الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}
[النبأ: 23].

قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسيره «تأويلات أهل السُّنَّة» ما نصه([1]): «وقوله عزّ وجلّ {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}، ذكر الأحقاب، ولم يبين منتهى العدد، ولو كان اللبث فيها يرجع إلى أمد في حق الكفرة، لكان يأتي عليه البيان، كما أتى البيان على منتهى يوم القيامة بقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، فلما لم يبين، ثبت أنه لا يرجع إلى حد، وإلى هذا ذهب الحسن». ثم قال: «ليعلم أنهم أبدًا فيها، كما قال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 107]». اهـ. وفي المجلد السادس ص185 يقول الإمام الماتريدي ما نصه: «وقال بعضهم: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} أي: ما دامت سماء الجنة وأرض الجنة». اهـ.

أما المجسم ابن تيمية فمن أكبر ضلالاته زعمه بأن النار تفنى وتبعه على ذلك تلميذه ابن قيم في كتابه المسمى حادي الأرواح([2]) والقرضاوي وخالد الجندي. يقول ابن تيمية في كتابه المسمى «الرد على من قال بفناء الجنة والنار» ما نصه([3]): «وفي المسند للطبراني ذكر فيه أنه ينبت فيها الجرجير، وحينئذٍ فيحتج بفناءها بالكتاب والسُّنَّة، وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سُنّة ولا أقوال الصحابة». اهـ، ثم زعم في نفس الكتاب([4]) أن قول من قال بدوام النار محتجًّا بالإجماع أن هذه المسألة الإجماع فيها غير معلوم وأنه لا يُقطع فيها بإجماع، ثم زعم([5]) أن القول بفنائها فيه قولان معروفان عن السلف والخلف، وقد نُقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم.

أما القرضاوي فقد قال على شاشة التلفزة أن القول بفناء النار هو الأليق برحمة الله.

 

الرد:

في ما ادعاه ردٌ لصريح القرآن والسُّنَّة الثابتة المتفق على صحتها ولإجماع الأمة، أما مخالفته للآيات القرءانية الدالة على بقاء النار واستمرار عذاب الكفار بلا انقطاع إلى ما لا نهاية له وهي كثيرة منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [الأحزاب: 64، 65]، وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 68]، وقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا *إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168، 169]، وغيرها من الآيات الكثيرة، وقد ذكر الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في رسالته «الاعتبار ببقاء الجنة والنار» التي رد بها على ابن تيمية نحوًا من ستين ءاية، بل قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]، كاف في نسف ما ادعاه ابن تيمية وغيره.

أما ردّه للحديث الصحيح الثابت فما رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ولأهل النار: يا أهل النار خلود فلا موت»، وما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يُجعل بين الجنة والنار، ثم يُذبح، ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم».

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصه([6]): «قال القرطبي: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامته فيها على الدوام بلا موت، ولا حياة نافعة ولا راحة، كما قال تعالى: {لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، فمن زعم أنهم يخرجون منها وأنها تبقى خالية أو أنها تفنى وتزول فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول وأجمع عليه أهل السُّنَّة». اهـ.

أما من قال: إنه يزول عذابها ويخرج أهلها منها واحتج بما أخرجه عبد بن حميد في تفسيره عن بعض الصحابة من روايات الحسن، عن عمر أنه قال: «لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يومٌ يخرجون فيه»، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري([7]): «وهو منقطع». اهـ، ثم قال: «قلت: وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حُمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد». اهـ.

وهذان الحديثان صريحان في إثبات أن أهل النار باقون في النار بقاءً لا انقطاع له، فقد رد ابن تيمية هذين الحديثين برأي منه ولم يذكر دليلًا له إلا أثرًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه منقطعًا غير صحيح الإسناد كما قدمنا، فكيف رد صريح القرآن والسُّنَّة وركن إلى هذا الأثر الذي لا ثبوت له ليؤيد هواه المخالف لدين الله تعالى، فقد رد صريح القرءان والسُّنَّة بقياس باطل توهمه قياسًا معقولًا ذكره في بعض ما كتب في هذه المسألة التي شذ فيها عن الأمة لأنه لا يثبت عن أحد من الأئمة القول بفناء النار، ثم هو نفسه ناقض نفسه لأنه ذكر في كتابه المنهاج أن الجنة والنار باقيتان لا تفنيان بإجماع المسلمين على ذلك ولم يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان فكفره المسلمون، ثم وقع في شطر ما وقع فيه جهمٌ فيكون بنصه هذا كفَّر نفسه.

وما يدل أيضًا على ما قدمناه من الحديث الصحيح ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يدخل الجنة يَنعَمُ لا ييئس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه»، قال المناوي في فيض القدير عقبه ما نصه([8]): «وهذا صريح في أن الجنة أبدية لا تفنى والنار مثلها، وزعم جهم بن صفوان أنهما فانيتان لأنهما حادثتان، ولم يتابعه أحدٌ من الإسلاميين بل كفروه به، وذهب بعضهم إلى إفناء النار دون الجنة وأطال ابن القيم كشيخه ابن تيمية في الانتصار له في عدة كراريس، وقد صار بذلك أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان لمخالفته نص القرءان، وختم بذلك كتابه الذي في وصف الجنان». اهـ.

أما الإجماع فهو منعقد على بقاء النار وقد ذكره الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في رسالته «الاعتبار ببقاء الجنة والنار» فقال ما نصه: «فإن اعتقاد المسلمين أن الجنة والنار لا تفنيان، وقد نقل أبو محمد بن حزم الإجماع على ذلك وأن من خالفه كافرٌ بالإجماع، ولا شك في ذلك، فإنه معلوم من الدين بالضرورة، وتواردت الأدلة عليه». اهـ. وقال أيضًا ما نصه: «أجمع المسلمون على اعتقاد ذلك وتلقوه خلفًا عن سلف عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم، وهو مركوز في فطرة المسلمين معلومٌ من الدين بالضرورة، بل وسائر الملل غير المسلمين يعتقدون ذلك، من رد ذلك فهو كافر». اهـ.

وقال التفتازاني في شرحه على العقيدة النسفية ما نصه([9]): «وذهب الجهمية إلى أنهما يفنيان ويفنى أهلهما، وهو قول باطل مخالف للكتاب والسُّنَّة والإجماع، ليس عليه شبهة فضلًا عن حجة»، ونقل أيضًا الإجماع القرطبي في كتابه التذكرة([10]).

ومن التناقض الفاضح للوهابية، قول المدعو عبد الرحمـن دمشقية في تسجيل صوتي له: «إن ثبت أن ابن تيمية قال بفناء النار، فهذا تكفير مني له». اهـ، وقد قال شيخه ابن عثيمين في تسجيل صوتي له: «وكان شيخنا عبد الرحمـن بن السعدي يعجب من ترجيح ابن تيمية للقول بفناء النار». وهذا اعتراف صريح من المدعو عبد الرحمـن دمشقية بتكفير إمامه ابن تيمية.

فقد بان وظهر رد ابن تيمية للنصوص، وقد قال نجم الدين النسفي في عقيدته المشهورة: «وردُّ النصوص كفر»، وقال الطحاوي: «ومن ردَّ حكم الكتاب كان من الكافرين»، فليشفق الذين تابعوه على أنفسهم.

 

 

([1]) تأويلات أهل السُّنَّة (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1426هـ المجلد العاشر ص395).

([2]) المسمى حادي الأرواح (ص579 – 582).

([3]) الرد على من قال بفناء الجنة والنار (ص67).

([4]) المصدر نفسه، (ص71، 72).

([5]) الرد على من قال بفناء الجنة والنار (ص52).

([6]) فتح الباري (11/421).

([7]) المصدر نفسه، (11/422).

([8]) فيض القدير (6/241).

([9]) العقيدة النسفية (ص140).

([10]) التذكرة (5/527).