الأنبياء -، وإنما من الشيطان تخييل وتسويل (من التضليل)، وكان لنبيّنا صلى الله عليه وسلم سكتات في خلال قراءة القرآن عند انقضاء الآيات، فيتلفّظ الشيطان ببعض الألفاظ، فمن لم يكن له تحصيل توهّم أنه كان من ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام وصار فتنة لقوم، أما الذين أيدهم بقوة العصمة، وأدركتهم العناية فقد استبصروا، ولم يضرهم ذلك»[(442)].
وهذا ما أوضحه النسفي فقال في تفسيره: «لأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه: {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ… *} [(443)] وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [(444)]، فلما بطلت هذه الوجوه (حيث ذكر النسفي احتمالات ورَدّها) لم يبق إلا وجه واحد، وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *} فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلا بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، فوقع عند بعضهم (من المشركين) أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تكلم بها، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام ويُسمَعُ كلامه، فقد روي أنه نادى يوم أحد: «ألا إن محمدا قد قتل»، وقال يوم بدر: «لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم»[(445)] اهـ.
أما الدخيل على تفسير الجلالين فهو قولهم: «وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم بمجلس من قريش بعد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاََّّتَ وَالْعُزَّى *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى *} [(446)] بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه صلى الله عليه وسلم : «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى»، ففرحوا بذلك، وكانوا بالقرب منه مع المسلمين، وقالوا: «ما ذكر ءالهتنا بخير قبل اليوم». فجاء جبريل وقال له: «هذا ليس من القرءان»، فحزن رسول الله، وأنزل الله الآية تسلية له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ… *} »[(447)].
الملاحظة: هذه الرواية غير صحيحة، فقد وقف على هذه القصة غير واحد من العلماء المحققين، وبينوا زيف وبطلان هذه المرويات التي أوردها بعض المفسرين، فقالوا: «لم يصح شىء من هذا، ولا ثبت بوجه من الوجوه»[(448)] ثم حصول قراءة شىء غير القرءان على ظن أنه قرءان مستحيل على الرسول فهو معصوم من ذلك، فقد قال الفخر الرازي: «يكفر من اعتقد أن الشيطان أجرى كلاما على لسان النبي هو مدح الأوثان الثلاثة اللات والعزى ومناة بهذه العبارة: «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، إذ يستحيل أن يمكن الله الشيطان من أن يجري على لسان نبيه مدح الأوثان»[(449)].
وقال أيضا: «أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ *لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *} [سورة الحاقة] ، وثانيها: قوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة يونس] وثالثها: قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *} فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية: «تلك الغرانيق العلى» لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال، وذلك لا يقوله مسلم. ورابعها: قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [سورة الإسراء] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل. وخامسها: قوله : {ولَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً *} [سورة الإسراء] ، وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل. وسادسها: قوله: {…كَذَلِكَ… * نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [سورة الفرقان] . وسابعها: قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى *} [سورة الأعلى] . وأما السنة: فهي ما روي عن محمد بن إسحق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: «هذا وضع من الزنادقة»، وصنّف فيه كتابًا. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: «هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل»، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضًا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق. وروي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أن من جوّز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان. وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنًا أذى المشركين له، حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة، وذلك يبطل قولهم. وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدًا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم؟!. ورابعها: قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} ، وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنًا، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى. وخامسها: وهو أقوى الوجوه، أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ… *} [سورة المائدة] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه، فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.
أكثر ما في الباب أن جمعًا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة»[(450)].
وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شىء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا وغلطا: «اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين:
أحدهما: في توهين أصله، والثاني: على تسليمه. أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، قال أبو بكر البزار: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة الا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس»؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه. وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله. والذي منه في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَالنَّجْمِ} بمكة، فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس؛ هذا توهينه من طريق النقل.
فأما من جهة المعنى: فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إمَّا من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبّه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل عليه السلام، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا – وذلك كفر – أو سهوا وهو معصوم من هذا كله، وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمدا ولا سهوا أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقى الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل أو أن يتقول على الله لا عمدا ولا سهوا ما لم ينزل عليه وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ *} الآية، وقال تعالى: {إِذًا لأََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} الآية، ووجه ثان: وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا وذلك أن هذا الكلام لو كان كما رُويَ لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام ممتزج المدح بالضم متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمل، فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان فصيح الكلام علمه، ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة، وكذلك ما روى في قصة القضية، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، فما روى عن معاند فيها كلمة ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلانها واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين ليلبس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} الآيتين، وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالى عصمه من أن يفتري وثبّته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟! وهم يرون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم : «افتريت على الله، وقلت ما لم يقل»، وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} ، وقد روي عن ابن عباس: «كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون، قال الله تعالى: {…يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} ، ولم يذهب، وأكاد أخفيها ولم يفعل»، قال القشيري القاضي: «ولقد طالبه قريش وثقيف إذ مر بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ووعدوه الإيمان به إن فعل فما فعل ولا كان ليفعل»، قال ابن الأنباري: «ما قارب الرسول ولا ركن»، وقد ذكرت في معنى هذه الآية تفاسير أخر، وما ذكرناه من نص الله على عصمة رسوله ترد سفسافها، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته وتثبيته بما كاده به الكفار، وراموا من فتنته، ومرادنا من ذلك تنزيهه وعصمته صلى الله عليه وسلم ، وهو مفهوم الآية.
وأما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح، وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة؛ منها الغث والسمين»، ثم ذكر بعض تلك الطرق، ثم قال: «والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته؛ كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه؛ فيكون ما روي من حزن النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة»[(451)]، قال القرطبي بعد أن نقل كلام القاضي عياض: «قلت: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا»[(452)].
والثاني: في تفسير سورة ص في تفسير النعجة المذكورة في الآية: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ *} [(453)]. اختلف الناس في تفسير هذه الآية، وأكثروا القول فيها قديما وحديثا، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، والذي ينبغي أن يعول عليه في هذه القصة وما يضاهيها من القصص ما جاء به الكتاب العزيز أو ما صح عن الرسول عليه السلام من الخبر، وما سوى ذلك من الأخبار يترك ويحذر، قال أبو جعفر النحاس: «قد جاءت أخبار وقصص في أمر داود عليه السلام وأوريا، وأكثرها لا يصح، ولا يتصل إسناده»[(454)]، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «من حدّث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين، لما ارتكب من حرمة مَنْ رَفعَ اللهُ مَحلَّه»[(455)]، وفي رواية: «من زعم أن داود ارتكب محرما من تلك المرأة جلدته مائة وستين جلدة»، يعني ضعف ما يجلد الإنسان في غيره[(456)]؛ فهذه القصة لا تصح، لأنه لا يظن بالنبي أنه يفعل مثل ذلك، ولكن كانت خطيئته أنه لما اختصما إليه فقال للمدعي: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، فنسبه إلى الظلم بقول المدعي، وكان ذلك منه زلة، فاستغفر ربه عن زلته[(457)]، قال النحاس: «فيقال إن هذه كانت خطيئة داود عليه السلام، لأنه قال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} ، من غير تثبت ببينة، ولا إقرار من الخصم، ولا سؤال لخصمه: «هل كان هذا كذا أو لم يكن»[(458)]، قال القرطبي عقب هذا الكلام: «فهذا قول، وهو حسن إن شاء الله تعالى»[(459)].
قال الحافظ ابن الجوزي في تفسيره بعد ذكر القصة المكذوبة عن سيدنا داود: «وهذا لا يصح من طريق النقل، ولا يجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزهون عنه، وأما استغفار داود ربه فهذا لأنه حكم بين الاثنين بسماعه من أحدهما قبل أن يسمع من الآخر»[(460)].
وجاء في تفسير القرطبي أن الله عز وجل أخبر عن داود عليه السلام أنه سمع قول المتظلم من الخصمين، ولم يخبر عنه أنه سأل الآخر، إنما حكى أنه ظلمه، فكان ظاهر ذلك أنه رأى في المتكلم مخائل الضعف والهضيمة، فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول، ودعاه ذلك إلى ألا يسأل الخصم، فقال له: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} ، وأن ذلك لم يكن إلا عن تقصير منه، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا} لله تعالى شكرا على أن عصمه، بأن اقتصر على تظليم المشكو، ولم يزده على ذلك شيئا من انتهار أو ضرب أو غيرهما مما يليق بمن تصور في القلب أنه ظالم، فغفر الله له، ثم عاتبه، فقال: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ… *} [سورة ص] ، فبان بما قصه الله تعالى من هذه الموعظة التي توخاه بها بعد المغفرة أن خطيئته إنما كانت التقصير في الحكم، والمبادرة إلى تظليم من لم يثبت عنده ظلمه»[(461)].
والمقصود بالنعجة في الآية النعجة الحقيقية، وليس المراد بها امرأة، وإن كانت العرب قد تكني بالنعاج عن النساء، لكن لا يجوز تفسير النعاج في هذه الآية بالنساء، لأن الأصل في اللغة والشرع أن يحمل الكلام على حقيقته إلا أن تدل الأدلة على خلاف هذا الظاهر، وهو ما مشى عليه الفخر الرازي مع تعرضه لمناقشة الوجوه الفاسدة، فقد قال: «هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة – أي كما يذكر في الاسرائيليات -، فلم لا يجوز أن يقال: «إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني؟، فإنه لما قال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، فحكم عليه بكونه ظالمًا بمجرد دعوى الخصم بغير بينة لكون هذا الحكم مخالفًا للصواب، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة»[(462)]، إلى أن قال: «وأما المنكرون لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما: {خَصْمَانِ} فإنه ليس بين الملائكة خصومة، ولكانا كاذبين في قولهما: {…لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، ولكانا كاذبين في قولهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} ، فثبت أنهما لو كانا ملكين كاذبين، والكذب على الملك غير جائز، لقوله تعالى: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [سورة الأنبياء] ، ولقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة النخل] ، أجاب الذاهبون إلى القول الأول – أي قولهم أن الخصمين كانا ملكين – عن هذا الكلام بأن قالوا: «إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق، فلم يلزم الكذب»، وأجيب عن هذا الجواب: بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل، أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر، ثم وضعا هذا الحديث الباطل، فحينئذٍ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين، فكان هذا أولى من القول الأول، والله أعلم، وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجوا بوجوه: الأول: اتفاق أكثر المفسرين عليه، والثاني: أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده، فيجب أن يكون ذلك من الملائكة، الثالث: أن قوله تعالى: {قَالُوا لاَ تَخَفْ} كالدلالة على كونهما ملكين، لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته، الرابع: أن قولهما: {وَلاَ تُشْطِطْ} كالدلالة على كونهما ملكين، لأن أحدًا من رعيته لا يتجاسر أن يقول له: تظلم ولا تتجاوز عن الحق، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر ولا حاجة إلى الجواب، والله أعلم»[(463)].
أما الدخيل على تفسير الجلالين فهو قولهم: «لتنبيه داود عليه السلام على ما وقع منه، وكان له تسع وتسعون امرأة، وطلب امرأة شخص ليس له غيرها، وتزوجها، ودخل بها»[(464)] ثم فسر قوله تعالى: {…وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [(465)] فقال: «أوقعناه في بلية بمحبته تلك المرأة»[(466)].
والملاحظة: أن هذا الكلام فيه إساءة خطيرة، حيث قيل: «إن النعجة هي امرأة شخص أعجب بها داوود، فعمل حيلة حتى أرسل زوجها للغزو ليقتل هناك، ثم يأخذها داود»، ولو فعل ذلك ملك من ملوك الأرض بصديقه، أو قائد من قادة جيشه ذلك إعجابا بزوجة هذا القائد ليستأثر بها إذا قتل لنفرت منه النفوس، فكيف بمنصب النبوة؟!! قال القاضي أبو بكر ابن العربي: «وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجِهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا؛ لأَِنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمَهُ فِي غَرَضِ نَفْسِهِ»، وقال: «وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ، وَلاَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوَالِ عِصْمَةِ الرَّجُلِ عَنْهَا، وَلاَ وِلاَدَتُهَا لِسُلَيْمَانَ، فَعَنْ مَنْ يُرْوى هَذَا وَيُسْنَدُ؟ وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يُعْتَمَدُ، وَلَيْسَ يُؤْثِرُهُ عَنْ الثِّقَاتِ الأَْثْبَاتِ أَحَدٌ؟»[(467)] فما لبعض الناس يصدقون في حق أنبياء الله ما لا يليق بمقامهم؟!!، علما أن الأنبياء قدوة للناس، وقد جمّلهم الله بالصفات الحميدة وعصمهم عن الصفات الذميمة.
تنبيه مهم: مما يجب التحذير منه كتاب (قصص الأنبياء) للثعالبي، ففيه مثل هذه المواضع وزيادة عليها من قصص أخرى مفتراة لا أصل لها، كالقصة التي تروى أن الدود كان يتناثر من جسد أيوب عليه السلام في مرضه فصار يردها إلى جسده ويقول لها: «كلي فقد جعلني الله طعامك» وأن أيوب عليه السلام على زعمه تقطع لحمه وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشًا، نعوذ بالله تعالى من الضلال فقد أجمع علماء الإسلام على أن أنبياء الله هم صفوة خلق الله وهم علماء حكماء معصومون بعصمة الله لهم تبارك وتعالى فيستحيل على أحدهم أن يضر نفسه – لأن حفظ النفس مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء وأجمع عليه العقلاء -، ويستحيل عليهم أيضا الأمراض المنفّرة التي تنفّر الناس عنهم، وهذه القصة لا تجوز في حق نبي من الأنبياء وهي كذب، وهي مذكورة أيضا في بعض التفاسير غير المعتمدة.
وإنما أيوب عليه السلام ابتلاه الله تبارك وتعالى بلاء شديدًا، فاستمر مرضه ثمانية عشر عاما، وفقد ماله وأهله، ثم عافاه الله وأغناه ورزقه الكثير من الأولاد، وأما أن مرض أيوب طال ثمانية عشر عامًا فهو في صحيح ابن حبان اهـ..
ومما يتعلق بما نحن بصدده وفي صلبه رسالة عظيمة النفع كثيرة الفوائد جليلة القدر منسجمة تمامًا مع موضوعنا وهي من إملاءات العالم العلامة والبحر الفهامة الحافظ المجتهد المجدد شيخ الإسلام والمسلمين عبد الله بن محمد بن يوسف الهرري المعروف بالحبشي رضي الله عنه وأرضاه.
قال رحمه الله ونفعنا به:
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى ءاله الطيبين.
أما بعد، فإني أحذركم من بعض ما في كتب المالكية والحنفية، لأن في بعض كتب الحنفية «أنه يجوز كتابة الفاتحة بالدم والبول إن عُلِمَ منه شفاء» وذلك في كتاب «البحر الرائق» و«حاشية الدر المختار» وكتاب ءاخر، وأظن أن ما في «حاشية الدر المختار» مدسوس على المؤلف، وهذا كفر صراحٌ، وهذا لا وجود له في كتب الحنفية المتقدمين. كذلك يروى عن المالكية قول فاسد، قال عنه أبو بكر بن العربي المالكي وهي رواية منكرة أي لا تصح عن مالك، وتروى عن ابن القاسم: «أنه يجوز الاستنجاء بيده التي فيها خاتم عليه اسم الله» اهـ. مالك بريء من هذا، وكذلك ابن القاسم لا يقوله، إنما افتري عليهما. لا يجوز العمل بهذا لأن هذا استخفاف بالله. كذلك شافعي متأخر منذ مائة سنة تقريبًا قال في كتاب له: «يجب أكل لحم الغنم في العمر مرة» اهـ. كيف يؤخذ بهذه الكتب الثلاثة؟ أعوذ بالله. مالك رضي الله عنه كان معروفًا عنه بشدة الاحترام للمدينة، فإنه ما كان يركب داخل المدينة إنما يمشي مشيًا، الذي يحترم المدينة هذا الاحترام يستهين بالاستنجاء باليد التي فيها هذا الخاتم؟
«لا ينبغي أن يؤخذ بقول أي إنسان يتكلم في الدين بغير مستند».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «استنـزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه ». وفي بعض كتب المالكية أنه يستنجي بأصبعه من البول، ما هذا؟ والشيخ محمد عِلَّيش مفتي المالكية في القاهرة الذي مات سنة ألف وثلاثمائة إلا ثلاث سنوات يقول: «إذا كان الشخص إصبعه مبتلة بالريق فمس المصحف كان ردة». إذا كان عُرِفَ عند بعضهم هذا فكيف يجاز الاستنجاء من البول باليد التي فيها خاتم عليه اسم الله! ثم أيضًا يوجد من المالكيةِ من قال: «الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أُبَيّ بن أبي سلول وهو يعلم أنه منافق كافر» اهـ. وأبو حنيفة يقول: «من صلى مُحدِثًا متعمدًا كفر» اهـ.
فما قول بعض الناس الرسول صلى على عبد الله بن أُبَيّ بن أبي سلول وهو يعلم أنه بعدُ منافق كافر والصواب أنه ظن أنه ذهب عنه الكفر الذي كان فيه وصار مسلمًا حقيقة فصلى عليه ثم أعلمه الله بحاله وأنزل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} .
وإياكم وشواذ الكلام، ثم إن المالكية عندهم قول مشهور بأن إزالة النجاسة ليست شرطًا لصحة الصلاة بل سنة، هذا القول يسمونه القول المشهور، فكيف يستجاز مع هذا القول الذي هو عندهم مشهور الاستنجاء بالإصبع التي فيها خاتم مكتوب فيه اسم الله. من تمسك بكل ما يقال هلك. وهذا الكلام أي تكفيرُ من مس المصحف بإصبعه التي عليها بلل ريق يكفر مذكور في كتاب «فتح العلي المالك» للشيخ محمد عِليش مفتي المالكية والصواب أن من مس المصحف بالإصبع التي فيها بلل ريق لا يكفر إلا أن يكون الريق متجسدًا عليه مُتَكَوِّمًا ومس به المصحف. هذا الموافق للقواعد.
وليحذر من قول بعض الشافعية: إن الذي يعتقد أن الله في جهة فوق لا يكفر، فإن هذا مخالف لما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه وأكابر أصحابه، وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومالك، بل كل أئمة أهل السنة. قال الشافعي: «وأُكَفِّر المجسم» كذلك أحمد بن حنبل قال: «فمن قال الله جسم لا كالأجسام كفر». فلا عبرة بكلام بعض الشافعيين الذين قالوا لا يكفر معتقد الجهة لله، فإن كلامهم خالف كلام إمامهم، من ذلك كتاب القواعد المنسوب لعزِّ الدين بن عبد السلام وغيره من متأخري الشافعية، لأن القول بأن الله في جهة كذا تجسيم لله لأن الذي يتحيز في جهة جسم، إما كثيف وإما لطيف، الشمس والقمر والنجوم والعرش متحيزات في جهة فوق وهي أجسام وقد قال الطحاوي وهو من السلف – فإنه ولد سنة إحدى وثلاثين بعد المائتين وكل من كان ضمن الثلاثمائة سنة الأولى باعتبار الهجرة فهو من السلف – قال في كتابه: «هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة. ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر». فمن معاني البشر التحيز في جهة والحركة والسكون والراحة والقلق والانزعاج والتغير من حال إلى حال والجلوس فإن الجلوس لا يكون إلا من جسم مركب من نصف أعلى ونصف أسفل وقد قال الشافعي رضي الله عنه: «من اعتقد أن الله جالس على العرش كفر» حكاه الإمام نجم الدين بن الرفعة في كتابه «كفاية النبيه في شرح التنبيه». وقال: «قال القاضي حسين: نصَّ الشافعي على أن من اعتقد أن الله جالس على العرش كفر». والقاضي حسين من كبار الشافعية كان يلقب «حبر الأمة» كما كان يلقب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو من الطبقة التي تلي الإمام الشافعي وهم الذين يقال لهم أصحاب الوجوه. وكل ما يحل بمكان أو جهة فهو جسم إمَّا كثيف وإما لطيف وكل ذلك مخلوق قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} دلت الآية على أن الجسم الكثيف كالسموات والأرض وما في معناهما والجسم اللطيف كالظلمات والنور وما في معناهما حادث مخلوق. فمن جعل اللهَ جسمًا لطيفًا أو كثيفًا فقد شبّهه بخلقه فهو مشبه. ولا يعذر من يعتقد أن الله في جهة فوق من جهله، لأنه خالف مقتضى العقل وخالف النص القرءاني: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فلا يقال إن العامي يصعب عليه علم بموجود ليس في جهة لأن العقل يدل على أن الله ليس متحيزًا فلا عبرة بما في كتاب القواعد المنسوب لابن عبد السلام أن العامي لا يكفر باعتقاده أن الله في جهة فوق. إن ابن عبد السلام من الشافعية المتأخرين ليس من أصحاب الوجوه ولعل هذا القول مدسوس في كتابه ليس منه. ثم إن المتحيز له مقدار وكل شىء له مقدار فهو مخلوق قال الله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} الله تعالى جعل لحبة الخردل مقدارًا كما جعل لما فوقها. بكبر الحجم مقادير مختلفة.
وأما قول الشافعي رضي الله عنه: «وأَقبَلُ شهادةَ أهلِ الأهواءِ إلا الخطابيةَ» فهو محمول على من لم يثبت في حقه قضية معينة تقتضي كفره لأن من أهل الأهواء من يوافق طائفته في شىء ويخالف في شىء، فالمعتزلة منهم من يعتقد أن الإنسان هو يخلق أعماله بقدرة أعطاه الله إياها مستقلاً ومنهم من لا يوافقهم في هذا ولكن يوافقهم في قولهم إن الله لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة وقولهم صاحب الكبيرة إن مات قبل التوبة يخلد في النار وهكذا في بعض الفرق الأخرى من أهل البدع الاعتقادية من يوافق طائفته في شىء ويخالف في شىء. فالمعتزلة منهم من هم كفار حقيقيون ومنهم من هم بدعيون لا يُكَفرون، فمراد الشافعي بقوله: «وأَقبَلُ شهادةَ أهلِ الأهواءِ إلا الخطابيةَ» من لم تثبت عليه قضية تقتضي كفره من مقالات أهل الأهواء. وهذا التفصيل ذكره الحافظ الفقيه الشافعي سراج الدين البلقيني رحمه الله وهو الموافق لما صح عن الشافعي من تكفير من يقول القرءان مخلوق وتكفيره القدرية أي المعتزلة. وهذا التفصيل هو الموافق لما صح عن الشافعي من تكفيره المجسم والقائل بخلق القرءان، فإنَّ الربيعَ المراديَّ تلميذُ الشافعي قال إن الشافعي كفَّر حفصًا الفرد الذي كان يقول القرءان مخلوق بعد أن ناظره الشافعي وقطعه بالحجة. قال الربيع وكَفَّرَه الشافعي. نقل ذلك عبد الرحمـن بن أبي حاتم عن الربيع وكان حفصٌ الفرد معتزليًا يقول بخلق القرءان. وأما من يحمل هذه العبارة على الإطلاق في كل أهل الأهواء والمعتزلة والخوارج وبقية الأصناف الذين هم اثنتان وسبعون فرقة فقد بَعُدَ عن الصواب فإن المعتزلة منهم من قال: «إن الله كان قادرًا على خلق أفعال العباد وخلق حركات العباد وسكناتهم قبل أن يعطي العبد القدرة عليها فلما أعطاه القدرة عليها صار عاجزًا» اهـ فأيّ مسلم يشك في كفر هؤلاء. ومن هنا انتقد الحافظ سراج الدين البلقيني عبارة النووي في روضة الطالبين حيث قال: «إنه تصح القدوة بالمعتزلة فإنَّ المسلمين لم يزالوا يناكحونهم ويورثونهم» اهـ ولا شك بفساد هذه العبارة. فقد كان عليه أن يُفَصّل، وهذا القول الذي ذكرناه عن المعتزلة ذكره الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي وإمام الحرمين والإمام أبو سعيد المتولي والإمام أبو الحسن شيث بن إبراهيم المالكي في كتابه «حز الغلاصم» وذكره قبل هؤلاء الإمام أبو منصور الماتريدي. فالمعتزلة جعلوا الله بمثابة قول القائل: «أدخلته داري فأخرجني منها» كأنهم جعلوا الله مَكَّنَ العبد بإعطائه القدرة على أعماله فاستبدَّ بها بحيث يجعلُ اللهَ لا يقدر أن يغير عليه اهـ.
وأمَّا تأويل بعض الشافعية كالبيهقي لقول الشافعي في حفص الفرد «لقد كفرت بالله العظيم» بعدما ناظره وقطعه بالحجة بكفران النعمة فهو باطل لأن الربيع هو الذي حضر مناظرة الشافعي لحفص قال: «فكفَّره الشافعي» اهـ. والدليل على ذلك، قول حفص (أراد الشافعي ضرب عنقي)، فلو أراد الشافعي كفران النعمة لما قالها حفص الفرد.
ثم إن مما ينبغي الاحتياط فيه أن السائل إذا سأل عن قضية قولية تحتمل الكفر فليذكر السائل المعنى الذي يفهمه عن تلك الكلمة لأن بعض الكلمات لها معنى لغوي ولها معنى عرفي – أي يفهمه أهل البلد فيما بينهم – ويكون أحد المعنيين كفرًا والآخر غير كفرٍ، فالمفتي إذا أفتى على المعنى الذي يفهمه بحسب اللغة ويكون قصد السائل المعنى العرفي لأهل بلده يشتبه الأمر، إذا كان المفتي لا يعلم أن لهذه الكلمة معنيين يشتبه عليه فيفتي على حسب المعنى اللغوي فيكون مخالفًا لما أراد السائل وهو أراد المعنى العرفي. فينبغي للسائل الذي يريد توجيه السؤال إلينا أن يقول إنـي أفهم من هذه الكلمة هذا المعنى لا أفهم غير هذا فما الحكم؟ لأن القاعدة الشرعية أن الكلمة إذا كان لها معنيان معنى كفري ومعنى غير كفري فمن أراد المعنى الكفري يُكَفَّر وإذا أراد المعنى الذي هو غير كُفر لا يكفر. فينبغي للسائل أن يذكر في سؤاله أنه يفهم منها هذا المعنى حتى يكون جواب المفتي موافقًا للحكم الشرعي وهذا من حسن السؤال وقد قال بعض السلف: «حسن السؤال نصف العلم». وسبحان الله والحمد لله رب العالمين. وفقنا الله جميعًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته اهـ..
نسأل الله تعالى الثبات على الحق إلى الممات والدفاع عن دين الله تعالى، فكم هو جميل منهج العدل والاعتدال والدفاع عن الإسلام ورد مفتريات الكائدين والجاهلين والمحرفين. وإنما قمنا بهذه النصيحة لوجه الله تعالى وخوفًا على المسلمين من أن يقعوا فيما يخالف شرع الله. وفي الأثر: «إذا ظهرت البدع (أي العقائد الفاسدة) وسكت العالم لعنه الله»، وقال أبو علي الدقاق: «الساكت عن الحق شيطان أخرس» رواه القشيري في الرسالة.
تمَّت بحمد الله وتوفيقه وفضله، وصلى الله وسلم وشرَّفَ وكرَّمَ على سيدنا محمد وعلى جميع إخوانه من النبيِّين والمرسلين.
ـ[411] بدع التفاسير (ص/224).
ـ[412] بترف خفيف من أحكام القرآن لابن العربي (7/16).
ـ[413] بتصرف من أحكام القرآن لابن العربي (7/17).
ـ[414] رواه مسلم في صحيحه: (1/15)، المقدمة.
ـ[415] ذكره أبو الهدى الصيادي.
ـ[416] سورة الأعراف: الآية 190.
ـ[417] تفسير الطبري (13/314).
ـ[418] تفسير النسفي: (2/51)، سورة الأعراف: الآية 190. وتفسير البيضاوي (2/348).
ـ[419] تفسير البحر المحيط (4/437-438).
ـ[420] تفسير الجلالين: (ص/223)، سورة الأعراف: الآية 190. تفسير الجلالين: لمحمد بن أحمد المحلي وعبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الحديث – القاهرة، الطبعة الأولى.
ـ[421] تفسير أبي السعود ج3/ص304.
ـ[422] المصدر السابق نفسه.
ـ[423] سورة يونس: الآية
ـ[424] سورة يوسف: الآية
ـ[425] سورة يوسف: الآية
ـ[426] التفسير الكبير: (18/120-121).
ـ[427] زاد المسير: (4/205)، سورة يوسف: الآية زاد المسير في علم التفسير: لعبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المكتب الإسلامي – بيروت، 1404، الطبعة الثالثة.
ـ[428] التفسير الكبير: (18/93)، سورة يوسف: الآية التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب: لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي، دار الكتب العلمية – بيروت، 1421هـ – 2000م، الطبعة الأولى.
ـ[429] البحر المحيط: (5/295)، سورة يوسف: الآية تفسير البحر المحيط: لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق: د.زكريا عبد المجيد النوقي، د.أحمد النجولي الجمل، دار الكتب العلمية – لبنان/ بيروت، 1422هـ – 2001م، الطبعة الأولى.
ـ[430] التفسير الكبير: (18/93)، سورة يوسف: الآية
ـ[431] و[(468)] و[(469)] و[(470)] سورة يوسف: الآية
ـ[432] سورة يوسف: الآيتان
ـ[433] سورة يوسف: الآية
ـ[434] سورة الفرقان: الآية
ـ[435] سورة ص: الآيتان
ـ[436] التفسير الكبير: (18/93 – 94)، سورة يوسف: الآية
ـ[437] تفسير الجلالين: (ص/306)، سورة يوسف: الآية
ـ[438] سورة الحج: الآية
ـ[439] لطائف الإشارات (2/554 – 555).
ـ[440] سورة فصلت: الآية
ـ[441] سورة الحجر: الآية
ـ[442] تفسير النسفي: (3/109)، سورة الحج: الآية 52 .
ـ[443] سورة النجم: الآية
ـ[444] تفسير الجلالين: (ص/441)، سورة الحج: الآية
ـ[445] انظر تفسير الطبري (17/186 – 190)، وابن كثير في تفسيره (3/230 – 231)، ثم قال: «وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا، كلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم».
ـ[446] بتصرف من التفسير الكبير (23/47).
ـ[447] التفسير الكبير (23 /44 – 45).
ـ[448] باختصار من الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/125-130).
ـ[449] الجامع لأحكام القرآن (12/83).
ـ[450] سورة ص: الآية
ـ[451] معاني القرآن (ج6/ص98).
ـ[452] بتصرف من التسهيل لعلوم التنزيل (ج3/ص182)، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (ج4/ص499).
ـ[453] تفسير السمعاني (ج4/ص435).
ـ[454] تفسير السمرقندي (ج3/ص156).
ـ[455] إعراب القرآن للنحاس (3/461).
ـ[456] تفسير القرطبي (ج15/ص175).
ـ[457] زاد المسير: (7/115)، سورة ص: الآية 21 .
ـ[458] بتصرف واختصار من تفسير القرطبي (ج15/ص178).
ـ[459] التفسير الكبير (ج26/ص169).
ـ[460] التفسير الكبير (ج26/ص170 – 171).
ـ[461] تفسير الجلالين: (ص/600)، سورة ص: الآية 22 .
ـ[462] سورة ص: الآية
ـ[463] تفسير الجلالين: (ص/601)، سورة ص: الآية 24 .
ـ[464] أحكام القرآن لابن العربي (7/19). وانظر تفسير القرطبي (15/176).
ـ[465] زاد المسير (4/205).
ـ[466] التفسير الكبير (18/118).
ـ[467] النهر الماد (2/114).
ـ[468] (18/120 – 121).
ـ[469] الجزء الثالث (ص/107).