الأحد نوفمبر 9, 2025

الدَّرسُ التّاسِعَ عشَرَ

قَضِيّةُ خَلْقِ أفعالِ العِبادِ والرَّدُّ على المُعتزِلةِ (دَرسٌ رابِعٌ)

الحمدُ لله ربّ العالمين لهُ النّعمةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَن صلَواتُ اللهِ البَرّ الرّحيم والملائكةِ المقَرَّبينَ على سيّدنا محمّدٍ أشرَف المرسَلين وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسَلِين وءالِ كُلّ والصّالحينَ وسلامُ الله علَيهم أجمعين،

وبعدُ، فإنّ أعظَمَ العلُوم وأنفعَها ما يَعُودُ إلى معرفةِ اللهِ ورَسُولِه، ما يُعرَف بهِ اللهُ ورسولُه وما يُعرَفُ بهِ سَائرُ أصُولِ العقِيدَةِ، لذَلكَ سمَّى أبو حَنِيفَةَ رضيَ اللهُ عَنه عِلمَ التّوحِيدِ «الفِقهَ الأكبَر»، لهُ في عِلمِ التّوحيدِ خَمسُ رسائلَ إحْدَاها «الفِقهُ الأكبَر» ثمّ معَه كتابُ «العَالِم والمتعَلِّم» ثم كتابُ «الوصيّةِ» ثم كتَابُ «الفِقهِ الأبسَط» ثم رسَالةٌ أُخرَى تُسَمَّى «رسَالةَ عُثمَانَ البَتّي»، هذه الرّسَائلُ الخَمسُ هيَ مِن تآليفِ أبي حنيفَةَ، وتَسمِيَتُه لكِتَابِه هَذا الذي هوَ في العَقِيدَةِ أي في مَعرفةِ اللهِ ورَسُولِه ومَا يَتبَعُ ذلكَ مِن أصُول العقيدة «الفِقهَ الأكبرَ» دَلِيلٌ ظَاهِرٌ على أنّ عِلْمَ العَقِيدَةِ أشرَفُ مِنْ عِلْم الأحكَام المسَمَّى بالفِقه.

ثم مِن أهمّ مسَائلِ عِلم العقيدةِ مسئلةُ خَلْق أفعالِ العبادِ لأنّ النّاسَ فيها على طَرفَينِ ووَسَطٍ فالطّرَفانِ هَالِكَانِ والنّاجِي هو الوسَطُ، وبَيانُ ذلكَ أنّ أهلَ الحقّ وهُمُ الصّحَابَةُ ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ لم يَحِيدوا عمّا كانوا يعتقدُونَه إلى غَيرِه، أي أنّ اللهَ تَبارك وتعالى هو خالقُ كلّ شَىء، هو خالقُ أعمالِ العبادِ حَركَاتِهم وسَكَناتِهم كمَا أنّه خَالقُ أجسَادِهم، لا فَرقَ عِندَ أهلِ الحقّ بَينَ أجسَادِنا وبينَ أعمَالِنا مِن حيثُ إنّ كُلّا خَلْقٌ للهِ تعالى.

أجسَادُنا خَلقٌ للهِ وكذَلكَ أعمَالُنا أي حَركاتُنا وسكَناتُنا خَلْقٌ لله تعالى، نحنُ لا نَخلُق شيئًا مِن ذلكَ، إنّما أجسَادُنا ليسَت مُكتَسَبَةً لنَا لا تَدخُل تَحتَ كَسبِ العِباد، لكنْ أعمَالُنا أي حَركَاتُنا وسكَناتُنا داخِلَةٌ تحتَ أكْسَابِنا أيْ لنَا فيها كَسْبٌ، أمّا مِن حَيثُ الخَلقُ أي الإحْداثُ مِنَ العدَم إلى الوجُودِ فهيَ للهِ تَبارك وتعالى ليسَ لنَا مِن ذلكَ شىءٌ، لَسنا مؤثِّرينَ بإيْجادِها اشتراكًا معَ اللهِ ولا مُستَقِلّينَ بإيجَادِها وتَكوِينِها، حَركَاتُنا وسكَناتُنا لَسنَا خَالقِينَ لها استِقلَالا ولَسنَا خَالقِينَ لها مُشَاركةً معَ الله، بل اللهُ تَعالى هو المنفَرِدُ بإيجَادِ حَركَاتِنا وسَكَنَاتِنا.

هَذا مُعتقَدُ أصحَابِ رسولِ الله لم يكنْ بينَهُم اختِلافٌ في ذلكَ ثم تبِعَهُم على ذلكَ جُمهُورُ المنتَسِبينَ إلى الإسلام ولم يَشِذَّ عن ذلكَ أي عن هَذا المعتَقَدِ الذي هوَ اعتِقَادُ الصّحَابةِ إلا طائفتَانِ تَنتَسِبَانِ إلى الإسلام أي تَدّعيَانِ ادّعَاءً وهُم في الحقِيقَةِ لَيسُوا مِن أهلِ الإسلام لا حَظَّ لهم في الإسلام، وإحْدَى هاتَين الفِرقتَينِ يُقالُ لها القدَريّةُ ويُقَالُ لها المعتَزلةُ، والأخرى يُقَالُ لها الجَهميّةُ ويُقَالُ لها الجَبريّةُ.

هَاتَانِ الفِرقَتانِ المعتزلةُ والجَبريّةُ هما الطَّرَفانِ المخَالِفَانِ لأهلِ الحقّ الذينَ همُ الوسطُ، فلْيَحذَر العاقلُ مِنَ الميلِ إلى إحدَى هاتَين الفِرقتَين اللّتَينِ هما طَرفَان، ثمّ أهلُ الحقّ الذينَ هُمُ الوَسَطُ لهم أدلّةٌ قُرءانيّةٌ ولهم بَراهِينُ عَقليَّةٌ فمِن أدِلَّتِهمُ القُرءانيّةِ قَولُه تَعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} اللهُ تَبارَك وتَعالى أَطْلَقَ هَذه الآيةَ إطْلاقًا لم يُقَيّدْها بالأجسَام، الأجرَامِ، ولا بالأعمَالِ فأَفهَمَنَا أنّهُ تَبارك وتعالى هو خَالقُ الأجسَام الصّغِيرَةِ والكَبِيرَةِ مِنَ العَرشِ إلى الذَّرّةِ، وأنّهُ هوَ خَالِقُ الحَركَاتِ والسّكَناتِ والنّوايَا والإدراكَاتِ والعُلُومِ كُلُّ ذلكَ اللهُ خَالِقُهُ لا خَالقَ سِوَاهُ، هَكذا تُعطِي هذهِ الآيةُ: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} كذَلكَ قَولُهُ تَعالى:{الله خالق كل شيء} لأنّ كَلمَةَ شَىءٍ تَشمَلُ الأجرامَ أي الأجسَامَ والحرَكاتِ والسّكَناتِ والإدراكَاتِ والعُلُومِ، فإدرَاكَاتُ البشَرِ وغَيرِهم مِنَ الخَلقِ وعلُومُهُم مَخلُوقَةٌ للهِ لَيسَت مَخلُوقَةً للعِبَادِ وإنْ كانَ ظَاهرًا يُنسَبُ إلى العَبدِ يُقَالُ فُلانٌ حَصَّلَ عُلُومًا والمعنى عندَ أهلِ الحَقّ في ذلكَ أنّهُ اكتَسَب نَيْلَ هَذه العُلُومِ فنَالَها بخَلقِ اللهِ لا بخَلقِ العَبدِ نَفسِه.

كذَلكَ الأسبَابُ العاديَّةُ عندَ أهلِ الحَقّ لا تَخلُقُ شَيئًا، والأسبَابُ العَاديّةُ هيَ هَذه الأمورُ التي جَعَلَ اللهُ تبارك وتعالى فيها السَّببيّةَ بشَىءٍ منَ الأشياء، الماءُ جَعلَه اللهُ سبَبا للرِّيّ والخُبزُ جَعَلَه اللهُ سَببًا للشّبَع والنّارُ جعَلَها اللهُ تَعالى سبَبًا للإحراقِ والدّواءُ جَعَلَه اللهُ سبَبًا للشّفَاءِ ولم يَجعَلِ اللهُ تَعالى هَذه الأسبَابَ خَالِقَةً للمُسَبَّبَاتِ التي تَحدُث بَعدَ مُباشَرتها، الرّيّ الذي يَحصُل بَعدَ شُرْبِ الماءِ ليسَ الماءُ يَخلقُه، كَذلكَ الشّبَعُ الذي يَحصُل إثْرَ تَنَاوُل الخُبز ليسَ الخُبزُ يَخلُقُه والشّفاءُ الذي يَحصُلُ إثْرَ تَناوُلِ الدَّواءِ ليسَ الدَّواءُ يَخلقُه، فهَذا الذي يكونُ مُوافقًا للقرءانِ لأنّ اللهَ تبارك وتعالى لمّا قال: :{الله خالق كل شيء}  أفهَمَنا أنّ كلَّ هذهِ الأسبَابَ لا تَخلُقُ شَيئًا بل اللهُ هوَ الذي يَخلُق هذه المسبَّباتِ عندَ تنَاولها، ونصَبَ اللهُ تبَارك وتعالى لعِبادِه دَليلًا يَدُلّ على أنّ هذه الأسبابَ لا تَخلُق مُسبّبَاتها يُوجَدُ حيَوانٌ يُقالُ لهُ “السّمَندَلُ”، هذا الحيوانُ يتَلذَّذُ بالنّار ولا تُحرِقُه ولا تؤثّرُ فيهِ وهوَ مِثلُ غَيرِه مِنَ الحيَواناتِ مُركَّبٌ مِن لحم ودَم، حتى إنّ الفِرَاءَ والمنَادِيلَ المتّخَذَةَ مِن جِلدِه إذا اتّسَخَت تُطرَح في النّار، وحتى إنّه يُغمَسُ في الزّيتِ ويُشعَلُ نَارًا ثم لما يَنتَهِي الزّيتُ تَنطَفئ النّارُ وتَبقَى هَذه المنادِيلُ وقَد ذَهَب عنها الوسَخُ ولم تَحتَرق([1])، هَذا جَعَلهُ اللهُ تعَالى دَليلًا لنَا على أنّ النارَ لا تَخلُق الإحراقَ بل اللهُ تعالى هو الذي يَخلُقُ الإحراقَ إثْرَ مُلامَسَة النّار، أي أنّ النارَ لا تَخلُق الإحراقَ بطَبِيعَتِها وأنّها لا تؤثّرُ بطَبْعها في الإحراقِ أي بدُونِ إرادةِ اللهِ وخَلْق اللهِ تَعالى لهذا الإحراق.

فاللهُ تعالى هوَ الذي يَخلُق الإحراقَ ليسَت النارُ تَخلُق الإحراقَ،

 وكذلكَ قِصّةُ إبراهيمَ عليهِ السّلام دليلٌ على أنّ النّارَ لا تَخلُق الإحراق، لو كانتِ النّارُ تَخلُقُ الإحراقَ وأنها بطَبِيعَتِها تؤثّر في ذلكَ لا بمشيئةِ الله وإرادتِه لاحْتَرقَ إبراهيمُ وما خرَجَ سَالِمًا، وإلى وقْتِنا هذا يوجَدُ أُناسٌ مؤمنُونَ أتقياءُ أولياءُ للهِ تعالى يَدخلُون النّارَ الموقَدَة فَلا تُحرقُهُم ولا ثيابَهم يَمكثُون فيها ما شاءَ اللهُ.

حَكَى لنا أحَدُ شيُوخِنا وهو الشّيخُ محمدُ سِراج رحمَه اللهُ تَعالى قال: كُنتُ بالسُّودان في نَاحيَةٍ تُسمَّى حَلْفَا([2]) فحَصَلَ اجتمَاعٌ حضَرَه أُناسٌ وحَضَرهُ شَخصٌ ينتَسِبُ للطّريقَةِ القَادِريّةِ وشَخصٌ ءاخَرُ ينتَسِبُ للطّريقَةِ التّجَّانيّة، الشّخصُ المنتَسِبُ للطّريقةِ التّجّانيّةِ مُدّعٍ فَارغٌ تبَجَّح بطَريقتِه لأنّه تجّانيّ فصَارَ يَدعُو النّاسَ في هذا المجلِس إليها ليَدخُلوا في هذه الطّريقةِ فاغتَاظَ هَذا الرّجُلُ القَادريُّ وهوَ مِن أولياءِ الله، غضِبَ للهِ تبارك وتعالى لأنّهُ يَعلَمُ أنّ هذه الطّريقةَ التّجّانيّةَ مخالِفَةٌ لشَريعةِ اللهِ وفيها دَعَاوَى مَا أنزلَ اللهُ بها مِن سُلطَانٍ مِن جملَتِها أنّهم يقولونَ: “الواحِدُ بمجَرّد مَا يَأخُذُ طَريقتَنَا صَارَ أفضَلَ مِنَ القُطْبِ مِن غَيرِنا”، هنا خالَفُوا كتابَ اللهِ، اللهُ تعالى قالَ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ،13 سورة الحجرات.

هذه الطّريقةُ جَعَلتِ الفَضْلَ بالانتِسَابِ إلَيها ليسَ بالتّقوى. فهذا القَادريُّ الذي هوَ مِنْ أوليَاءِ اللهِ غَضِبَ للهِ تَعالى لأنّهُ وَجَد هَذا يَدعُو لطَريقَتِه الفَاسِدَةِ فقَال لأهلِ الضّيْعَةِ: يا جماعَةُ امتَحِنُونا، ومعرُوفٌ في تلكَ البلادِ أنّ الامتِحَانَ قَد يكونُ بإيقادِ نَارٍ عَظِيمَةٍ ثم دخُولِ الشّخصِ الْمُمتَحَنِ فيها فأَوقَدُوا نارًا عظِيمَةً، القَادِريُّ الذي هوَ منَ الصّادقينَ مِنْ أولياءِ الله مِن أهلِ الكرامَاتِ جَاءتْهُ إشَارةٌ أنّ هذه النّارَ لا تؤثّرُ فيهِ فدَخَلَ فيها فنَادَى وهوَ في وسَطِها هذا التّجّانيَّ الدّجّالَ قالَ لهُ: تَعالَ ادْخُلْ فلَم يَجرُؤ، خرَجَ مِن هذه القَريةِ وهوَ مَخْزِيٌّ، فعرَف النّاسُ أنّ هذهِ الطّريقَةَ ليسَت على شىءٍ وأنّ المنتَسِبينَ لها كاذِبُونَ لَيسُوا مِن أولياءِ الله، فهذا الصُّوفيُّ القَادِريُّ لم يَحتَرق، وغَيرُ ذلكَ حَصَلَ لخَلائقَ لا يُحصَونَ أنّهم دخَلُوا النّارَ فلَم يَحتَرِقوا.

فهذَا دليلٌ نصَبَهُ اللهُ تَعالى ليَزدادَ المؤمنُ إيْقانًا بأنّ اللهَ تعالى هو خالقُ كُلّ شَىء، هو خالِقُ الاحتراقِ إثْرَ مُماسَّةِ النّارِ ليسَت النّارُ تَخلُق الاحتِراقَ، كذَلكَ السُّمُّ الذي هوَ مِن شَأنِه أنّه يَقتُلُ مُتَناوِلَهُ في الحالِ ليسَ هوَ خَالقَ الموتِ إثْرَ تَناوُلِه بل اللهُ تَعالى هوَ يَخلُقُه، فإنْ لم يشَإ اللهُ تَعالى في الأزَلِ أن يموتَ شَخصٌ بتَنَاولِه للسُّمّ القَاتِل لا يَقتلُه هذا السُّمُّ لأنَّ اللهَ لم يَشأ، والسُّمّ لا يؤثّرُ بطَبْعِه الموتَ لمتَناوِلِه، هَذا خَالدُ بنُ الوَلِيد رضيَ اللهُ عَنهُ كانَ بالحِيْرةِ وهناكَ كَانَ كُفَّارٌ مِن كُفّارِ العَجَم فهَيّؤوا لهُ سُمّا قَاتِلًا لسَاعَتِه فقالَ لهم: هاتُوا، فتنَاولَه وسَمَّى اللهَ تَعالى فلَم يؤثّرْ فيهِ شَيئًا بَل سَالَ العرَقُ على وجْهِه، على جَبْهَتِه، فلَمّا شَاهَدوا ذلكَ أي أنّهُ لم يمُتْ مِن هذا السُّمّ هَابُوه فانقَادُوا له، هذه دَلائلُ عِيَانيَّةٌ نَصَبَها اللهُ تَعالى لعِبَادِه حتى يَزدادَ المؤمنُونَ إيقَانًا بأنّهُ لا خَالقَ إلا الله، أي أنّ الأسبَابَ العاديّةَ الماءَ والخبزَ والنارَ والدّواءَ وغيرَ ذلكَ منَ الأسباب العاديّة لا تَخلُق مُسبَّباتِها وأنهُ لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا الله، أي أنّ شيئًا منَ الأشياء منَ الأسباب العاديّةِ لا يَظهَرُ منها مسبّبَاتُها إلا أن يكونَ اللهُ شاءَ في الأزل أن يحصُلَ المسبَّبُ إثرَ هذا السّبَب، لأنّ السّبَبَ لا يَخلُق ذلكَ المسبَّبَ إنّما اللهُ هوَ خَالقُ ذلكَ المسبَّب زيادةً في الإيقانِ بأنّ اللهَ تَعالى هوَ خالقُ كلّ شىء وأنّ الأسبابَ العاديّةَ لا تَخلُق إنّما اللهُ تعالى يَخلُق إثْرَ استعمالِها ذلكَ المسبَّبَ.

فاللهُ تبارك وتعالى قال: :{اللهُ خَالِقُ كُلّ شَىء}  وكلمةُ شىءٍ ليسَت خاصّةً بالأجسَام، الكلامُ يُقالُ لهُ شَىءٌ والبَطْشُ أيضًا باليَدِ شَىءٌ وتنَاولُه يُقالُ لهُ شَىءٌ واللَّمْحُ بالبَصَر يُقالُ لهُ شَىءٌ، حتى الأعمالُ القَلبيّةُ يُقالُ لها شَىء، كُلّ ما دخَل في الوجُود يُقال لهُ شَىء، وكلُّ موجُود أيضًا يُقالُ لهُ “شَىء”، الموجودُ الأزليُّ يقالُ لهُ “شَىء” وهوَ اللهُ، اللهُ تَعالى يُقَالُ لهُ شَىءٌ لكن لا بمعنَى الحادِثِ الذي دخَلَ في الوجُودِ بل بمعنى الموجُودِ، كَلِمَةُ “شَىءٍ” هيَ للمَوجُودِ وإنْ كانَ هذا الموجُودُ أزليًّا لم يَسبِقْه العَدَم وهوَ اللهُ وصفاتُه، عِلمُه وقُدرتُه ومشيئتُه وحَياتُه وسمعُه وبصرُه ورؤيتُه وغيرُ ذلك مِن صفاتِه، فكلمةُ شىءٍ تَشمَلُ الموجودَ الأزليَّ وهوَ اللهُ وصِفاتُه عِلمُه وقُدرتُه ومشيئتُه أي إرادتُه، فلْيُعلَم ذلكَ وليُعلَّمِ الذي يجهَلُ هذا.

وفي القرءانِ الكريم دليلٌ على أنّ اللهَ يُطلَق عليهِ شَىءٌ بمعنى مَوجُودٌ : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} 19 سورة الأنعام.أي اللهُ تَعالى هو أكبَرُ شَىءٍ شهَادَةً، سمَّى نَفسَه شَيئًا بمعنى الموجُودِ لا بمعنى الحادِث، هنَا المصِيبَةُ لِكَثِيرٍ مِنَ النّاسِ تَأتيْهِم مِن جَهلِهم باللّغةِ، واللهُ تبارك وتعالى قال: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 16 سورة الرعد. وقولُه شَىءٍ يَشمَلُ حرَكاتِ العِبادِ وسكَنَاتِهم وأجسَادِهم، لا يخرجُ مِنْ كلِمَةِ شَىءٍ في هذهِ الآيةِ كُلُّ مَوجُودٍ دَخَلَ في الوجُودِ بعدَ أن كانَ مَعدُومًا.وهناكَ ءاياتٌ دلَّتْ على أنّ الأعمالَ القَلبِيّةَ أيضًا مخلوقَةٌ للهِ تعالى قالَ اللهُ تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} 110 سورة الأنعام. دَلّت هذه الآيةُ على أنّ تَقلِيبَ العبادِ أبصَارَهم وتحرّكاتِ قلُوبِهم وتَقَلُّبَاتِها مِن حَالٍ إلى حَالٍ كُلُّ ذَلكَ بخَلقِ اللهِ تَباركَ وتَعالى، كانَ مِن دُعَاءِ رسولِ الله ﷺ: «اللّهُمَّ مُصَرّفَ القلُوبِ صَرّفْ قلُوبَنا على طَاعَتِكَ» رواه مسلم والبيهقي والحاكم وغَيرُهم.

الرّسُولُ قالَ هَذا بَعدَ أنْ قالَ: «إنّ قلُوبَ بَني ءادمَ بَينَ إصبَعَينِ مِن أصَابِعِ الرّحمَنِ يُقلّبُها كَيفَ يَشَاءُ». قولُهُ «إصبَعَينِ مِن أصَابِع الرّحمن» بمعنى التّقريبِ أي أنّ اللهَ تَعالى هو يتَصرَّفُ فيها مِن غيرِ أن يَلحَقَه تعَبٌ ومَشقَّةٌ، كَيفَ يشَاءُ يُقلّبُها مِن غَيرِ أن يَلحَقَه تعَبٌ بل بمَحْضِ إرادَتِه الأزليّةِ وقُدرَته الأزليّةِ يُحدِثُها مِنَ العدَم إلى الوجُود، معنى بَينَ إصبَعَينِ مِن أصَابِع الرّحمَن أنّها في قَبضَتِه، أنّ قلُوبَ العبادِ في قَبضَتِه لا تَخرُجُ عن قَبضَتِه، لا تَخرُجُ عن مَشِيئَتِه، هو يتَصَرّفُ فيها كيفَ يشَاءُ أي على حَسَبِ مَشِيئَتِه في الأزَل، ليسَ متَجَدّدًا على اللهِ تعَالى عِلمُ ذلكَ، هو عَلِمَ في الأزلِ وشَاءَ تقَلُّباتِ القلُوبِ، القَلبُ يتَقَلَّبُ أكثَرُ مِن تَقَلُّب البَصَر، أسرَعُ تقَلُّبًا مِن تقَلُّبِ البصَر، هوَ خالِقُ ذلكَ كُلِّه.

هذا معتَقَدُ أهلِ الحقّ الصّحابةِ ومَن تبِعَهُم بإحسَانٍ إلى يومِ الدّينِ ثبّتَنا اللهُ على ذلك وحفظَنا منَ الميْلِ إلى خِلافِ ذلك، لأنّ الإنسانَ في هذه الحياةِ عُرضَةٌ للتّقلُّباتِ والتّغَيراتِ فرُبَّ إنسانٍ كانَ على حَالةٍ حسَنَةٍ يجتَمِعُ بإنسَانٍ مِن هؤلاء مِن أهلِ الزَّيغ والضّلال مِن معتزلةٍ فيَسمَعُ مِنْ أحَدِهم هذا الكلامَ الذي هو عَكسُ مَا عليهِ الصّحابَةُ والتّابِعُون، يَسمَع منهم أنّ العَبدَ هو يَخلُق حَركاتِه وسكَناتِه فيَعتقِدُ هذا الاعتقادَ فيَضِلُّ.

فالإنسانُ في هذه الحياةِ الدّنيا عُرضَةٌ للتّقلُّباتِ والتّغَيُّراتِ مِن حالٍ إلى حال، فمِنَ الناس مَنْ وفَّقَهُمُ اللهُ تَعالى فيَتقَلَّبُونَ مِن حالٍ حسَنٍ إلى أحسَنَ، مِن حَسَنٍ إلى أحسَنَ حتى يتَوفّاهُمُ اللهُ وهُم على أحسَنِ حالٍ، ومِنَ النّاسِ مَنْ يَنْقَلِبُونَ مِن حَسَنٍ إلى سَيّءٍ ثم إلى أسوَأ ثم إلى أسوأَ حتى يَموتُوا وهم على أسوَإ أحوالِهم.

ثم هؤلاءِ أهلُ الاعتزالِ بعدَ أن ظهَروا بينَ المسلمينَ بعَددٍ قليلٍ كانَ بَدْؤُه قَليلًا جِدًّا، هم فهِموا بعضَ الآياتِ القرءانيةِ على غَيرِ وَجهِها فهلَكُوا، ثم دَعا هؤلاء غَيرَهم إلى هذا الاعتقادِ الذي هو ضَلالٌ وهَلاكٌ فتَبِعَهُم مَن أغواهُمُ اللهُ تَباركَ وتَعالى، أمّا الذينَ حفظَهُمُ اللهُ فَهُم مَحفُوظُونَ، هؤلاءِ المعتَزلَةُ تكَلَّم فيهِم رِجَالٌ مِنْ أعْلام السّلَف كعمرَ بنِ عبدِ العَزيز رضيَ اللهُ عَنهُ هوَ كانَ رأيُه في هؤلاء المعتزلةِ أن يُدعَوا إلى التّوبَةِ أي التّخَلّي عن هذا الاعتقادِ وإلا تُضرَبُ أعنَاقُهم.

كانَ رجلٌ في عهده يُسمّى غَيلانَ الدّمشقيَّ مُعتَزليّ كانَ يَدعُو إلى الاعتزالِ فاستَدعاهُ لما أُخبِرَ بشَأنِه أنّه يَدعُو إلى هذه العقيدةِ الفَاسِدَةِ فاستَتابَه فأَظهَرَ التّوبةَ فترَكَه مِنَ القَتْل لأنّهُ أظْهَرَ الرّجُوعَ، ثم بعدَ وفاةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز رجَعَ إلى ما كانَ عليه، كانَ رأسًا مِن رؤوس الاعتزالِ فقتَلَه بعضُ الوُلاة الأمويّينَ بعدَ ذلكَ([3])، بعدَ عمرَ بنِ عبد العزيز، ولهُ أي لعمرَ بنِ عبد العزيز رسالةٌ في الردّ على المعتزلةِ وكذلكَ لأناسٍ ءاخَرِينَ مِن أعلام السّلَف مِنْ جُملَتِهم أبو حنيفةَ فإنّهُ كانَ شَديدَ الاعتِنَاءِ بالرّدّ علَيهِم حتى إنّهُ سَافرَ مِن بغدَادَ إلى البَصرَة وبينَهُما مَسَافَةٌ واسِعَةٌ لِدَحْضِ أبَاطِيلِهم ونَقْضِ شُبَهِهم وتَمويهاتِهِم أكثرَ مِنْ عِشرِينَ مَرّةً، هكَذا كانَ السّلَفُ الصّالحُ رضيَ اللهُ عَنهُم، في ذلكَ العصر الذي لم يكن فيهِ مِن أسبَابِ التّنَقُّلاتِ العَاديّةِ إلا ركوبُ الدّوَابّ، تَكلَّفَ هذه المشَاقّ لوجْهِ الله تعالى ونُصرَةِ دِينِه محَافظَةً على سُنّةِ رسولِ الله جَزاهُ اللهُ عن المسلِمينَ خَيرًا، ليسَ لدَحْضِ هؤلاءِ المعتَزِلَةِ فَقَط بل كانَت البَصرةُ فيها أصنَافٌ مِنَ الضّالّينَ، المعتزلةُ كانُوا فيها وأهلُ الإرجَاءِ كَانُوا فيها وبعضُ الملاحِدَةِ المشَكّكِينَ في الإسلام للنّاسِ كانُوا فيها، كانَت رحَلاتُه هذه بقَصْدِ دَحْضِ هؤلاءِ الفِرَقِ كُلِّها، اللهُ تَبارَك وتعالى ءاتَاه قُوّةً في الجَدَل وقُوّةً في البَيان.

فالصّحَابةُ كانوا يَعتَقِدُونَ أنّ الخالقَ لا يُشبِهُ شَيئًا عَمَلًا بالدّليلِ العَقلِيّ والدّلِيلِ القُرءانيّ، أمّا الدليلُ العَقليُّ فهوَ أنّ الخَالقَ لا يجُوز عَقلا أن يُشبِهَ مَخلُوقَه بوَجْهٍ مِنَ الوجُوه لأنّهُ لو كانَ يُشبِهُ مَخلُوقَه بوَجْهٍ مِنَ الوجُوه لجَازَ علَيهِ مَا يجوزُ على سائرِ المخلوقِ مِنَ الموت والتّغَيرِ والضّعْفِ وذلكَ يُنَافي الألوهيّةَ، وأمّا الدّليلُ القُرءانيُّ فقَولُه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ} نفَى اللهُ تَبارك وتعالى عن نَفسِه أن يُماثِلَه شَىءٌ سِوَاه.

بَعدَ عَقْدِ القَلب على هذا لهم حَالٌ خَصّهُم اللهُ تَبارك وتعالى بهِ وفَضّلَهم على غَيرِهم مِن أهلِ التّشبِيه وهو أنّهم إذا مَرُّوا بآيةٍ قُرءانيّةٍ أو حَديثٍ نبَويّ ظاهِرُه يوهِمُ أنّ اللهَ يُشبِهُ شيئًا مِن خَلقِه لا يعتَقِدونَ أنّ هذا الذي يُوهمُه ظَاهرُ النّصّ القرءانيِّ أو الحَدِيثيّ مُرادٌ للهِ تَباركَ وتَعالى، بل يعتقدونَ أنّ هذه الآيةَ لا تُحمَلُ على ظَاهرِها، وأنّ هَذا الحديثَ لا يُحمَلُ على ظاهِره ، حتى لا يَخرُجوا عن مقتَضى قولِه تَبارك وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ}

فالمسلِمُ الذي اعتِقَادُه مَبنيٌّ على التّنزيهِ ثَابتٌ على ذلكَ، إذا مَرَّ على ءايةِ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لا يُفَسّرُها بشَىءٍ يُشبِه أحْوالَ المخلُوقِ كالجلُوسِ والاستِقرار، بل يَحمِلُه على القَهْرِ لأنّ القَهرَ صِفةٌ مِن صِفَاتِ الله، مِن صِفاتِ الكَمالِ للهِ تَبارك وتعالى، هوَ وَصَفَ نَفسَه بأنّهُ قَهّارٌ لأنّ القَهرَ مِنَ الصّفاتِ الدّالّةِ على الجَلالِ والعَظَمَة، يُفسِّرُ الاستِواءَ على العَرشِ بالقَهرِ أي أنّهُ قاهرُ العَرشِ فإذَا كانَ قاهِرًا للعَرشِ فهوَ قَاهرٌ لكُلّ شَىءٍ لأنّ العَرشَ أعظَمُ المخلُوقاتِ مِن حيثُ المِسَاحَة.

سُئِلَ الشَّيخُ: ما هيَ فائدةُ العَرش ولِمَ خلَقَه الله؟

فقال الشَّيخُ: قال عليّ رضيَ الله عنه: “إنّ اللهَ خلَقَ العرشَ إظْهارًا لقُدرتِه ولم يتّخِذْه مكَانًا لذاتِه” الملائكةُ الذينَ هم حولَه والذينَ هُم حامِلُو هذا العَرشِ الذينَ هُم في عُظْم الخِلقَة لا مَثِيلَ لهم بينَ عبادِ الله تعالى أحَدُهم ما بينَ شَحمَةِ أذُنِه إلى عاتقِه مسِيرَةُ سَبعِمائةِ عَام فهؤلاء يَزدادُون تَعظيمًا لربّهم وإيقانًا بكمالِ قُدرتِه لما يرَونَ هذا العَرش.

سُئِلَ الشَّيخُ: المخلوقاتُ المرئيّةُ بالنّسبَة للإنسانِ هل هيَ دليلٌ على عظَمَةِ الخالِق أكثرَ منَ الأشياءِ الغَير مَرئيّةٍ كالعرش مثَلًا؟

فقال الشَّيخُ: كلُّ مَا نراهُ دليلٌ على قُدرةِ اللهِ ووجُودِه لكنْ بعضُ الأشياء أعظَمُ دِلالةً على ذلكَ مِن بَعض، هؤلاء الملائكةُ لما يَنظُرون إلى ذلكَ الجِرم العَظِيم يزدادُونَ إيقانًا بكمالِ قُدرةِ الله، هم مُوقنُونَ لو لم يرَوُا العرشَ هم مُوقنُونَ بكمالِ قُدرةِ الله لكنْ لهم في رؤيتِهم لذلكَ العَرشِ مَزيدُ إيْقانٍ بكَمالِ قُدرةِ الله، وكذلكَ إذا مَرَّ عليه هذا الحديثُ: «إنّ قلُوبَ العِبادِ بَينَ إصبَعَينِ مِن أصَابِع الرّحمَن» لا يَعتَقِدُ أنّ للهِ تعالى جارحةً أي جِسمًا إنّما يحمِلُه على المعنى الحسَن وهو أنّ القلُوبَ في قَبضَةِ اللهِ تعالى (أي في تَصَرُّفِه) لا تَخرُجُ عن مَشِيئَتِه وإرادَتِه، هَذا مَعرُوفٌ عندَ العَرب القُدمَاء، العربِ الفُصَحَاءِ الذين نزَلَ القرءانُ بلِسانهِم، أساليبُ اللّغةِ التي هيَ مِن بابِ المجَاز والكِنايةِ مَعرُوفةٌ عندَهم، معلُومةٌ لهم سلِيقَةً وطَبْعًا.

ومِن ذلكَ ما رواه البيهقيُّ بإسنادِه عن عمرَ بنِ الخَطّاب أنّهُ كانَ كثيرًا ما يقولُ على المنبرِ هذَين البَيتَينِ: (السَّرِيع)

خَفّضْ علَيكَ فإنّ الأمورَ                بكَفّ الإلهِ مقَادِيرُها

فلَيسَ بآتِيْكَ مَنهِيُّها                    ولا قاصِرٌ عَنكَ مَأمُورُها

“خَفّضْ علَيكَ” ويُروَى “هَوّنْ علَيكَ، فإنَّ الأمُورَ بكَفّ الإلهِ مقَادِيرُها” هنا عمرُ ابنُ الخَطّاب ما كانَ يَفهَمُ مِن كلِمةِ “بكَفّ الإله” أنّ اللهَ تَعالى جِسمٌ لهُ كَفٌّ بالمعنى العُرفيّ الذي هوَ مَألُوفٌ بينَ البشَر، إنّما المعنى الذي يَفهَمُه مِن هذا أنّ الأمورَ في قَبضَةِ اللهِ تعالى أي أنّ تقَلُّباتِ الأحوالِ التي قَد تَجري على العبادِ في قَبضَةِ اللهِ تبارك وتعالى يتَصرّفُ فيها كيفَ يشَاءُ، هذا معناهُ الذي كان يعتَقدُه عمرُ ليسَ معنى التّجسِيم أي أنّ اللهَ تَعالى لهُ كفٌّ بمعنى الجارحَةِ، الجارحَةُ للعِبادِ أمّا الخالِقُ مُنزَّهٌ عن الجَوارح كمَا قالَ الطّحَاويّ.

قالَ: “فَلَيسَ بآتِيْكَ مَنهِيُّها” معناهُ لا يَأتيْكَ أيّها الإنسانُ الشّىءُ الذي قدَّرَ اللهُ تَعالى أنْ لا يصِلَ إليكَ، الأمورُ التي أخطَأتْكَ فإنّ اللهَ تَبارك وتعالى شاءَ أن لا تُصيبَك، “ولا قاصِرٌ عنكَ مَأمورُها” أي لا بُدّ أن تَنالَ مَا قَدَّرَ اللهُ تعالى أنّهُ يَصِلُ إليكَ، فإذا كانَ الأمرُ هكَذا “هوّنْ علَيكَ” معناهُ لا تُكَثّرْ همَّك كُنْ واثقًا بأنّ اللهَ تَباركَ وتعالى يُوصِلُ إليكَ ما قَدّرَ أن يصِلَ إليكَ وكُن عالِمًا وجَازمًا بأنّهُ لا يَصِلُ إليكَ مَا لم يشإ اللهُ تعالى أن يَصِلَ إلَيكَ.

سُئِلَ الشَّيخُ: أليسَ في هَذا دَعوَى إلى التّكَاسُل؟

فقال الشَّيخُ: ليسَ فيه دَعوَى إلى التّكَاسُلِ عن العَمَل. عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ الذي كانَ يقولُ هَذا على المنبَر كَثيرًا، منبرِ رسولِ الله، كانَ مِن أشَدّ النّاسِ اجتِهادًا في خِدمَةِ النّاس، إنّما المقصُودُ أنْ لا يُكثِرَ الإنسَانُ الهمَّ أي لا يَشغَلَ فِكْرَه بل يَبقَى ويَثبُتَ على الإيقانِ بأنّهُ لا بُدَّ أن يُصيبَه ما قَدّرَ اللهُ منْ منَافعَ وغَيرِها وأنّهُ لا يُصيبُه ما لم يقدّر اللهُ أن يُصِيبَه، هذا أمرٌ يَرجِعُ إلى الاعتقَادِ.

ثم رَوَى البيهقيُّ رحمه الله عن أبي جعفر الصّادقِ محمّدِ بنِ عليّ الباقِرِ عن أبيهِ قال قال أبي الحسينُ بنُ عليّ بنِ أبي طالب رضي الله عنهم: واللهِ ما قَد قَالت القدريّةُ بقَولِ اللهِ ولا بقَولِ الملائكةِ ولا بقَولِ النّبيّينَ ولا بقَولِ أهلِ الجنّةِ ولا بقولِ أهلِ النارِ ولا بقولِ صاحبِهم إبليسَ، فقالوا له تُفسّرُه لنا يا ابنَ رسولِ الله، فقال قال اللهُ عزَّ وجَل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} الآيةَ 25 سورة يونس.

هذه الآيةُ تدُلُّ على أنّ اللهَ تَباركَ وتعالى هو خالقُ أعمالِ العبادِ ليسَ العِبادُ خَالقِي أعمالهِم، القَدَريّةُ خالَفُوا هذه الآيةَ بقولهِم نحنُ نَخلُق أعمالَنا اللهُ ما لهُ تصَرُّفٌ بعدَ أن أعطانَا القُدرةَ على أعمالِنا هو لا يستطيعُ أن يخلقَ حركَاتِنا وسَكنَاتِنا، قالوا بعدَ أن أعطانَا القُدرةَ علَيها صارَ عاجزًا، بهذا خالَفُوا هذهِ الآيةَ لأنّ اللهَ تَعالى يقول: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي أنّ اللهَ تعالى هو الذي يَخلُق في عبادِه الحركاتِ إلى الطّاعة، الإيمانُ هو يَخلُقُه فيمَن شَاءَ والطّاعاتُ هو يخلقُها فيمَن شَاءَ مِن عبادِه أمّا هُم خالَفُوا هذا قالوا العَبدُ يَخلُقُ بل كُلُّ ذَوي الأرواحِ عِندَهم يَخلُقُونَ أعمَالَهم، هذا وَجْهُ مُخَالفَتِهم للآيةِ.

وقالَتِ الملائكةُ: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 32 سورة البقرة .هنا تُبَيّنُ لنَا الآيةُ أنّ الملائكةَ يعتقدونَ أن أعمالَ العبادِ بخَلق الله لا بخَلقِ العبادِ، فإنّ الملائكةَ فَوَّضُوا العِلمَ إلى الله تباركَ وتعالى، أي أنّهُ تعالى هو الذي يَخلُق فيهم العلومَ التي وصَلَت إليهم وأنّهم ليسُوا خَالقِيْها: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} معناهُ المعلومَاتُ التي لنَا أنتَ خَلَقتَها فينَا لسنَا نحنُ خالقِيْها، لا نَستطيعُ أكثرَ مما أنتَ أعطَيتَنا مِنَ العُلوم، والمعتزلةُ خالَفُوا هذا لأنّ مِن عقيدةِ المعتزلةِ أنّ العبدَ هو يخلقُ العلومَ والإدراكاتِ فتبَيّنَ بهذا أنّهم مخَالِفُونَ لقَولِ الملائكةِ كمَا أنّهم مخَالِفُونَ لقولِ اللهِ تَعالى إخبارًا عن نوحٍ عليهِ السّلام أنّه قال: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} الآيةَ 34 سورة هود.

هذا بيانٌ لقولِ الحسينِ بنِ عليّ رضي الله عنهما، هو يُبَيّنُ وَجْهَ مخَالفَةِ القدَريّةِ لقَولِ النّبيّينَ حَيث قالَ نُوحٌ علَيهِ السّلامُ لقَومِه الذينَ هُم كَذّبُوهُ وكَفَروا بهِ وباللهِ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} هذا أيضًا فيهِ إثباتُ أنّ اللهَ تَعالى هو خَالقُ أعمالِ العِبَادِ، لو لم يكن اعتقادُ نَبيّ اللهِ نُوحٍ ذلكَ مَا قالَ هَذا لكنّ هذا اعترافٌ منهُ بأنّ اللهَ تَعالى هوَ خَالقُ أعمالِ العباد قال: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} نَصَّ نوحٌ عليهِ السّلامُ على أنّ اللهَ تَبارك وتعالى هو خَالقُ أعمال العبادِ خَيرِها وشَرّها وأنّ غَوايَةَ الغَاوِينَ مِن عبادِه فهي بخَلقِ الله تَبارك وتعالى وأنّ غَوايَة الغَاوينَ مِن العبادِ فإنّما تقَعُ بمشيئَةِ الله لأنّهُ عليه السلام قال: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ معناهُ إنْ كانَ اللهُ شاءَ في الأزل أن تَكونوا غَاوِينَ باختِياركم فتَكونوا مُنسَاقِينَ إلى الغَوَايَةِ والضّلالةِ باختِيَارِكُم فمَن يمنَعُ مَشيئةَ الله منَ النّفَاذِ أنَا لا أستَطيعُ أن أمنَعَ نفَاذَ مشيئةِ الله فيكُم، ومع ذلكَ هو بما أنّه مأمورٌ بأنْ يَدعُوهم إلى الإيمانِ باللهِ وبرَسُولِه نُوحٍ الدّاعِي لهم إلى اللهِ بلَّغَ، ظَلَّ يَدْعُوهُم ألفَ سَنةٍ إلا خَمسِينَ عَامًا، ظَلَّ يَدعُوهُم إلى الإيمانِ والإسلام وهم عاكفُونَ على عبادةِ الأوثانِ لم يَتْبَعْه منهم إلا قَليلٌ منَ البشَر، هَذا فيهِ دِلالَةٌ على أنّ اللهَ تَباركَ وتَعالى لا يَحصُل شَىءٌ مِن أعمالِ العبَادِ خَيرِها وشَرّها إلا بمشيئةِ اللهِ أي بتَخصِيصِ اللهِ، الذي يُحبُّه اللهُ مِن أعمَالِنا فهوَ بمشيئَتِه أي بتَخصِيصِه والذي يَكرَهُهُ مِن أعمَالِنَا فهوَ بمشِيئَتِه وتَخصِيصِه يَدخُلُ في الوجُود، لا فَرقَ في ذلكَ، إنّما الفَرقُ أنّ أعمَالَنا التي أَمَرَنا بها على أَلسِنَةِ أنبيَائِه يُحبُّها وأعمَالَنا التي يَكرَهُها هوَ لا يُحبُّها، هنَا الفَرقُ، أمّا مِن حَيثُ المشيئةُ أي التّخصِيصُ فلا فَرقَ بَينَ أعمَالِنا الحسنَةِ وبينَ أعمَالِنا السّيئَةِ التي هيَ المعاصي والضّلالاتِ والغَوايَاتِ، وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}

فأمّا موسَى عليه السّلام فقال: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 155 سورة الأعراف. لَو لم يكن في القرءانِ إلا هَذه الآيةُ لكانَت حُجّةً دامغَةً لهؤلاء الذينَ يقولونَ اللهُ تعالى ما شاءَ مَعاصِي العبادِ أن تقَعَ وتَحصُلَ إنّما العبادُ هُم خَلَقُوها بدونِ مَشيئةِ اللهِ، هذه طَائفةُ القَدريّةِ الضّالّةُ تقولُ معاصِي العبادِ مِن كُفرٍ فمَا دُونَها حتى المكرُوهَاتُ عندَهم تَحصُل بدونِ مشيئةِ الله، والقَدَريّةُ على زَعمِهم اللهُ تعالى شاءَ أن يَهتديَ كلُّ العبادِ ولم يَشأ ما حصَل مِنَ الكفّارِ مِن كُفرٍ ومعاصِي وما حصَل مِن عُصاةِ المسلِمينَ مِن مَعاصيْهم مَا شاءَ دخُولَها في الوجودِ، معنى ذلكَ أنّ اللهَ مَغلُوبٌ يَجرِي في مُلكِه مَا لا يشَاءُ، والمغلُوبيّةُ تُنافي الألوهيّةَ.

الإلهُ مِن خَصائصِهِ أنّهُ غَالبٌ غيرُ مَغلوبٍ لا يقَعُ في مُلكِه مَا لا يشَاءُ حصُولَه ودخُولَه، كلُّ ما دخَلَ في الوجُودِ عَلِمنا أنّه بمشيئةِ اللهِ دخَلَ بما في ذلكَ مِن حَركاتِ العبادِ مِن خَيرٍ وحَركاتِهم مِن مَعاصي ونوايَاهُم كُلُّ ذلكَ لا يحصُلُ إلا بمشِيئَةِ اللهِ والمشِيئَةُ غَيرُ الأمرِ وغَيرُ المحبَّةِ والرّضَى، المشِيئَةُ مَعنَاها التّخصِيصُ، اللهُ تَبارك وتعالى خَصّصَ هَذه الأعمالَ التي تَحصُل مِنَ العِبادِ خَيرِها وشَرّها بالدّخُولِ في الوجُودِ بدَلَ أن تَبقَى في العَدم، هو العالَمُ بأَسرِه كانَ مَعدُومًا.

المعتزلةُ في تَمويهِهم على النّاس يقولونَ: كيفَ يشَاءُ ما لم يأمُر بهِ؟ فيُقالُ لهم: أليسَ عَلِم في الأزَل أنّ هؤلاءِ الكفّارَ يَكفُرون وأنّ هؤلاء العُصاةَ يَعصُونَ؟ أليسَ عالِمًا في الأزَل قَبلَ أن يَخلُقَ العَالَم أنّ ذلكَ سيَحصُل فهَل، مِن بُدٍّ مِن حصُولِ ذلكَ منهُم بَعدَ أن يُخلَقوا؟ فلَيس لهم مَفَرٌّ مِن أن يقُولوا لا بُدَّ، فيُقالُ لهم: كمَا أنّكُمُ اعترَفتُم بأنّهُ لا بُدَّ مِن حصُولِ ذلكَ لأنّ اللهَ علِمَ في الأزل أنّهُ يَحصُلُ مِنهُم كذلكَ قُولوا شاءَ أن يَحصُلَ منهُم وهو لا يحبُّه ليسَ لهم جَوابٌ.

فمَسئلةُ موسَى عليه السلامُ هيَ أَوضَحُ دليلٍ لأنّه قال: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} وبيَانُ ذلكَ أنّ موسَى لمّا ذهَبَ لميقاتِ ربّه (أي لمنَاجَاةِ ربّه) ثمّ خَلّفَ عليهِم أخَاهُ هَارونَ، خَلّفَ على قَومِه أخَاهُ هَارُونَ إلى أن يَعودَ، هَارونُ كانَ نبِيّا رسولا كما أنّ موسى نبيٌّ رسولٌ، اللهُ تَعالى أشركَه في النّبوةِ والرّسالةِ مع أخِيهِ موسى، استَخلفَه فيهم ففي مدّةِ غَيبَتِه أضَلَّهم شَخصٌ يُقالُ لهُ موسَى السّامريّ، صَاغَ عِجْلا جَسَدًا مِنْ ذهَبٍ ووَضَعَ فيهِ أثَرَ حَافِرِ فَرَسِ جِبريلَ فصَارَ يخُورُ هَذا العِجلُ مِثلَ العِجلِ الحقِيقيِّ ففتَنَهم بذلكَ قالَ لهم: “انظُروا هذا إلهُكم وإلهُ موسَى” فأطَاعَه بعضٌ مِن قَومِ موسَى الذينَ كَانوا مسلِمينَ وخَالفَه بعضٌ، فلَمّا رجَعَ موسى أُخبِرَ بما فعَلُوا فاغتَاظَ علَيهِمُ اغتِيَاظًا شَديدًا بحَيثُ إنّه ألقَى ألواحَ التّوراةِ التي كانت في يدِه مِن شِدّةِ غضَبِه عليهم، ثمّ اللهُ تَعالى أَوحَى إليهِ أنْ يَختارَ مِنهُم سَبعينَ رجُلًا فاختَارَ سَبعينَ رجُلًا فأخَذَتهمُ الرّجْفَةُ، اهتَزّتْ بهمُ الأرضُ، قال موسى متَضَرّعًا إلى اللهِ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الشّاهدُ في قولِ موسى تُضِلّ بها مَن تَشاءُ. هذا دليلٌ صَريحٌ أنّ اللهَ تَعالى شاءَ ما يَحدُث مِنَ العبادِ مِن الكُفرِ والفسَادِ، وهوَ لا يُحبُّه ولم يَأمُر بهِ لكنْ شاءَ وقُوعَه أي خَصّصَه بالوجُود، أي لولا أنّهُ خصّصَه بالوجودِ ما دخَل في الوجود، اللهُ تَعالى شاءَ دخُولَه في الوجودِ فدخَلَ في الوجود، هذا أكبرُ دَليلٍ، هَذا يرُدُّ على هؤلاء الذين حرّفوا ءاياتٍ قُرءانيةً فجعَلُوها على المعنى الذي يوافِقُ مُعتقَدَهمُ الفاسِدَ.

فالمعتزلةُ يقولونَ أيضًا في قولِه تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} 31 سورة المدثّر. يقولونَ يَشَاءُ هوَ أي العَبدُ، يَقولونَ إنِ العَبدُ شاءَ الضّلالةَ يُضلُّه اللهُ وإنِ العبدُ شاءَ الهُدَى يَهديْه اللهُ عكَسُوا الحقيقةَ، واللهُ تَبارك وتعالى يَعني بقَولِه “يُضِلُّ اللهُ مَن يشَاءُ” هوَ أي اللهُ لا يَعني مَن يَشاءُ هوَ أي العَبدُ، الضّميرُ في يشَاءُ عَائدٌ إلى الله، كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} يعُودُ إلى لفظِ الجلالةِ، {مَنْ يَشَاءُ} هوَ أي اللهُ  وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هو أي اللهُ، الضّميرُ إلى اللهِ يَعودُ، هؤلاء جعَلُوا الضّمِيرَ عَائدًا إلى العَبدِ ليتَوصَّلُوا إلى مُعتقَدِهمُ الفَاسِدَ.

فقَولُه: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} يَفضَحُهم، لأنّ فيهِ مَا هوَ صَريحٌ لا يحتَمِلُ التّأويلَ لا ظَاهرًا ولا حقِيقَةً، موسى مَن يُخاطِبُ بقَولِه: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} يُخاطِبُ اللهَ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} أنتَ يا اللهُ، تُضِلّ أنتَ يا اللهُ مَن تشَاء، هنا المعتزلةُ يَنقَطِعُونَ وكذلكَ مَن أخَذَ برَأيِهُم الفاسِد.

وقالَ الباقرُ رضيَ اللهُ عنه فيمَا يَرويهِ عن أبيهِ الحسَينِ بنِ عليّ بنِ أبي طالبٍ:وأمّا أهلُ الجنّةِ فإنّهم قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 43 سورة الأعراف. فيه اعترافٌ مِن أهلِ الجنّة لأنّهم أسنَدُوا خَلقَ أعمَالِهم إلى اللهِ فبَطَل كلامُ القَدريّة، بطَلَ قَولهم العبدُ يَخلُق أفعالَ نَفسِه وأنّ اللهَ لا تَصرُّفَ لهُ في ذلكَ بَعدَ أن أعطَاهمُ القُدرةَ، فهذا مخالفَتُهم لأهلِ الجنّة.

قالَ وأمّا أهلُ النّار فإنّهم قالُوا: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} في جهَنّم يقولونَ لو هدَانا اللهُ لهدَينَاكُم، معناه أنّ الكفرَ الذي ارتَكبُوه باختيارهِم بمشيئةِ الله وأنّ اللهَ تعالى خصّهُم بالضّلالِ مَا خَصّهُم بالهدى، لو خَصَّهُم بالهُدَى لاهتَدَوا كما اهتَدى غَيرُهم منَ المؤمنينَ، هنا أيضًا ظهَرت مخَالفَةُ المعتزلةِ لأهلِ النّار لأنّ المعتزلةَ قالوا اللهُ شاءَ الاهتداءَ للجَميع لكن قِسمٌ مِنَ العبادِ خَرجُوا عن مشيئتِه.

سُئِلَ الشَّيخُ: أهلُ النارِ يُخاطِبُونَ مَن؟

فقال الشَّيخُ: يخاطِبُون بعضَهم بعضًا لأنهم قَادةٌ وأتبَاعٌ، فِرعونُ قائِدٌ إلى الضّلالِ ولهُ أتْباعٌ، القَادَةُ تَقولُ: لو هدَانا اللهُ لهدَينَاكُم.

قال الحسينُ رضي الله عنه: وأمّا أخُوهم إبليسُ { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} 16 سورة الأعراف. إبليسُ اعتَرفَ بأنّ اللهَ هوَ أغواهُ وأنّ غَوايتَه هذه بخَلقِ اللهِ لم يَخلُقْها إبليسُ، إبليسُ صارَ أفقهَ مِنَ المعتزلةِ لأنّهُ اعتَرفَ بالحقيقةِ أنّ اللهَ هو خالقُ الغَوايَةِ كمَا أنّه خالقُ الهُدَى {قَالَ}  أي يا ربِّ {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} أي بإغوائك إيّايَ {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} أي لبَني ءادمَ {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي لأصرِفَهُم عنه.

سُئِلَ الشَّيخُ: قولُه تعالى: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (163) سورة الأنعام. هل نستَطيعُ أن نُبدّل “أوّلَ” بمِنَ لأنّنا لَسنا أوَّلَ المسلمين؟

فقال الشَّيخُ: الذي في القرءانِ حِكايةٌ عن سيّدِنا محمدٍ قُلْ أي يا محمّدُ، سيّدُنا محمّدٌ هوَ أوّلُ المسلمِينَ أي في أُمَّتِه، أوّلُ مَن كانَ بصِفَةِ الإسلام بعدَ أن انقَطَع الإسلامُ مِن بينِ البشَر، فنَحنُ نقولُ وأنَا مِنَ المسلمين، هذا الصّحيحُ. الآيةُ إخبارٌ عن سيّدِنا محمّدٍ، {قُلْ}  أي يا محمّدُ، سيّدنا محمّدٌ هو يَصدُق عليه أنّه أوّلُ المسلمِينَ على المعنى الواردِ في القرءانِ، وقولُ الرّسولِ علَيهِ السّلام {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} اللهُ أمرَه أن يَعترفَ بهذا، بهذا أمِرتُ أي بإخلاصِ العبادَةِ للهِ وأنْ لا أشرِكَ بهِ شَيئًا، اللهُ أمرَه أن يقولَ هَذا {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي وأنَا أوّلُ مَن جاءَ بهذا في هذهِ الأمّةِ لأنَّ الإسلامَ كانَ انقَطعَ مِن بينِ البشَر في الجزيرةِ العربيّةِ التي منها مَكّةُ، مكّةُ أحَبُّ البلادِ إلى الله، وفيها أوّلُ بَيتٍ بُني لعبادةِ الله.

أولئكَ كانُوا خَلَوا عن تَوحيدِ الله، كانوا يَعبُدونَ الأوثانَ، الرّسولُ عليهِ السّلام الله تعالى أخرجَه مِن بَينِهم سَالما مِن كُفرِهم لا يَعتقدُ إلا الإيمانَ بربّه، نحنُ لا يجُوز لنا أن نقولَ وأنَا أوّلُ المسلِمين، لكن عندَما نَقرأُ القرءانَ نقرؤه كما هوَ.

سُئِلَ الشَّيخُ: قولُه تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) سورة النحل ،ما المرادُ بهذه الآية.

فقال الشَّيخُ: تُفِيدُ الآيةُ أنّ مخلوقاتِ اللهِ لا تَنحَصِرُ في القَدْرِ الذي علِمناهُ في ذلكَ الوقتِ بل اللهُ تَعالى يَخلُق ما لا نَعلَم، يُحدِثُ ما يَشاء مما لم يكُن لنا بهِ  عِلمٌ  كهذه الأشياءِ التي حدَثت بعدَ ذلكَ إلى يومِنا هذا.

الكافرُ في جهنّم لا يَحيَى حياةً هَنِيئةً ولا يموتُ فيَرتاحَ مِنَ العَذاب، أمّا العُصاةُ الذينَ دخَلُوا النارَ ثم أُخرِجُوا يُشاركُونَ أهلَ الجنّة في كثيرٍ مِن النّعيم وهو الحياةُ في النّعيم الغَيرِ مُنقَطِعٍ والاستِمرارُ بصِفةِ الشّبابِ الذي لا يصيبُهم بَعدَه هرَمٌ والصّحّةُ التي ليسَ بَعدَها مرَضٌ والتّنَعُّمُ الذي ليس بعدَه بؤسٌ أي فاقَةٌ وفَقرٌ، يُشَاركونَ في هذه وما أشبَهَها لكن لا يُشاركونَ عبادَ الله الأتقياءَ بما خَصّهُم اللهُ تبَارك وتعالى به مِنَ النّعيم الذي أخفاهُ أي الذي لم يُطلِع عليهِ أحَدًا مِن خَلقِه لا ملائكةً ولا رُسُلًا.

اللهم توَفّنا على الإيمانِ ربّنا ءاتِنا في الدّنيا حسَنةً وفي الآخِرةِ حَسَنةً وقنا عذَابَ النّار اللهم اغفِر لنَا وارحَمْنا واهدِنَا وأصْلِح بالَنا واسْترْ عَوراتِنا وءامِن رَوعَاتِنا واجعَلْنا هُداةً مُهتَدِينَ غَيرَ ضَالّينَ ولا مُضِلّينَ ربَّنا اغفِرْ لنَا ولإخوانِنا الذينَ سبَقُونا بالإيمان.

([1])  قال في القاموس: السَّمَنْدَلُ طائِرٌ بالهندِ لا يَحْتَرِقُ بالنّارِ.

([2])  أقصى شمالِ السُّودان.

([3])  وهوَ هِشَامُ بنُ عَبدِ الملِك.