الأحد نوفمبر 9, 2025

قال الله تعالى:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}
[البقرة: 256]

معنى هذه الآية لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في الإسلام بالقتال حتى يأتيَكم الإذن، ثم جاءهم الإذن بالقتال فنُسِخت هذه الآية بآياتِ القتال، وليس معنى هذه الآية أن للإنسان حرية أن يعتقد ما شاء والعياذ بالله تعالى، وقال بعض المفسرين: أي أنت يا محمد لا تستطيع أن تُكرِهَ قلوبَهم على الإيمان.

وقال بعضُهم أي ليس لك أن تُكرِه الذين يدفعون الجِزية ما داموا يدفعونها ويخضعون للسُلطة أي يلتزمون الشروط.

قال الإمام أبو منصور الماتريدي في كتابه «تأويلات أهل السنة» ما نصه([1]): «وقال آخرون: هو منسوخ بقوله عليه السلام: أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلٰـه إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».اهـ

فهذه آية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} منسوخة بآيات الجهاد كآية {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193]. وبقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وبقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29]، وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمَّرَ أميرًا بالجهاد: «قاتلوا من كفر بالله» رواه مسلم في صحيحه.

في هذا دليل صريح على أن سبب مشروعية قتالهم هو كفرُهم وليس كما قال البوطي وكثير من المعاصرين المداهنين «هو لدفع عدوانهم فلا يكون ابتداءً وإنما يكون دفاعًا» وهذا منهم تحريف للكلم عن مواضعه، يقول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30]، فلو كانت الآية تُعطي حرية العقيدة كما يزعم بعض العصريين، فلماذا توعَّدَهم الله وتهدَّدَهم؟

وما أصرح الحديث المتواتر في أن الآية لا تعطي حرية الكفر والاعتقاد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرتُ أن أُقاتِل الناس حتى يشهدوا ألّا إلٰـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله» رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وهو متواتر رواه خمسة عشرَ صحابيًا.

وأما قولُه تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} قال القاضي ابن عطِيَّةَ الإشبيلي الأندلسي في تفسيره «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» في سورة يونس ما نصه([2]): «المعنى أن هذا الذي تقدَّمَ إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئتِه فيهم ولو شاء اللهُ لكان الجميعُ مؤمنًا، فلا تأسَفْ أنتَ يا محمدُ على كفرِ من لم يؤمن بكَ وادعُ، ولا عليكَ فالأمرُ محتومٌ، أفَتريدُ أنتَ أن تُكرِه الناسَ بإدخالِ الإيمانِ في قلوبِهم وتضطَرَّهم إلى ذلك واللهُ عزَّ وجَلَّ قد شاء غيرَه». اهـ.

فتبيّنَ أن معنى الآية أن الرسولَ عليه السلامُ ليس عليه أن يُكرِهَ القلوبَ لأنَّ القلبَ أمرُهُ مخفِيٌّ، فليس على الرسولِ أن يُكرِهَ الناسَ حتى تصيرَ قلوبُهم مؤمنة لأن هذا لا يملِكُهُ الرسولُ وليس في استطاعتِه إنما الذي في استطاعتِه صلى الله عليه وسلم أن يدعُوَهُم إلى الإسلامِ ويقاتِلَهُم على ذلك إلى أن يُسْلِموا بأن يتشَهَّدوا أو إلى أن يدفعوا الجزيةَ، فهذا الذي كُلِّفَهُ الرسولُ لأن هذا عَمَلُ الظاهِرِ. فظَهَر بهذا أنهُ لم يقُل أحدٌ من أهل العلم إن معنى الآية يدُلُّ على حرية الرأي والفِكْر والاعتقاد والتعبير ولأن الكافرَ لا يُكرَهُ على الدخول في الإسلام.

وأولى ما ذُكِرَ في تفسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} القولُ: إن المعنى لا تستطيعون أن تُكرِهوا القلوبَ حتى تصيرَ مؤمنةً ويؤيدُ ذلك قولُهُ تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أي أن الرسولَ بلَّغَ وبيَّنَ طريقَ الإسلامِ الذي هو الرُّشْدُ فمن سَمِعَ وقَبِلَ تبليغَه فقد اهتدى أي نجا من الضلال.

إن رأينا مسلمًا يريدُ الانتحارَ بأن يرميَ بنفسه من شاهق جبل أو بأن يرميَ نفسَه في البحر ليغرقَ أو بأن يرميَ بنفسِه في النار ليحترق نسعى لإنقاذه من الهلاك، فبالأولى أن نسعى لإنقاذِ الكافرِ من الكفرِ الذي يؤدي به إلى الخلودِ في نار جهنم إن مات عليه.

وهذا معنى قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].

وليس معنى قول الله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} أنه ليس مأمورًا أو ليس مكلفًا بدعوة الكفار إلى الإسلام كما ادعى بعض المحرفين لشريعة الله.

وقول الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، فمعناه: أنك يا محمد لست مكلفًا بهداية قلوب الكافرين لأن أمر القلوب إلى الله وليس إليك، لكنه مأمور بالقتال لإدخالهم في الإسلام أو بدعوتهم من غير قتال. روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عجب الله من قوم يدخلون الجنة بالسلاسل. ومعنى عجب رضي، وذلك أن قومًا يدخلون الإسلام مكرهين بالسيف ثم يثبتون فهؤلاء كأنهم دخلوا الجنة بالسلاسل.

وأما قول بعض الناس الذين لا علم لهم والعياذ بالله في معنى هذه الآية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} أن الله تعالى خلق العباد ولم يأمرهم بعبادته وأن الدين جاء بحرية العقيدة والفكر والقول، كما صرّح غير واحد من أهل الضلال أمثال ذاك النائب اللبناني الذي يدّعي المشيخة والعلم من آل ضاهر في برنامج تلفزيوني على قناة الجديد اسمه الأسبوع في ساعة في تاريخ 29/05/2011، وعمرو خالد عندما جاء إلى بيروت ليلقي محاضرة في المدينة الرياضية في بيروت بتاريخ 11/03/2002 قال والعياذ بالله بلهجته المصرية: «الإسلام حرية العقيدة: تعبد إللي أنت عايزه» (أي أن الإنسان يجوز له أن يعبد ما يريد) وهذا إباحة للإشراك بالله وعبادة غيره والعياذ بالله تعالى من هذا الكفر، ثم قال بعد ذلك: «الصحابة كفلوا حرية العقيدة»، وهذا بتسجيل فيديو بالصوت والصورة لدينا، وقد أخبرنا رجل من أهالي بيروت من آل اللاذقي أن امرأة دعيت لأن تتعلم الشرع والفقه في الدين فأجابت: «لقد قال الداعية عمرو خالد الإنسان يعبد إللي هو عايزه فأنا لا أريد أن أكون مسلمة» وقالت: «أنا لا أريد أن أعبد الله» محتجة لهذا الكفر بكلام عمرو خالد، فانظر إلى هذا الوبال الذي حصل بسببه، وقد قال أيضًا عمرو خالد في رسالة له نشرها في مكتبته التي في موقعه على الإنترنت إلى الدنماركيين الذين أساؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالرسومات المسيئة التي فيها أبشع وأقبح الشتائم والسبّ لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، تحت عنوان «كلمة الأستاذ عمرو خالد الأولى عن أحداث الدنمارك» فقال لهم: «مفهوم عند الغرب عظيم نحترمه ونحتاجه ونقدسه اسمه حرية التعبير، مفهوم عظيم حضاري وإنساني».

وهذا يوسف القرضاوي في موقعه على الإنترنت وبرامجه التلفزيونية على قناة الجزيرة ومحطة بي بي سي، يقول بحرية العقيدة مستندًا إلى هذه الآية، ففي كتاب له سماه «الدين والسياسة» الفصل السادس في باب سماه «الدولة الإسلامية وحقوق الإنسان» يقول ما نصه: «الواقع من المبادئ الأساسية في الإسلام أن حرية الاعتقاد مكفولة للجميع»، وقال القرضاوي أيضًا في مقابلة مع محطة ال بي بي سي في البرنامج المسمى «في الصميم» ما نصه([3]): «الحرية مقدمة على تطبيق الشريعة»، وقد قال علي جمعة مفتي مصر في برنامج «بالعربي»([4]) عندما سألته المذيعة عن المسلم الذي يترك دينه فقال لها: «لا يجوز»، فسألته عن النصراني الذي يترك نصرانيته ويدخل في الإسلام فقال علي جمعة: «كما لا يجوز للمسلم أن يترك دينه لا يجوز للمسيحي أن يترك دينه»! والعياذ بالله من تكذيب القرءان.

فقد قال الله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتواتر الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألّا إلٰـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله» وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي وبما جئت به إلا كان من أصحاب النار»، فعلى قول الدكتور علي جمعة أن النبي كان يدعو الكفار إلى شيء محرم وهو أن يتركوا دينهم والعياذ بالله تعالى من مسخ القلوب، وأمثال هؤلاء هم الذين جرّؤوا من أساء إلى نبيّنا أن يتمادى في كفره وضلاله، فقد كانوا يذهبون إليهم ويعقدون معهم المؤتمرات والمحاضرات باسم الحوار فكانوا يداهنونهم ويقولون لهم كذبًا إن الإسلام جاء بحرية العقيدة والفكر والقول والعياذ بالله من سوء الحال، فبعد أن رسم بعض الصحافيين الدنماركيين الرسوم المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم احتجوا بقول هؤلاء المتسترين باسم الإسلام أن الإسلام جاء بحرية العقيدة والتعبير والقول والفكر والعياذ بالله.

وهذا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي يقول في كتاب له سماه: «الله أم الإنسان أيهما أقدر على رعاية حقوق الإنسان!» ما نصه([5]): «ونحن نعلم أن الإنسان مخير في الدنيا بين أن ينقاد لأمر الله فيعتنق الإسلام أو لا ينقاد لأمره فيبقى على ما هو عليه متبعًا أي دين أو عقيدة يشاء». اهـ.

واعجبوا أولًا من اسم هذا الكتاب!

وقال البوطي في كتابه المسمى «حرية الإنسان في ظل عبوديته لله» ما نصه([6]): «بل إن بوسعه – أي الإنسان – في حياته الدنيا هذه أن يذعن لوجود الله وربوبيته وأن لا يذعن ولن يلحقه – أي الإنسان – من جراء تمرده على هذه الحقيقة أو من جراء إعراضه عن تعليماته وهديه – أي الله – أي عقاب دنيوي عاجل تجد هذا – على زعمه – في مثل قول الله عز وجل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وفي قوله عزَّ وجلّ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]».اهـ

انظروا إلى هذا محمد راتب النابلسي الدمشقي الذي يقول في كتابه المسمى «تأملات في الإسلام» ما نصه([7]): «ومن هذه الحقوق التي أعلنها الإسلام جهرة، قبل خمسة عشر قرنا، حق الحياة وحق الكرامة الإنسانية وحق التفكير وحق التدين وحق الاعتقاد وحق التعبير».

وممن قال أيضًا بما يسمى «حرية الاعتقاد والفكر والتعبير والقول» المدعو الشيخ إسماعيل المجذوب الحمصي كما يشهد عليه بذلك رجل من آل سعادة وآخر من آل بتكجي وآخر من آل صدقة وآخر حمصي، وذلك في بيته في حمص قرب القلعة، فقال بزعمه: «لا يوجد دليل على أن الرسول قاتل الكفار لإدخالهم في الإسلام»، فقيل له: «ماذا تقول في قوله عليه الصلاة والسلام الذي في البخاري ومسلم وهو حديث متواتر: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألّا إلٰـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فأي إكراه أشد وأكبر من القتال لإدخالهم في الإسلام. وماذا تقول في قول الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}. يقول: «كلامكم أكبر من عقلي».

فيجب الحذر من هؤلاء وأمثالهم الذين يحرفون معاني الآيات ويتكلمون بالكفر ويداهنون الكفار مع أن الكفار لا تعجبهم مداهنتهم لهم ويعرفون أنهم يداهنونهم.

وقد حذّر الله منهم ومن أمثالهم بقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].

فاحذر أخي المسلم من قولهم بحرية العقيدة والفكر والتعبير محتجين بغير حق بهذه الآية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} فكلامهم باطل لم يقل به أحد من الصحابة ولا السلف ولا أحد من العلماء المعتبرين الذين نقلوا لنا هذا الدين.

فكيف جاء الدين بحرية العقيدة بزعمهم وهناك أكثر من ستين آية جاءت بالوعيد والتهديد بالعذاب الشديد والخلود الأبدي للذين يموتون على الكفر والعياذ بالله؟

فقد قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217].

فلو كان كما يزعم هؤلاء الجهلة فلماذا خلق الله جهنّم؟!

قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَِمْلأََنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].

فأين حرية العقيدة المزعومة مع هذا التهديد والوعيد بجهنّم لمن مات على غير الإسلام؟!

ولماذا أرسل الله تعالى الرسل؟!

فقد قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: 48].

ومعنى الإنذار التهديد والوعيد بالعذاب، فأين ما يسمى حرية التعبير والرأي والفكر والعقيدة مع هذا الوعيد بجهنم؟! بل كان ترك الناس وما هم عليه من عقائد وأفكار ومعتقدات مختلفة فيها أنواع الكفريات والضلالات كما كان أهل الجاهلية الذين بعث إليهم الرسل.

فلو كان كما زعم هؤلاء الدكاترة والمشايخ الذين يداهنون على حساب الشريعة والإسلام ليتقربوا من غير المسلمين توددَّا ومداهنة فليجيبوا على هذه الأسئلة لماذا خلقت جهنم ولمن؟ ولماذا التهديد والوعيد في مئات آيات القرءان؟ ولماذا كل هذا التاريخ الحافل بالجهاد في سبيل الله تعالى من الأنبياء والأولياء والصالحين والأمم المسلمة الماضية والأمة المحمدية؟ ولماذا أنزل الله الكتب السماوية تدعو إلى التوحيد والإيمان والإسلام؟ ولماذا خرج النبي بنفسه في سبع عشرة غزوة؟ ولماذا أيّد الله نبيه والصحابة الكرام بالملائكة العظام في غزوة بدر؟ ولماذا خرج النبي وأغار على بني المصطلق وهم غارّون – أي لا علم لهم – فقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريّهم ولم يكونوا في القتال معه بل هو فاجأهم وبدأهم بذلك؟ فلو كان كما زعم هؤلاء المحرفون لدين الله أن الجهاد يكون دفاعًا فقط أو لمقاتلة المحاربين فليجيبوا عن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا.

فقد روى البخاري في صحيحه في كتاب «العتق» في باب «من ملك من العرب رقيقًا فوهب وباع وجامع وفدى وسبى الذرية» قال: (حدّثنا علي بن الحسن أخبرنا عبد الله أخبرنا ابن عون قال كتبت إلى نافع فكتب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية. حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش).

فلا دليل بعد هذا أصرح ولا أصح من كتاب الله وسُنّة نبيّه وإجماع الأمة على جواز قتال الكفار لإدخالهم في الإسلام ابتداءً أو دفاعًا بدليل ما تقدم من البراهين الواضحات والتي لا يخالفها ولا يشذ عنها إلا مبتدع ضال ينطبق عليه ما في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «من شذّ شذ إلى النار» وفي رواية: «شذ في النار».

الرد المحكم المتين في فضح المنافقين والضالين

ننقل هذا الرد القويّ الوافر الكبير الذي كتبه فضيلة الشيخ الأديب أسامة السيد حفظه الله ورعاه في الرد على الدكتور السوري في كتابه الرد العلمي، ولكن هو في الحقيقة رد على كل هؤلاء الذين تقدمت أسماؤهم أمثال القرضاوي وعمرو خالد ومحمد راتب النابلسي ومن كان على منوالهم.

يقول الشيخ السيد في كتابه «الرد العلمي على الدكتور السوري» ما نصه([8]):

يقول الدكتور السوري في كتابه المسمى «الجهاد في الإسلام» ما نصه([9]): «إن علة الحكم بقتل المرتد هي الحرابة أيضًا لا الكفر» اهـ، ويقول في المصدر نفسه([10]): «والجواب إن لتلبس المسلم بالردة حالتين اثنتين: أولاهما أن يمارس شبهاته التي هجمت عليه، أو قناعته الجديدة بينه وبين نفسه ويمسك عن إعلانها والإشارة بين الناس فهذا يظل مكلوءًَا في حرز حصين من مبدإ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ذلك لأن حالته هذه لا تنم عن أي معنى من معاني الحرابة يواجه بها المسلمين ومن ثم فشأنه كشأن الكافر الأصلي. والثانية أن يستعلن بردته عن الإسلام وينافح عن أفكاره المناقضة لما كان عليه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ويصر على ذلك إصراره، فشأن هذا الإنسان يختلف عن سابقه اختلافًا كبيرًا وعزم الحرابة في نفسه واضح إلى درجة القطع واليقين، وهل في أنواع الحرابة ما هو أشد وأخطر من الكيد للإسلام والمسلمين عن طريق بث عوامل الزيغ والسعي إلى تشكيك الناس بعقائدهم ومبادئهم الإسلامية». اهـ. وفي إحدى المراسلات التي جرت بيننا وبينه كتب البوطي بخط يده يقول: «راجعنا فلن نجد من قال إن شهادة اثنين بكفر فلان من الناس يقوم في القضاء مقام سماع موجب الكفر منه مباشرة، ومن ثم تكفي تلك الشهادة للحكم عليه بالردة وملاحقته بتنفيذ الحكم الذي تستوجبه الردة… نعم إن شهادة واحد أو اثنين أمام القضاء تستوجب التحري والتحقيق المباشر، فمن هم الذين قالوا إن للقاضي أن يحكم بردة فلان من الناس اعتمادًا على شهادة رجلين دون استدعائه والسماع منه».اهـ

الجواب والرد: نأمل منك يا دكتور ألا تظن لحظة أنك إن لم تكن على اطلاع على مسألة أن لا تظن أنها غير موجودة أو أنه لا أثر لها، ومن المعلوم عند العلماء أن عدم العلم ليس بدليل، ومن علم حجة على من لم يعلم، والأحكام الشرعية لا تبنى على النحو الذي ذهبت إليه. وإليك إن كنت لا تعلم فلتعلم الآن مثلًا لئلا تعود إلى ما ذكرت: وكنا قد أفردنا هذا البحث على حِدَة لمناسبة أخرى ونعيده هنا تتميما للفائدة.

قال الدردير المالكي صاحب الشرح الكبير ما نصه([11]): «تثبت الردة أمام القضاء بشهادة رجلين مسلمين عدلين وبهذا قال الحنابلة ومالك والأوزاعي والشافعي والحنفية، وقال ابن المنذر: ولا نعلم أحدًا خالف في هذا إلا الحسن قال لا يقبل في إثبات الردة إلا أربعة شهود قياسًا على الزنى، ولكن يرد على الحسن أن الشهادة على الردة شهادة في غير الزنى فتقبل من عدلين كالشهادة على السرقة».اهـ ثم لمزيد من التحري عن الدليل اعلم أن ابن قدامة قال في المغني ما نصه: «وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم، وبه يقول مالك والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر ولا نعلم أحدًا خالفهم إلا الحسن قال لا يقبل في الردة إلا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها إلا أربعة قياسًا على الزنى»، ثم قال ابن قدامة: «ولنا – أي الحنابلة – إنها شهادة في غير الزنى البكر ولا قتل فيه، وإنما العلة كونه الزنى، ولم يوجد ذلك في الردة. ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنى يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف بالردة». اهـ.

وأما قولك يا دكتور: إن علة الحكم بقتل المرتد الحرابة أيضًا لا الكفر.

فنقول: من أين لك هذا وما دليلك وما هي حجتك، وكلامك هذا ظاهر البطلان مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه البخاري في صحيحه.

فالرسول علق الحكم بالقتل بردة المرتد، وإن كان المرتد فردًا أو كانوا جمعًا لم يفرق الشرع بين الفرد أو الجماعة، وحرب أبي بكر للمرتدين لم يكن مهاجمة من المرتدين للمسلمين بل هو جيّش إليهم الجيش في معاقلهم وقتل من قتل واستسلم من استسلم بالرجوع إلى الإسلام فهذه محاولة منك لإبطال حكم الردة.

ثم ماذا تقول في الحديث الصحيح المتفق عليه الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره: «لا يحل دم أمرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل كفر مع حرابة، ثم بينّا لك أنه انعقد الإجماع على أن الردة تثبت عند القاضي بشهود وعليه يقتل المرتد حتى ولو لم يكن هذا المرتد يجاهر بردته كما تزعم فماذا تقول بهذا الإجماع.

ثم الآن اسمع إلى أقوال المذاهب الأربعة في هذا الموضوع ففي المغني لابن قدامة الحنبلي ما نصه([12]): «وروي أن معاذًا قدم على أبي موسى فوجد عنده رجلًا موثقًا فقال: ما هذا؟ قال: رجل كان يهوديًّا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود فقال: لا أجلس حتى يقتل، فأمر به فقتل، متفق عليه، ولم يذكر استتابته ولأنه يقتل لكفره».اهـ

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه([13]): «وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: «أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيّما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها». اهـ.

وفي الصحيفة التي قبلها في فتح الباري([14]) عازيًا إلى أبي طاهر المخلّص من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قومًا على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون، قالوا: أنت ربّنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنّما أنا عبد مثلكم ءاكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذّبني فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا فلما كان الغد غدوًا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال: أدخلهم، فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخذ لهم أخدودًا بين باب المسجد والقصر وقال: احفروا فابعدوا في الأرض وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:

إني إذا رأيت أمرًا منكرا

 

أوقدت ناري ودعوت قنبرا

 وهذا سند حسن». اهـ.

وهذا دليل صريح على بطلان قول البوطي أن المرتد لا يقتل إلا على وجه الحرابة لأن هؤلاء الذين قتلهم عليّ ما كانوا محاربين بل عبدوه من شدّة غلوّهم وإطرائهم له في محبته.

يؤيد ما ذكرنا ما رواه ابن حبان في صحيحه عن عكرمة، أن عليًّا أتي بقوم قد ارتدوا عن الإسلام أو قال زنادقة معهم كتب فأمر بنار فأججت فألقاهم فيها بكتبهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: أما أنا لو كنت لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعذبوا بعذاب الله» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوه».

وموضع الشاهد قوله: «ولأنه يقتل لكفره» ولم يقل لحرابته.

ثم في المغني ما نصه([15]): «(الفصل الرابع) إن لم يتب قتل لما تقدم ذكره وهو قول عامة الفقهاء». اهـ.

ويقول النووي الشافعي في روضة الطالبين الباب الثاني في حكم الردة ما نصه([16]): «أحكامها كثير متفرقة في الأبواب والمقصود هنا نفسه وولده وماله أما نفسه فمهددة فيجب قتله إن لم يتب». اهـ.

وقال صاحب جواهر الإكليل في شرح مختصر خليل المالكي ما نصه([17]): «واستتيب المرتد حرًّا أو عبدًا ذكرًا أو أنثى أي طلبت منه التوبة وجوبًا ثلاثة أيام متوالية لأن الله تعالى أخر قوم صالح صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وقال ابن القاسم: ثلاث مرات ولو في يوم بلا معاقبة بجوع ولا بعطش وبلا معاقبة بضرب ولا غيره وإن لم يتب، فإن تاب المرتد برجوعه للإسلام فلا يقتل وإلا أي إن لم يتب حتى تمَّت الأيام الثلاثة بغروب اليوم الثالث قتل». اهـ.

وقال ابن عابدين الحنفي في حاشيته المشهورة ما نصه([18]): «[ويحبس ثلاثة أيام إن استمهل، فإن أسلم وإلا قُتل] لحديث: «من بدل دينه فاقتلوه» [وإسلامه أن يتبرأ عن الأديان] سوى الإسلام [أو عما انتقل إليه] بعد النطق بالشهادتين، وتمامه في الفتح ولو أتى بهما على وجه العادة لم ينفعه ما لم يتبرأ [وكره] تنزيهًا لما مرّ [قتله قبل العرض بلا ضمان] لأن الكفر مبيح للدم». اهـ.

فبعد سرد هذه الأقوال من المذاهب الأربعة قل لنا يا دكتور أين كلمة الحرابة، فهذه الأقوال كلها مدعمة بالأدلة تثبت أن قتل المرتد بسبب الكفر وليس بسبب الحرابة المزعومة عندك. ومن أين لك أن تقسم المرتد إلى قسمين قسم يقتل وقسم لا يقتل.

وإذا أردت أيها القارئ أن تأخذ نموذجًا مما انطوت عليه سريرة البوطي في هذا الشأن في ادعائه بعدم قتل المرتد إن لم يظهر حربًا على المسلمين فاسمع إليه حيث يقول في كتابه «هذه مشكلاتهم»([19]) حيث يدعو إلى احترام الكفر وإلى عدم قتل المرتد إذا لم يظهر حربًا على المسلمين ونص عبارته: «لو كان الذي كتبه سلمان رشدي وجهة نظر علمية أو فكرية عبّر عنها بما يدل على قناعة داخلية لديه بشأنها لكنا أول من يحترم عمله سواء وافقنا في وجهة نظره أم لا». اهـ.

ثم اسمع إليه يقول المصدر ذاته ما نصه([20]): «ولو كان الذي كتبه رشدي إعلانًا بأنه لم يستطع أن يصل إلى قناعة بالإسلام ومبادئه، ومن ثم فهو يريد أن يمارس حريته في الإعراض عنه إلى أي معتقد ءاخر يفضله لفسحنا أمامه الطريق عريضًا إلى كل ما يبتغيه خاضعين لقرار الله عزّ وجلّ: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} ولقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، وكل ما يمكن أن نضيفه إلى ذلك هو فتح باب حوار معه بالحكمة والموعظة الحسنة من خلال الأدلة العلمية والبراهين المنطقية المجردة لا نزيد على ذلك شيئًا ما دام أن الرجل لا يبتغي أكثر من ممارسة حريته ولا يشتط وراء ذلك إلى رسم أي كيد أو عدوان». اهـ.

إذًا فما معنى قولك في جريدة السفير([21]): «الحكم بالردة على نصر حامد أبو زيد باطل ومن ثم التفريق بينه وبين زوجته أيضًا باطل، كذلك سلمان رشدي الذي صاغ هذه الرواية لا يجوز إطلاقًا أن نحكم عليه غيابيًا أيضًا وأن نهدر دمه». اهـ.

نقول: أنت كفرته بعد أن سقت أقواله المفزعة بحق الرسول وأزواجه وبحق الله حتى قلت صراحة في كتاب «هذه مشكلاتهم»([22]): «إن العالم الإسلامي لم يثر على كفر سلمان رشدي»، ثم قلت: «وإنما ثار العالم الإسلامي على كرامته التي هي كرامة كل فرد مسلم».

أنت يا دكتور هدرت دم سلمان رشدي بحسب ضوابط الردة التي وضعتها وهي إعلانه الحرابة على المسلمين فلماذا هذا التناقض؟ فأنت تريد أن تحمل على فتوى رشدي ومن جهة أخرى تحكم عليه بالقتل بحسب ضوابطك.

ألم تعلم أنه قد ثبت أن أسامة بن زيد قتل رجلاً قال لا إلٰـه إلا الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف تقتله وقد قال لا إلٰـه إلا الله» فقال: قالها خوفًا من السيف فقال: «أشققت على قلبه» الحديث… فالنبي لم يقل له هل أعلن عليك الحرب حتى تقتله.

ثم ماذا تقول في الآية الكريمة: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرَّ أميرًا بالجهاد: «قاتلوا من كفر بالله» رواه مسلم في صحيحه. وفيه دليل صريح على أن سبب مشروعية القتال هو كفرهم.

ثم ماذا تقول في قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ما ادعيته من أن الحرابة هي سبب الجهاد، وأنه لا جهاد إلا مع الحرابة، وأن المرتد لا يقتل إلا إذا حارب؟! وأيضًا ما ورد في الحديث أن عيسى عليه السلام حين ينزل يضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام فيه دليل على أن المقصود الأصلي من الجهاد. إدخال الناس في الإسلام.

واعلم يا بوطي أن الآية السابق ذكرها نزلت في حروب الردة وأول الآية: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} فقد نقل القرطبي في الجامع لأحكام القرءان([23]) عن الزهري ومقاتل أنهم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة.

وقال رافع بن خديج: والله لقد كنا نقرأ هذه الآية في ما مضى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم، وقال القرطبي([24]) في قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}: «هذا حكم من لا تؤخذ منهم الجزية وهو معطوف على تقاتلونهم أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة وإما الإسلام».

وأما استدلال البوطي بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} زاعمًا أن معناه للإنسان حرية أن يعتقد ما شاء كما أفاد كلامه فهذا تحريف، إذ الآية معناها لا تُكرهوا أهل الكتاب بالقتال إن دفعوا الجزية، وقال بعض المفسرين: المعنى أنكم لا تستطيعون أن تُكرهوا قلوب الكفار وعليكم إكراه الظاهر بالقتال. وقال الإمام أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات: هذه الآية منسوخة بآيات الجهاد كآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية [الحج: 39]، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] وما أصرح الحديث المتواتر في أن الآية لا تعطي حرية ولا حرية الاعتقاد كما زعم البوطي وغيره من أهل هذا العصر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألّا إلٰـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله»، الحديث رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وغيرهما.

وأما قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فهو تهديد وليس إذنًا للناس في حرية الكفر بدليل ءاخر الآية وهو {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]، والمعنى من ءامن فقد أحسن ومن كفر فهو مستحق للعذاب المقيم في النار، يُفهم ذلك من قوله تعالى في الآية: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] ومعناه من كفر يقيم في جهنم في العذاب المستمر، وأن أهل النار محفوفون بالنار من كل الجوانب، فأي معنى للجهاد على زعمك لو كان لكل إنسان حرية المعتقد كما زعمت.

ومعلوم أن لفظ الأمر قد يكون للتهديد لا لطلب الفعل، وقد ذكر الأصوليون أن لفظ الأمر يأتي بمعنى الخبر ويأتي بمعنى التهديد، ومثال الأمر بمعنى الخبر قوله تعالى: {مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا} [مريم: 75]، والمعنى يمدّ له. قضيت عمرك ولم تعلم ذلك، أم علمت وتعمدت تحريف كتاب الله، نطالبك بأن تجيب عن قول الله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] ولم يقل حتى يتركوا المحاربة، فإنَّا نتحداك تحديًّا علنيًا فإنك لن تستطيع الجواب على هذا جوابًا علميًا صحيحًا.

حدق النظر حتى تفهم لعلك إذا حدقت النظر في هذه الجملة تفهم، حدق النظر في قوله تعالى: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}.

قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

معناه: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مؤمنًا ومُصدقًا بقلبه تصديقًا جازمًا لا ريب فيه أن الله تبارك وتعالى قادر على إحياء الموتى وإعادة الخلق يوم القيامة، فسأل اللهَ تعالى أن يُرِيَهُ كيف يُحيي الموتى بعد موتهم، وقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي أنا مؤمن غير شاك ولا مُرتاب ولكن تاقت نفسي لأن أرى بعينيَّ ليطمئنَّ قلبي ويزداد يقيني، فمعنى قول إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي ليطمئنَّ قلبي بإجابة طلبي، لأنه من الجائز أن يعطي الله تعالى بعض الأنبياء جميعَ ما طلب أو أن يعطيَه بعض ما طلب ولا يعطيه بعضًا، فسيدنُا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرفُ خَلقِ الله وأكرمُهم على الله ما أُعطي جميع ما طلب، بل أُعطي بعض ما طلب ومنع بعض ما طلب، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان جازمًا وقاطعًا في نفسه بأنَّ الله يعطيه ما سأل، ولكنَّه كان مؤمنًا بأنَّ الله تبارك وتعالى قادرٌ على ذلك، ولكن كان عنده احتمال أنَّ الله يريه كيف يُحيي الموتى واحتمال أنه لا يريه، فأجابَ الله تبارك وتعالى سؤال إبراهيم عليه السلام وأمرَهُ أن يأخذَ أربعةً من الطير ويتعرف إلى أجزائها ثم يُفرقها أشلاء وأجزاء ويجعلَ على كل جبل منهن جُزءًا ثم يَدْعوهُن إليه فيأتينه سَعْيًا بإذن الله، فلمَّا فَعَل إبراهيمُ خليل الرحمـن ما أمره الله تعالى، صارَ كلُّ جُزء ينضم إلى مثله وعادت الأشلاءُ والأجزاءُ كما كانت وأعاد الله الروح إلى كل طائر، ورجعت الطيور الأربعة بقدرة الله ومشيئته إلى إبراهيم عليه السلام، وهو يرى ءايات الله البينات وءاثار قدرته العظيمة التي تدل أنه تعالى لا يُعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماوات فتبارك الله.

قال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»([25]): «وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فقال المزني: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكا أن يجيبهما إلى بعض ما سألاه. وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس وليس في قوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم صلى الله عليهما، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما، فإنّه يقول: إذا لم أشك أنا ولم أرتَب في قدرة الله عزّ وجلّ على إحياء الموتى، فإبراهيم عليه السلام أولى بأن لا يشك فيه ولا يرتاب([26])، وفيه الإعلام أن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن من قبل طلب زيادة العلم واستفادة معرفة كيفية الإحياء». اهـ.

فليحذر من تفسير فاسد يتناقله بعض الناس أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شكّ في قدرة الله، وهذا لا يليق بنبي من الأنبياء كما أنه لا يقول به مسلم قط.

فقد انعقد إجماع المسلمين على أن من شكّ في قدرة الله على كل شيء كفر، فكيف ينسب إلى نبي من الأنبياء الكفر والعياذ بالله؟!

نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري شرح صحيح البخاري»([27])، عن الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي أنه قال: «جحده صفة القدرة كفر إتفاقًا». اهـ. ويدخل في هذا أيضًا من شك في قدرة الله تعالى على كل شيء.

أمّا القرضاوي فيقول والعياذ بالله في المجلة المسماة «مناهج تقريبية»([28]) عن الرجل الذي ذكر في الحديث الذي رواه البخاري أنه قال: «لئن قدر الله عليّ»: «وإنما أدركته رحمته لجهله وإيمانه بالله والمعاد ولذلك خاف العقاب وأما جهله بقدرة الله تعالى على ما ظنه محالًا فلا يكون كفرًا إلا لو علم أن الأنبياء جاؤوا بذلك». وقال في كتابه المسمى «الصحوة الإسلامية» ما نصه([29]): «حديث الذي أوصى أن يحرق ثم يذرى في يوم شديد الرياح نصفه في البر ونصفه في البحر حتى لا يقدر الله عليه ثم يعذبه. وأما جهله بقدرة الله على ما ظنه محالًا فلا يكون كفرًا وهذا الحديث أرجى حديث لأهل الخطأ والتأويل».

فهذا كلام فاسد باطل يردّه إجماع المسلمين الذي نقلناه من قبل.

([1]) تأويلات أهل السُّنَّة (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1426هـ المجلد الثاني ص239).

([2]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (ج3/ص145).

([3]) وهي موجودة على موقع القناة الرسمي على الإنترنت وذلك نهار الأحد في 7 شباط.

([4]) في قناة العربية مع جيزيل خوري المذيعة اللبنانية بتاريخ 15/09/2007.

([5]) الله أم الإنسان أيهما أقدر على رعاية حقوق الإنسان! (طبعة دار الفكر سوريا الطبعة الأولى سنة 1419هـ ص68).

([6]) حرية الإنسان في ظل عبوديته لله (طبعة دار الفكر المعاصر بيروت – لبنان ودار الفكر دمشق – سوريا، الطبعة الأولى سنة 1413هـ، ص31).

([7]) تأملات في الإسلام (طبعة دار المكتبي الطبعة الرابعة سنة 1428هـ ص248).

([8]) الرد العلمي على البوطي (1/174).

([9]) الجهاد في الإسلام (ص211).

([10]) المصدر السابق (ص212).

([11]) الشرح الكبير (2/304).

([12]) المغني (10/76).

([13]) شرح البخاري (12/272).

([14]) فتح الباري (12/270).

([15]) المغني (10/78).

([16]) روضة الطالبين (10/759).

([17]) جواهر الإكليل في شرح مختصر خليل المالكي (2/278).

([18]) حاشية ابن عابدين (3/286).

([19]) هذه مشكلاتهم (ص146).

([20]) المصدر نفسه، (ص147).

([21]) جريدة السفير بتاريخ الجمعة 15/11/96 (ص8).

([22]) هذه مشكلاتهم (ص151).

([23]) الجامع لأحكام القرءان (16/272).

([24]) القرطبي (14).

([25]) الأسماء والصفات (الطبعة الأولى 1985 دار الكتاب العربي، الجزء الثاني ص276).

([26]) تفسير الخازن (1/192).

([27]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (طبعة دار الريان سنة 1407ر الطبعة الأولى الجزء السادس ص604).

([28]) مناهج تقريبية (العدد 14 ص102).

([29]) الصحوة الإسلامية (ص108).