فقال الشَّيخُ: بلغَه أنّ عائشةَ زوّجَت بعضَ البَناتِ ففَهم منهُ هذا، والحقيقةُ أنّها سعَتْ بتَزويجهِنّ وليسَت هيَ التي أجْرَتِ العَقدَ.
فقال الشَّيخُ: التّفسِيرُ الصّحيحُ أنّ هذه لا تَعني النّفَقةَ العَاديّةَ إنّما تَعني ما يُدفَع للمرأةِ جَبرًا لخَاطرِها إذا طُلّقَت بسَببٍ ليسَ منها، إذا طلّقَها بسبَبٍ ليسَ منها فعلَيهِ أن يُحسِنَ إليها بشَىءٍ مِن المالِ ثم بَعضُ الأئمّة قالوا هذا الشىءُ فَرضٌ وبَعضُ الأئمّةِ قَالوا إنّه سُنّة.
فقال الشَّيخُ: لهُ الخِيارُ إمّا أن يَتركَها في عِصمَتِه وإمّا أن يُطلّقَها، لكنْ إنْ تركَها في عِصمتِه يكونُ خيرًا لهُ، والمرأةُ إذا صَبرَت على زوجِها بعدَ أن يُصيبَه الجنُونُ خَيرٌ لها، لكنْ إن كانَ هناكَ لهُ مَالٌ يُنفَقُ علَيها مِنهُ بطَريقِ الشّرْع.
قال الشَّيخُ: في زمَن رسولِ الله ﷺ إذا قالَ شَخصٌ لزَوجَتِه: “أنتِ طَالِق أَلبَتّةَ” كانوا يَقصِدُونَ بالبَتّةِ تأكيدَ الواحِدَة، يُعتَبرُ واحِدًا إلا أن يَنوي بهِ الثّلاثَ، كذلكَ في أيّام أبي بَكر كذلك في أوّلِ خِلافَةِ عُمَر، ثم تَغيَّر أحوالُ الناس فصَارُوا يقولونَ أَنتِ طَالقٌ ألبَتّةَ بمعنى ثلاثًا، فأَجْرَى عُمرُ علَيهم حُكمَ الثّلاث لأنهم صاروا يَقصِدُونَ بالبَتّةِ الثّلاثَ بَعدَ أن كانُوا يَقصِدُونَ واحِدَة. والدّليلُ على ذلكَ أنّ عبدَ اللهِ بنَ عبّاس راويَ هذا الحديث رُوِيَ عنه أنّه كان يَعتَبرُ الثّلاثَ بلَفظٍ واحدٍ ثلاثًا. (وشذَّ بعضُ الناسِ فقالَ إن الطلاق بالثلاث إذا أوقع بلفظ واحدٍ يكونُ طلقةً واحدةً واحتجَّ بحديثِ مسلم (1) أنّ ابنَ عباسٍ قال “كانَ الطلاقُ طلاقُ الثلاثِ على عهدِ رسول الله وأبي بكر وصدْرٍ منْ خلافةِ عُمَرَ واحِدًا، ثم قالَ عمرُ إنَ الناسَ استَعجلوا في أمرٍ كانت لهُم فيهِ أناةٌ فلو أمْضَيناهُ عليهم فأمضاهُ عليهم” (2)، ولا حُجَّةَ لهم فيهِ لأمورٍ:
أحدُها أنَّ هذا الحديث قالَ عنهُ الإمامُ أحمدُ (3) شاذٌّ والشاذُّ لا يُحتَجُّ بهِ.
والثاني أنّ ابنَ عباس ثبتَ عنهُ أنهُ أفتى بوقُوعِ الثلاثِ بلفظٍ واحدٍ ثلاثًا. روى ذلكَ عنهُ ثمانيةٌ من كبارِ أصحابِهِ الثقاتِ كما بيَّنَ البيهقيُّ ذلكَ في السننِ الكُبرى (4)، والحديثُ إذا خالَفَهُ عملُ الراوي لا يُحتَجُّ بهِ عندَ بعضِ المُحَدّثينَ وعلى ذلك أبو حنيفةَ وأتباعُه، وبعيدٌ أن يرويَ عبدُ الله بنُ عباس هذا الحديثَ باللفظِ المذكور ءانِفًا مع حَمْلِهِ على الظاهرِ ثم يُفتيَ بِخِلافهِ.
والثالثُ أنّ أبا بكرِ بنَ العربي قالَ في كتابهِ القَبَسُ (5) كانتِ ألبَتَّةُ في عهدِ رسولِ الله وأبي بكر وصدرٍ من خِلافةِ عمَرَ واحدةً ثم ثال عمرُ إن الناسَ استَعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ فلو أمضيناهُ عليهم فأمْضاهُ والرابعُ أنهُ مُؤوَّلٌ بوجوهٍ ذكرها الحافظُ ابنُ حجر (1) منها أنّ بعضَ الرواةِ رواهُ عن ابنِ عباسٍ بالمعنى على حسبِ ما فهِمهُ ليسَ باللفظِ الذي قالهُ ابنُ عباسٍ فسقطَ الاستدلالُ بهِ على جَعْلِ الثلاثِ بلفظٍ واحدٍ طلاقًا واحدًا.)
فقال الشَّيخُ:لا يُكرَه، كَراهةُ الزّواج في الأشهُر الحُرم هذا الأمرُ ليسَ لهُ سنَدٌ إلا الوَهمُ. أمّا الأشهُرُ الحرُم كانَ القِتالُ فيها ممنُوعًا، المسلمونَ ليسَ لهم أن يَبدؤوا الكفّارَ بالقتالِ في هذهِ الأشهُر الأربعَةِ كانَ حَرامًا، ثم عندَ بعضِ العلَماء نُسِخَ هَذا وهمُ الجمهور، لكنّ الجاهليّةَ كانُوا على هذا والشّرعُ أقَرّه لهذا الحُكم ثم نسَخَه.
النّسْخُ يَدخُل في الأمرِ والنّهْي، اللهُ تعالى يأمُرُ عبادَه بشَىءٍ ثم يَنسَخُ فَرضيّةَ ذلكَ الشّىءِ ويُحرّمُ على عبادِه شيئًا ثم يَنسَخُ تَحريمَ ذلكَ الشّىء، كالمتعَةِ كانت أُبِيحَت بحديثِ رسول الله ثم حُرِّمَت بَعدَما فتَحَ رسولُ اللهِ مكّةَ قال: «وإنّها حَرامٌ إلى يَومِ القِيامةِ»
وأمّا ما يُشَاع مِن أنّ عمرَ بنَ الخَطاب حرّمَها فهذا غيرُ صَحِيح، عمرُ بنُ الخطاب شَهَرَ تحريمَها الذي هوَ مِن رسولِ الله ﷺ بحيثُ عَرَفَ كُلُّ مَن كانَ جَاهِلا بتَحريم المتعَةِ في حياةِ رسولِ اللهِ وفي عهدِ أبي بَكْر، لأنّ بَعضَهُم ما كانَ بلَغَهُمُ التّحريمُ، لأنّهُ ليسَ كلُّ ما يقُولُه الرّسولُ يَبلُغ إلى ءاذانِ كُلّ واحِدٍ مِن أُمّته، في زمانٍ بَعضُهم يَسمَع ثم هذا البَعضُ الذي سمِع يُبلّغُ غيرَهُ وبعضُ الناسِ حصَل لهم بأنهم لم يعلَمُوا ببعضِ الأحكام التي أثبتَها رسولُ الله ﷺ إلا بَعدَ مَماتِه، بعدَ مماتِه بلغَهُم، لأنّ الصّحابةَ كانوا بشَرًا مِن البشَر، كان لهم عِيالٌ كانَ لهم بسَاتِينُ يَشتَغِلُونَ فيها ويومًا يَحضُرُ قِسمٌ منهم ويَسمَعُونَ كلامَ رسولِ الله ويَومًا يَغِيبُ هؤلاءِ ويَحضُر غَيرُهم، فكانَ عمرُ بنُ الخَطّابِ شهَرَ هذا، لما عَلِم أنّ بَعضَ الصّحابةِ بَعدُ لا يَزالُونَ يَعمَلُونَ المتعَةَ ما بلَغَهُم تَحريمُ رسولِ الله شهَرَ ذلكَ، وإلا فعمَرُ بنُ الخَطّابِ لا يُحرّم شيئًا يَعلَمُ أنّ الرّسولَ ﷺ تركَه مُبَاحًا.
ثم عمرُ بنُ الخَطّاب لم يكن جبّارًا كانَ شَديدًا في دينِ الله، في أمرِ الله، مع ذلكَ كانَ لَيّنَ الجانِب مع المؤمنينَ وقّافًا عندَ كتابِ الله، إذا قالَ لهُ إنسانٌ هذا كَذا فإنْ عرَف أنّ معَهُ دَليلا يَقبَلُ منه.
لو كانَ هوَ مِن تِلقاءِ نَفسِه حَرّمَ هذه المتعَةَ بَعدَ أن تَركَها رسولُ الله حَلالا لأمّتِه كانَ سيّدُنا عليّ رضيَ اللهُ عَنه أسَدُ اللهِ الغَالِب كانَ رَدَّ علَيه، وعمرُ كانَ يَعرِفُ أنّ عليَّ بنَ أبي طالب مِن أعلَم الناسِ وكانَ يُراجِعُه في أشياءَ حتى إنّه قال: «نَعُوذُ باللهِ مِن مُعضِلَةٍ ليسَ لها أبو حَسن» أخرجَه ابنُ سَعد.
عليُّ بنُ أبي طالب أسَدُ الله الغَالِب ما كانَ يَسكُت له لو كانَ هو حَرّم مِن تلقاءِ نَفسِه المتعَة، امرأةٌ منَ النّساء فقيهةٌ راجَعتْه، مرّةً هوَ لما أصْدَر قَرارًا أنّه إنْ بلغَه أنّ إنسانًا زادَ في مَهرِ امرأةٍ على قَدْر كذا يَأخذُه يَضعُه في بيتِ المال، فقالت امرأةٌ: يا أميرَ المؤمنين ليسَ لكَ ذلك إن اللهَ تَعالى يقول: ﱡﭐ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱠ فصَعِدَ عمرُ المنبر فقال: أيّها الناسُ أنتُم وشَأنُكم في مُهُور نِسائِكم أصابَت امرأةٌ وأخطَأ عمر.
أبو حَسَنٍ يَسكُت لهُ؟! لو كانَ عمرُ حرّمَ مِن تِلقاءِ نَفسِه المتعةَ؟! أبو حسَنٍ يَسكُتُ وهذهِ المرأةُ لم تَسكُت؟!
فقال الشَّيخُ: لا تجبُ عليها عِدّةٌ ولكن الأحسَنُ أن تنتَظِر حَيضَةً أو أكثَرَ.
([1]) عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى كُنْتُ أَذِنْتُ لَكُمْ فِى الاِسْتِمْتَاعِ أَلاَ وَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شَىْءٌ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا وَلاَ تَأْخُذُوا مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا» رَوَاهُ مسلم والبيهقي والطبراني وابن ماجه وابن حِبّانَ.