الأحد ديسمبر 7, 2025

متن العقيدة النسفية

قال الإمام النسفي رحمه الله:

قال أهلُ الحقّ حَقَائِقُ الأشياءِ ثَابتَةٌ، والعلمُ بها مُتَحَقّقٌ خلافًا للسوفسطَائِيَّةِ. وأسبابُ العلم للخَلقِ ثلاثةٌ الحواسُّ السليمةُ، والخبرُ الصادِقُ، والعَقلُ. فالحواسُّ خمسٌ السمعُ، والبصرُ، والشمُّ، والذوقُ، واللمسُ. وبكلّ حاسةٍ منها يُوقَفُ على ما وُضِعَت هي لهُ. والخبرُ الصادِقُ على نوعينِ (أحدُهما) الخبرُ المتواترُ، وهو الخبرُ الثَّابتُ على ألسنةِ قومٍ لا يُتصورُ تَواطُؤُهُم على الكذِبِ، وهوَ موجِبٌ للعلمِ الضَّروري كالعلمِ بالملوكِ الخَاليةِ في الأزمنَةِ الماضيةِ والبُلدانِ النَّائيةِ، والثاني خبرُ الرسولِ المؤيَّدِ بالمعجِزَةِ، وهوَ يُوجِبُ العِلمَ الاستدلاليَّ، والعلم الثَّابت بهِ يُضاهى العِلمَ الثَّابِتَ بالضَّرورةِ في التيقُّنِ والثَّباتِ. وأما العقلُ فهو سَبَبٌ للعلمِ أيضًا، وما ثَبَتَ منه بالبديهَةِ فهو ضروري كالعلم بأنَّ كلَّ الشيءِ أعظمُ من جُزئِهِ، وما ثَبَتَ بالاستدلالِ فهو اكتسابيٌّ. والإلهامُ ليسَ من أسبابِ المعرفةِ بصحةِ الشيءِ عندَ أهل الحقّ، والعالمُ بميع أجزائِهِ محدَثٌ، إذ هو أعيانٌ وأعراضٌ. فالأعيانُ ما لهُ قيامٌ بذاتِهِ، وهو إما مُركَّبٌ وهو الجسمُ، أو غيرُ مركَبٍ كالجوهر وهو الجُزءُ الذي لا يَتَجَزأ. العَرَضُ ما لا يقومُ بذَاتِهِ ويَحدُثُ في الأجسامِ والجواهرِ كالألوانِ، والأكوانِ، والطُّعُومِ، والرَّوائحِ. والمُحدِثُ للعالمِ هو الله تعالى الواحدُ القديمُ الحي القادرُ العليمُ السميعُ البصيرُ الشَّائي المريدُ ليسَ بِعَرَضٍ، ولا جسمٍ، ولا جَوهرٍ، ولا مُصوَّرٍ، ولا مَحدودٍ، ولا مَعدودٍ، ولا مُتَبَعّضٍ، ولا مُتَجَزّئ، ولا مُتَركِّبٍ، ولا مُتَناهٍ، ولا يُوصَفُ بالمَاهِيَّةِ ولا بالكَيفِيَّةِ، ولا يتمكّن في مكان، ولا يَجرى عليه زَمانٌ، ولا يُشبهُهُ شيءٌ، ولا يَخرُجُ عن عِلمِهِ وقُدرتِهِ شيءٌ.

ولهُ صفاتٌ أَزليةٌ قَائمةٌ بذاتِهِ وهي لا هُو ولا غَيرُهُ، وهي العلمُ، والقدرةُ، والحياةُ، والقوةُ، والسمعُ، والبصرُ، والإرادةُ، والمشيئةُ، والفعلُ، والتخليقُ، والترزيقُ، والكلامُ، وهوَ متكلمٌ بكلام هو صفةٌ لهُ أزليةٌ ليس من جنس الحروفِ والأصواتِ وهو صفةٌ منافيةٌ للسكوتِ والآفةِ، والله تعالى مُتَكَلِّمٌ بها ءامرٌ نَاهٍ مُخبرٌ، والقرءانُ كلامُ الله تعالى غيرُ مخلوقٍ، وهوَ مَكتوبٌ في مَصَاحِفِنا، محفوظٌ في قلوبِنَا، مَقروءٌ بألسِنَتِنا، مسموعٌ بآذانِنا، غيرُ حالّ فيها، والتكوين صفةٌ لله تعالى أزليةٌ، وهو تكوينُهُ للعالَمِ ولكلِّ جُزءٍ من أجزائِهِ لوقتِ وجودِه، وهوَ غير المكوَّنِ عندَنا، والإرادةُ صفةٌ لله تعالى أزليةٌ قائمةٌ بذاتِهِ تعالى.

ورؤية الله تعالى جَائزَةٌ في العقل واجبةٌ بالنقل، وقد وردَ الدليلُ السَّمعي بإيجابِ رؤيةِ المؤمنينَ لله تعالى في دارِ الآخرةِ فيرى لا في مكان ولا على جهة ومقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائِي وبين الله تعالى، والله تعالى خَالقٌ لأفعالِ العبادِ منَ الكُفرِ والإيمانِ، والطَّاعةِ والعصيانِ وهي كُلها بإرادَتِهِ، ومشيئَتِهِ، وحكمِهِ، وقَضِيَّتِهِ، وتقديرِهِ، وللعبادِ أفعالٌ اختياريَّةٌ يُثَابُونَ ِها ويُعَاقَبونَ عليهَا، والحسنُ منها بِرضَاءِ الله تعالى، والقبيحُ منها ليسَ برضائِهِ تعالى، والاستطاعة مع الفعلِ وهي حقيقة القُدرَةِ التي يكونُ بها الفِعلُ، ويَقعُ هذا الاسمُ على سلامَةِ الأسبابِ والآلاتِ والجَوَارِحِ، وصِحةُ التكليفِ تَعتمِدُ هذه الاستطاعَة، وَلا يُكَلَّفُ العبدُ بما ليسَ في وُسعِهِ.

وما يُوجَدُ مِنَ الألم في المضروبُ عَقيبَ ضَربِ إنسان، والانكسار في الزُجاج عقيبَ كَسر إنسانٍ وما أشبَهه، كُلُّ ذلكَ مَخلوق الله تعالى لا صُنعَ للعبدِ في تخليقِهِ. والمَقتُولُ مَيّتٌ بأجَلِهِ، والموتُ قائمٌ بالميتِ مخلوقٌ لله تعالى، لا صُنعَ للعبدِ فيه تخليقًا ولا اكتسَابًا، والأجَلُ واحدٌ[، والحَرَامُ رِزقٌ، وكُلُّ يستَوفى رِزقَ نَفسِهِ حلالًا كَانَ أو حَرَامًا، ولا يتصورُ أنْ لا يأكل إنسانٌ رِزقَهُ أو يأكلَ غيرُهُ رزقَهُ، والله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، ويَهدي مَنْ يَشَاءُ، وما هُوَ الأصلحُ للعبدِ فليسَ ذلك بواجبٍ على الله تعالى، وعذابُ القبرِ للكافرينَ ولبعضِ عُصاةِ المؤمنينَ، وتنعيمُ أهلِ الطاعةِ في القبرِ، وسؤالُ منكرٍ ونكيرٍ ثابتٌ بالدلائِل السمعيةِ، والبعثُ حقٌّ، والوزنُ حَقٌّ، والكتابُ حَقٌّ، والسؤالُ حَقٌّ، والحوضُ حَقٌّ، والصِّراطُ حَقٌّ، والجنةُ حَقٌّ، والنارُ حَقٌّ وهُما مَخلوقَتَان الآنَ، موجودَتَانِ باقيتَانِ لا تَفنَيَانِ ولا يَفنى أهلُهُمَا.

والكَبيرةُ لا تُخرِجُ العبدَ المؤمنَ من الإيمانِ ولا تُدخِلُهُ في الكُفرِ، والله تعالى لا يغفِرُ أنْ يُشرَكَ بهِ ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاءُ من الصغائر والكبائر، ويَجوزُ العِقَابُ على الصَّغيرة والعفوُ عن الكبيرةِ إذا لم تَكُن عن استحلالٍ، والاستحلالُ كُفرٌ.

والشَّفاعةُ ثابتَةٌ للرُّسلِ والأخيارِ في حَقِّ أهلِ الكبائرِ بالمُستَفيضِ مِنَ الأخبارِ، وأهلُ الكبائرِ مِنَ المؤمنينَ لا يُخلدونَ في النارِ وإن ماتوا من غيرِ توبةٍ. والإيمانُ هو التصديقُ بما جاءَ بهِ النبي من عندِ الله والإقرارُ بهِ، فَأما الأعمالُ فهي تَتَزايَدُ في نفسِها، والإيمانُ لا يزيدُ ولا يَنقصُ، والإيمانُ والإسلامُ واحِدٌ، فإذا وُجِدَ من العبدِ التَّصديقُ والإقرارُ صَحَّ لهُ أن يقولَ أنا مؤمنٌ حَقًّا، ولا يَنبغي أن يقولَ أنا مؤمنٌ إنْ شَاءَ الله، والسَّعيدُ قد يَشقَى، والشَّقي قد يَسعَدُ، والتغيُّرُ يكونُ على السَّعادةِ والشقاوَةِ دونَ الإسعادِ والإشقاءِ، وهما من صفاتِ اللهِ تعالى، ولا تَغيُّر على الله تعالى ولا على صفاتِهِ.

وفي إرسَالِ الرُّسلُ حِكمَةٌ، وقَد أرسلَ الله تعالى رُسُلًا مِنَ البشرِ إلى البشرِ مُبشّرينَ ومُنذرينَ ومُبينينَ للناسِ ما يَحتاجُونَ إليهِ من أمورِ الدُّنيا والدّينِ، وأَيَّدَهُم بالمعجزاتِ النَاقِضَاتِ للعَادَاتِ. وأولُ الأنبياءِ ءادمُ عليهِ السَّلامُ وءاخرُهُم محمدٌ صلى الله عليه وسلم. وقَد رُوى بيانُ عَدَدِهم في بعضِ الأحاديث، والأولى أن لا يُقتصرَ على عددٍ في التسميةِ، فقدْ قالَ الله تعالى: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [سورة غافر]، ولا يؤمنُ في ذكر العدد أن يُدخل فيهم مَن ليسَ مهم، أو يُخرَجَ منهم من هُوَ منهم، وكُلّهُم كانوا مُخبرينَ مُبَلغينَ عن الله تعالى صَادقينَ نَاصحين، وأفضلُ الأنبياء محمدٌ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، والملائكةُ عبادُ الله تعالى العَاملونَ بأمرِهِ، ولا يُوصَفُونَ بِذُكورَةٍ ولا أُنوثَةٍ.

ولله تعالى كُتُبٌ أنزَلَها على أنبيائِهِ، وبيَّنَ فيها أمرَهُ ونهيَهُ، ووعدَهُ ووعيدَهُ، والمعراجُ لرسولِ الله في اليقظَةِ بشخصِهِ إلى السماءِ، ثُمَّ إلى ما شَاءَ الله تعالى مِنَ العُلى حَقٌّ.

وكَرَامَاتُ الأولياءِ حَقٌّ، فَيُظهرُ الكَرَامَةَ على طريقِ نقضِ العادَةِ للولي مِن قَطعِ المسافَةِ البعيدةِ في المُدةِ القليلةِ، وظهورِ الطعامِ والشرابِ واللباسِ عند الحاجةِ، والمشي على الماءِ، والطيرانِ في الهواءِ، وكلامِ الجَمَاد والعجماء، وغير ذلكَ من الأشياءِ، ويكونُ ذلكَ مُعجِزَةً للرسولِ الذي ظَهرتْ هذهِ الكرامةُ لواحد من أمتِهِ، لأنهُ يظهَرُ بها أنه وليٌّ، ولنْ يكونَ وليًّا إلا أن يكونَ مُحقًّا في دِيانَتِهِ، وديانَتُهُ الإقرارُ برسالةِ رسولِهِ.

وأفضَلُ البشرِ بعد نبيّنا أبُو بكر الصّدّيقُ رضي الله عنهُ، ثم عمرُ الفاروقُ، ثم عثمانُ ذو النُّوريْنِ، ثم على المُرتَضَى. وخلافَتُهم ثابتةٌ على هذا الترتيبِ أيضًا. والخلافةُ ثلاثونَ سنةً، ثُمَّ بعدَها ملكٌ وإمارةٌ.

والمسلمونَ لا بُدَّ لهم من إمَام ليَقُوم بتنفيذِ أحكامِهِم، وإقامَةِ حُدُودِهِم، وسَدّ ثُغورِهم، وتجهيزِ جيوشِهِم، وأخذِ صَدَقَاتِهِم، وقهر المتغلبَةِ والمُتَلصّصَةِ، وقُطّاعِ الطَّرِيقِ، وإقامةِ الجُمَعِ والأعيادِ، وقطعِ المُنَازَعَاتِ الواقِعَةِ بينَ العبَادِ، وقَبُولِ الشَّهَادَاتِ القائمَةِ علَى الحُقوقِ، وتَزويجِ الصغارِ والصغائِرِ الذين لا أولياءَ لهم، وقِسْمَةِ الغَنَائِمِ ونحوِ ذلكَ.

ثُمَّ يَنبغي أنْ يكونَ الإمامُ ظَاهرًا لا مُختفيًا ولا مُنتظرًا، ويكونَ من قريشٍ، ولا يجوزُ من غيرِهِم، ولا يختصُّ ببني هاشم وأولادِ علي رضي الله عنه، ولا يُشتَرَطُ في الإمامِ أن يكونَ معصُومًا، ولا أن يكونَ أَفضَل أَهلِ زَمَأنِهِ، ويُشترَطُ أن يكونَ من أهلِ الولايةِ المطلقةِ الكاملةِ، سَائِسًا قادرًا على تَنفيذِ الأحكامِ، وحِفظِ حُدودِ دَارِ الإسلامِ، وإنصافِ المظلومِ مِن الظَّالِم، ولَا يَنعَزِلُ الإمامُ بالفِسقِ والجَورِ. وتجوزُ الصلاةُ خَلفَ كُلّ بَرٍّ وَفاجِرٍ، ويُصلى على كُلّ بَرٍّ وفَاجِرٍ، ويُكَفُّ عن ذكر الصَّحَابةِ إلا بخيرٍ.

ونَِشهدُ بالجنةِ للعشرة المُبَشرينَ الذين بَشَّرَهُم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرى المَسحَ على الخُفينِ في السَّفَرِ والحَضَرِ، ولا نُحَرِّمُ نَبيذَ التمرِ. ولا يَبلُغُ ولي دَرَجَة الأنبياءِ أصلًا، ولا يَصِلُ العبدُ إلى حيثُ يَسقُطُ عنهُ الأمرُ والنَّهيُ. والنُّصُوصُ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ تُحمَلُ على ظَواهِرِهَا، والعُدُولُ عنها إلى مَعانٍ يَدَّعيها أَهلُ البَاطِنِ إلحادٌ، وَرَدُّ النُّصُوصِ كُفرٌ، واستِحلالُ المَعصِيَةِ كُفرٌ والاستهانَةُ بها كُفرٌ، والاستهزَاءُ على الشَّريعةِ كُفرٌ، واليأسُ من رَحمَةِ الله تعالى كُفرٌ والأمنُ من عذاب الله تعالى كُفرٌ، وتَصدِيقُ الكَاهِنِ بما يُخبرُهُ عن الغَيبِ كُفرٌ. والمعدُومُ ليسَ بشيء.

وفي دُعاءِ الأحياءِ للأمواتِ وصَدقَتِهِم عنهم نَفعٌ لهم، والله تعالى يُجيب الدَّعَواتِ، ويَقضى الحَاجَاتِ. وما أخبَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم مِن أشراطِ الساعةِ من خُروجِ الدجالِ، ودابةِ الأرضِ، ويأجوجَ ومأجوجَ، ونزولِ عيسى عليه السَّلامُ من السماءِ، وطلوعِ الشمس من مَغرِبِها فهو حَقٌّ. والمُجتَهِدُ قد يُخطئ وقد يُصِيبُ، ورُسُلُ البشر أفضلُ من رُسُل الملائكةِ، ورُسُلُ الملائكَةِ أفضلُ من عَامَّةِ البشرِ، وعَامَّةُ البشرِ أفضلُ من عامَّةِ الملائكةِ، والله أعلم.