الجمعة يناير 17, 2025

كَسْرُ النَّفْسِ وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ

وَقِصَّةُ دِينَارِ الْعِيَارِ

 

   يُحْكَى أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُعْرَفُ بِدِينَارِ الْعِيَارِ وَكَانَ لَهُ وَالِدَةٌ صَالِحَةٌ تَعِظُهُ وَهُوَ لا يَتَّعِظُ فَمَرَّ فِى بَعْضِ الأَيَّامِ بِمَقْبَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا عَظْمًا تَفَتَّتَ فِى يَدِهِ فَفَكَّرَ فِى نَفْسِهِ. وَقَالَ وَيْحَكَ يَا دِينَارُ كَأَنِّى بِكَ وَقَدْ صَارَ عَظْمُكَ هَكَذَا رُفَاتًا وَالْجِسْمُ تُرَابًا فَنَدِمَ عَلَى تَفْرِيطِهِ وَعَزَمَ عَلَى التَّوْبَةِ وَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ إِلَهِى وَسَيِّدِى أَلْقَيْتُ إِلَيْكَ مَقَالِيدَ أَمْرِى فَاقْبَلْنِى وَارْحَمْنِى ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ أُمِّهِ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ فَقَالَ يَا أُمَّاهُ مَا يُصْنَعُ بِالْعَبْدِ الآبِقِ إِذَا أَخَذَهُ سَيِّدُهُ قَالَتْ يُخَشِّنُ مَلْبَسَهُ وَمَطْعَمَهُ وَيَغِلُّ يَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ. فَقَالَ أُرِيدُ جُبَّةً مِنْ صُوفٍ وَافْعَلِى بِى كَمَا يُفْعَلُ بِالْعَبْدِ الآبِقِ فَفَعَلَتْ بِهِ مَا أَرَادَ فَكَانَ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَخَذَ فِى الْبُكَاءِ الشَّدِيدِ وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ وَيْحَكَ يَا دِينَارُ أَلَكَ قُوَّةٌ عَلَى النَّارِ كَيْفَ تَعَرَّضْتَ لِغَضَبِ الْجَبَّارِ وَلا يَزَالُ كَذَلِكَ إِلَى الصَّبَاحِ فَقَالَتْ أُمُّهُ يَا بُنَىَّ ارْفِقْ بِنَفْسِكَ قَالَ دَعِينِى أَتْعَبُ قَلِيلًا لَعَلِّى أَسْتَرِيحُ طَوِيلًا يَا أُمَّاهُ إِنَّ لِى غَدًا مَوْقِفًا طَوِيلًا بَيْنَ يَدَىْ رَبٍّ جَلِيلٍ وَلا أَدْرِى أَيُؤْمَرُ بِى إِلَى ظِلٍّ ظَلِيلٍ أَوْ إِلَى شَرِّ مَقِيلٍ. قَالَتْ يَا بُنَىَّ خُذْ لِنَفْسِكَ رَاحَةً قَالَ لَسْتُ لِلرَّاحَةِ أَطْلُبُ كَأَنَّكِ يَا أُمَّاهُ غَدًا بِالْخَلائِقِ يُسَاقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ وَأَنَا أُسَاقُ إِلَى النَّارِ مَعَ أَهْلِهَا. فَتَرَكَتْهُ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ فِى الْبُكَاءِ وَالْعِبَادَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ فَقَرَأَ بَعْضَ اللَّيَالِى ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سُورَةَ الْحجر] فَفَكَّرَ فِى هَذِهِ الآيَةِ الْعَظِيمَةِ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وَجَعَلَ يَبْكِى حَتَّى غُشِىَ عَلَيْهِ فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَيْهِ فَنَادَتْهُ فَلَمْ يُجِبْهَا فَقَالَتْ لَهُ يَا حَبِيبِى وَقُرَّةَ عَيْنِى أَيْنَ الْمُلْتَقَى.

   فَقَالَ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ يَا أُمَّاهُ إِنْ لَمْ تَجِدِينِى فِى مَوَاقِفِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَاسْأَلِى مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ عَنِّى ثُمَّ شَهَقَ شَهْقَةً فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فَغَسَّلَتْهُ أُمُّهُ وَجَهَّزَتْهُ وَخَرَجَتْ تُنَادِى أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلاةِ عَلَى قَتِيلِ النَّارِ فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ جَمْعًا وَلا أَغْزَرَ دَمْعًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَمَّا دَفَنُوهُ نَامَ بَعْضُ أَصْدِقَائِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَرَءَاهُ يَمْشِى فِى الْجَنَّةِ وَهُوَ يَقْرَأُ الآيَةَ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وَيَقُولُ وَعِزَّتِهِ وَجَلالِهِ سَأَلَنِى وَرَحِمَنِى وَغَفَرَ لِى وَتَجَاوَزَ عَنِّى أَلا أَخْبِرُوا عَنِّى أُمِّى.