الأربعاء يونيو 18, 2025

مبادئ في التوحيد ودعوة إلى حسن الخلق

العناوين الداخلية:

  • نبينا محمد صاب الدرجات العليا.
  • من خصال النبي ﷺ.
  • النبي محمد كان أحسن الناس خلقاً.
  • للأعمال مراتب.
  • خالق هذا العالم لا يشبهه.
  • لا شيء أزليٌ مع الله.
  • كلُّ ما سِوى الله مخلوقٌ.

 

نبينا محمد صاحب الدرجات العليا:

قال مولانا المحدث الوليّ الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله:

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم النبيين وقائد الغرّ المحجّلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطّيّبين الطّاهرين، وبعد:

فإن الله تبارك وتعالى أعطى نبيّه ﷺ من محاسن الأخلاق أعلى مرتبةً. كان الناس عنده لا يفضل أحدهم الآخر إلا على حسب التّقوى، فقد رويّنا بالإسناد الصحيح في صحيح مسلم من حديث جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهم في صفة حج رسول الله، فقال في وصفه: “إنه ﷺ رحل من عرفات بعد أن غربت الشمس، وأردف أسامة خلقه حتى وصل على مزدلفة، ثم بات بمزدفلة، ثم صلى الصبح بمزدلفة، ثم ذهب إلى المشعر الحرام، فوقف ودعا، وكان أردف الفضل بن العباس رضي الله عنهما إلى أن وصل إلى منى”.

فانظر إلى هذه الحكمة ما أعظمها! أردف أسامة بن زيدٍ من عرفات إلى مزدلفة، ثم أردف حين ارتحل من مزدلفة إلى منى الفضل بن العباس رضي الله عنهم، لم ينظر إلى الهيئة والنسب بل نظر إلى الفضل بالتقوى، وذلك أن أسامة ابن زيد كان ابن زيد الذي هو مولى رسول الله ﷺ ، لأن زيداً كان مسترقاً وهبته خديجة لرسول الله ﷺ، ثم زوجه رسول الله ﷺ  أم أيمن الحبشية وكانت حاضنة رسول الله ﷺ ، وكان أسامة رضي الله عنه من حيث اللون أسود. وأما ابن عمه الفضل بن العباس فكان من أجمل الناس أبيض جميل الشعر، ولم ينظر إلى ابن عمه الفضل فيبدأ بإردافه مع أنه من حيث النسب ابن عمه ومن حيث المنظر والشكل كان من أجمل الرجال، بل نظر إلى أن أسامة أقدم سابقة في الإسلام، وبدأ بإرداف أسامة رضي الله عنه أركبه خلفه على البعير من عرفات إلى مزدلفة وكان ذلك ليلاً، ثم في الغد في صبيحة العيد أردف الفضل فهذا هو العدل المقبول. فهو ﷺ موفق من قبل الله تعالى في تصرفاته، طاهر القلب خالص الطوية، لا ينظر إلى المال والنسب إنما ينظر إلى الفضل في الدين. وهكذا كل تطوراته ﷺ كانت العناية الربانية تحفها، مع أنه نشأ يتيماً لم يجالس الحكماء. وقد حلاّه الله تعالى وجمّله بأحسن الخلق فكان ﷺ كما وصفه القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }.

 

من خصال النبي ﷺ:

وكذا كان – ﷺ- منعوتاً في الكتب القديمة، كان أحد أحبار اليهود من أهل المدينة يسمى زيد بن سعنة، اطلع في بعض الكتب القديمة التي أنزلها الله تعالى على بعض أنبيائه، أن نبي آخر الزمان يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فأراد هذا الحبر اليهودي بعد أن هاجر الرسول إلى المدينة، أن يعرف هل ينطبق على سيدنا محمد النعت المذكور في نبي آخر الزمان: أنّ حلمه يسبق جهله، وأن شدة الجهل عليه لا يزيد إلا حلماً؟ أي أنه مهما أوذي لا يوصله أذى الناس إلى التحامق، ولا يخرج عن مقتضى الحكمة، فأراد أن يمتحن رسول الله ﷺ ، فعامله بدين مؤجل إلى اجل معلوم، ثم قبل أن يحل الأجل بثلاثة أيام، تعرض هذا اليهودي زيد بن سعنة للمطالبة بالدين، فنال من رسول الله ﷺ بكلمة تهزّ المشاعر، فأراد بعض الصحابة وهو عمر بن الخطاب أن ينتقم منه من شدّة تغيّظه عليه لأنّه أساء الأدب مع رسول الله ﷺ، كاد أن يبطش به فيقتله، فنهاه رسول الله ﷺ. فعرف زيد أن تلك الصفة والنعت المذكور في وصف محمد ﷺ منطبقة عليه، وعرف أنه هو ذلك النبي الذي بشّر به الأنبياء فتشهّد شهادة الحقّ وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. فهذا مثال واحد من أمثلة اعلام نبوّته الكثيرة صلى الله عليه وعلى آله وسلّم تسليماً كثيراً.

 

النبي محمد ﷺ كان أحسن الناس خلقاً:

ثم أن الحكمة والخلق الحسن كان من شيم الأنبياء جميعهم لأن الله تبارك وتعالى لا يرسل لهداية عباده إنساناً مطعوناً فيه بسفاهة أو بخيانة أو رذالة أو كذب في الحديث، لا يرسل إلا إنساناً نشأ على الصّدق والعفّة والنّزاهة في العرض والخلق وحسن معاملة النّاس، فكان سيدنا محمد ﷺ أوفر الأنبياء حظاً في ذلك لا يسبقه في ذلك أحدٌ بعده ولا سبقه أحد قبله. رويّنا في الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ كان “أحسن الناس خلقاً“، فمن هنا يعلم أن كل ما يروى عن نبي من أنبياء الله مما يخالف هذا المعنى، وهو حسن الخلق، فهو مفترىً مرودٌ على قائله. وروينا أيضاً في مسند أحمد رضي الله عنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “ما بعث الله نبيّاً إلاّ حسن الوجه حسن الصّوت وإنّ نبيّكم أحسنهم وجهاً وأحسنهم صوتاً”. وروينا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقرأ: “والطوّر” فكاد قلبي يطير، أي من حسن صوته ﷺ.

 

للأعمال مراتب:

مع ما كان عليه نبيّنا رسول الله وغيره من الأنبياء من التحلي بالخلق الحسن، لم يكن ترغيبه في حسن الخلق كأمره وترغيبه في أداء الفرائض، بل كان أمر الفرائض عنده ﷺ أوكد وأهمّ، لأنّ الفرائض هي التي يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، يسأل العبد يوم القيامة قبل حسن الخلق وحسن المعاملة مع الناس، هل قام بفرائض الله تعالى التي فرضها على عباده، هل أدى الواجبات واجتنب المحرمات، هل أدى ما افترض الله عليه من العبادات، وهل تعلم من علم الدين الذي لا يستغني عنه كل بالغ عاقل، فإن تصحيح معاملة الله تعالى هو مقدم على ما سواه، فأول فرض هو الإيمان بالله تعالى أي توحيده تعالى وتجنب أنواع الكفر والشرك كلها، والإيمان برسوله.

كانت أذهان الناس الذين قبلوا دعوته ﷺ مدركة لما يلقيه إليهم رسول الله ﷺ من تنزيه الله تعالى، فكانوا يفهمون من الآية الواحدة المعنى على الوجه الصحيح المطلوب ما لا يفهمه أكثر الناس في هذا العصر وبعض العصور التي قبله في أزمنة متطاولة.

أنزل الله تعالى في تنزيه الآية الجامعة وهي قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }، فكانت هذه الجملة تجمع معاني كثيرة من التنزيه التام، فإنها تفهم أن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا فعله، فهو تبارك وتعالى واحد في الذات، أزليّ أبديّ، موجود بلا بداية، انفرد بالأزلية فلا أزلي سواه، فالزمان والمكان حادثان- أي مخلوقان- لم يكونا في الأزل ثم وجدا، أما المكان فأمره أوضح، وأما الزمان فيقرب ذلك للفهم أنه لا يعقل وجود الزمان قبل أول الحادثات، أول الحادثات على ما جاء في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ هو الماء، ثم العرش المجيد، ثم القلم الأعلى ثم اللوح المحفوظ، ولم يكن للماء أصل خلق منه إنما الله تعالى أوجد الماء بقدرته من غير مادة سبقته. الله قادر على أن يخرج الشيء الأول من غير أصل يسبقه.

 

خالق هذا العالم لا يشبهه:

خلق الله تعالى الإنسان من تراب هذه الأرض التي نعيش عليها من جميع ألوانها، إذ أمر الله تعالى بعض ملائكته أن يقبض قبضة من جميع أنواع التراب، ثم رفعت هذه القبضة إلى الجنة فعجنت بماء الجنة، فصار ذلك التراب طيناً، ثم صار يابساً صلصالاً كالفخّار، ثم وضع الله تعالى فيه الروح التي خلقها قبل ذلك، فصار إنساناً حياً متحركاً بالإرادة والاختيار، ومن لطف الله تبارك وتعالى على ذلك الأول من البشر الذي هو آدم صلوات الله وسلامه عليه، أن أفاض عليه معرفة اسماء كل شيء من غير دراسة على أحد من ملائكة الله، بل أفيض عليه إفاضة، فكان من أول نشأته متكلماً، فهذا امن لطف الله عليه أن تكلم بمجرد ما دخل الروح في ذلك الهيكل البشري، فتكلم مع الملائكة الذين كانوا قد خلقوا قبل ذلك بزمن يعلمه الله.

فالحاصل أن الماء الذي كون منه هذا العالم على اختلاف أنواعه يرجع إلى ذلك الأصل الواحد وهو ذلك الماء الذي تحت العرش، ولم يكن قبل ذلك الماء شيء: لا زمان ولا مكان لأن الأمكنة خلقت منه، لأن أول جرم جامد أبدعه الله تعالى هو العرش، فلم يكن قبله مادة جامدة، ويجب الإيمان أن مبدع هذا العالم لا يشبهه بوجه من الوجوه، فهو موجود لا كالموجودات، وقولنا “لا كالموجودات” يفهم أنه تعالى موجود بلا بداية، موجود بلا خالق يخلقه، لأنه لم يسبقه عدم، كيف يحتاج إلى خالق؟ إنما يحتاج إلى الخالق ما سبقه العدم.

وهو تبارك وتعالى أيضاً موصوف بالقدرة والعلم والإرادة، لأن الإبداع لا يصح عقلاً بدون ذلك، وهؤلاء الصفات: العلم والقدرة والإرادة، لا يصح الاتصاف بها عقلاً إلا لمن هو موصوف بالحياة، لكن حياته تعالى ليس كحياة غيره، حياتنا بروح ولحم ودم، وأما حياة الله تعالى الذي أبدع العالم على غير مثال سابق ليست كهذه الحياة إنما هي صفة أزلية أبدية لا تتطوّر ولا تتغيّر.

 

لا شيء أزليّ مع الله:

الله تبالك وتعالى أبدع النور والظلمات، فلم يكن النور قديماً أزليّاً ولا الظلمة قديمة أزليّة، بل كلاهما أي النور والظلمة حادث بعد أن كان معدوماً، وهذا وإن كان أمراً يتحيّر فيه الوهم لكن العقل الصحيح يقبله ويؤيده، فيجب علينا أن نعتقد أنه لم كين في الأزل نور ولا ظلمة، بل كلاهما حادث بدليل تعاقبهما، أي سريان الزوال على كل منهما، قال الله تبارك وتعالى دلالة على أن النور والظلمة حادثان لم يكونا في الأزل: { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ }. أي خلق الله الظلمات والنور، الله تبارك وتعالى هو خالق النور كما أنه خالق الظلمة فلا يشبه هذا ولا هذا، ومع ذلك يجوز تسمية الله تعالى “النور” ومعنى ذلك أن الله تعالى هادي من يشاء من عباده، هو هدى الملائكة سكّان السموات السبع للإيمان، هو خلق فيهم المعرفة والإيمان فكانوا مهتدين، وخلق فيمن شاء من أهل الأرض من الإنس والجن الإيمان أيضاً، على هذا العنى يقال: الله “نور”، لا على معنى النور الذي هو ضوء، النور بمعنى الضوء مخلوق حادث. ألا ترون أن النور يذهب فتخلفه الظلمة، ثم تذهب هذه الظلمة فيخلفها النور، وهكذا يتعاقبان على الدوام، هذا دليل الحدوث هذا دليل على أن النور ليس أزليّاً ولا الظلمة  أزليّة.

فلا أزليّ إلاّ الله، الله تبارك وتعالى أفهمنا ذلك بكلمة واحدة في القرآن الكريم، قال الله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ } أي هو الموجود الذي لا بداية لوجوده وما سواه فهو حادث، هذه الجملة الموجزة من القرآن الكريم دلت على هذا المعنى العظيم: { هُوَ الأَوَّلُ } أي هو لا غيره الأول الموجود الذي لا بداية لوجوده، أي أن ما سواه لوجوده بداية، فلا أزليّ إلا الله ولا قديم بهذا  المعنى إلا الله. فنحن ننزّه الله عن صفات المخلوقات عملاً بقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ننفي سائر صفات المخلوقات عنه من التحيّز في المكان والقعود والاتّكاء والتّعلّق في الهواء فهو تبارك وتعالى منزّه عن جميع ذلك.

 

كلّ ما سوى الله مخلوق:

يجب على الإنسان أن يوطّد نفسه على اعتقاد وجود الله تعالى بلا مكان ولا وصف قعود أو استلقاء أو اتاكاء، أو تعلق كوجود هذه الكواكب، هذه الكواكب هي معلقة بقدرة الله تعالى في الفضاء، والله تبارك وتعالى لا يجوز عليه أن يكون كهذه الأشياء، ولا يجوز عليه أن يكون كإنسان موصوف بالقعود في المكان، فالعرش الكريم ليس محلاً لذات الله تعالى، إنما العرش جرم عظيم خلقه  الله تعالى إظهاراً لقدرته، ليكون مشعراً بتمام قدرة الله تعالى، فالملائكة الحافّون حوله يزدادون تعظيماً وإجلالاً لله، لأنهم لما يرون اتساعه الذي لا نظير له يزدادون علماً بكمال الله تعالى وكمال قدرته وحكمته. إنما المكان صفة الحادث الذي لم يكن موجوداً ثم وجد، فأقدم الموجودات الحادثات هو ذلك الماء، والذي يليه هو العرش كل منهما حادث، وليس معنى الحادث في هذا المجال الشيء الذي وجد من عهد قريب، بل كل ما دخل في الوجود بعد أن لم يكن موجوداً فهو حادث، فإذا كان العرش الذي لم يكن قبله شيء من الأجرام إلا الماء حادثاً فما ظنّكم بهذه الأرض التي نحن عليها وهذه النجوم والكواكب. الحاصل أن كل ما سوى الله حادثٌ أي وجد بعد عدمٍ.

وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين