قَضِيّةُ خَلْقِ أفعالِ العِبادِ والرَّدُّ على المُعتزِلةِ (دَرسٌ ثالِثٌ)
الحمدُ لله ربّ العالمينَ صلواتُ الله البرّ الرحيم والملائكةِ المقربينَ على سيّدنا محمدٍ أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانِه منَ الأنبياءِ والمرسلينَ وسلامُه عليهم أجمعين.
أمّا بعدُ فقَد ذُكِرَ في حَديثِ مُسلِمٍ الذي أمْلَينَاهُ في الدّرس الماضِي أنّ رَسُولَ الله ﷺ قالَ للرَّجُلَينِ الذين أتَيا إليهِ فسَأَلاهُ ذلك السؤالَ بقَولهما: أرأيتَ يا رسولَ اللهِ أيْ أَخْبِرْنَا عن هَذا الأمرِ، أرأَيتَ يا رسولَ الله ما يَعمَلُ النّاسُ اليومَ ويَكدَحُون فيهِ أشَىءٌ قُضِيَ علَيهِم ومَضَى علَيهِم مِنْ قَدَرٍ قَد سَبَقَ أو فِيمَا يَستَقبِلُونَه مما أتاهُم بهِ نَبيُّهم وثبتَتِ الحُجّةُ علَيهِم قال: «بَل شَىءٌ قُضِيَ علَيهِم ومَضَى علَيهم»، المعنى أنّ حَركاتِ العبادِ وسكَناتِهم إنْ كانَت في الخَير وإن كانَت في الشّرّ فهوَ بقَدَر اللهِ تَعالى الأزليّ، هَذا الحديثُ أخَذْنا منهُ أنّ مَا يَعمَلُه النّاسُ اليومَ في الدُّنيا ويَكدَحُونَ فيهِ شَىءٌ قُضِيَ علَيهِم مَعنى قُضِيَ علَيهِم شاءَ اللهُ تَعالى أن يَفعَلُوه باختِيَارِهِم فلا بُدَّ أنْ يَفعَلُوه لأنّهُ لو كَانَ شاءَ اللهُ تَعالى أن يَعمَلوا شيئًا مِن أعمَالهم ثم تخَلَّفَ ذلكَ أي لم يَحصُلْ لَكَانَ ذلكَ نَقصًا في حَقّ الله تَعالى، لأنّ ذلكَ يعُودُ مَعناه إلى أنّ اللهَ تعالى يَعلمُ الشّىءَ على خِلافِ مَا يكونُ عليهِ وهَذا هوَ الجَهلُ بعَينِه وإلى أنّ اللهَ تَعالى مَغلُوبٌ ومِن شَأنِ الإله أنّه لا يكونُ إلا غَالبًا لا يكونُ مَغلُوبًا قال الله تعالى:{واللهُ غَالِبٌ على أمرِه} 21 سورة يوسف. مَعناهُ اللهُ تَعالى يُنَفّذُ مُرادَه لا أحَدَ يمنَعُ نفَاذَ مُرادِه، فعَدَمُ نفَاذِ إرادَةِ الله تعالى يؤدّي إلى نِسبةِ الجَهل إلى الله لأنّ إرادةَ اللهِ تَابِعَةٌ لعِلْمِه أي أنّ مَا عَلِم اللهُ تَعالى دُخُولَه في الوجُودِ شَاءَ اللهُ دُخُولَه في الوجُود وكلاهما أزليّ عِلمُه أزليٌّ ومَشيئَتُه أزليّةٌ، وكُلُّ مَا شَاءَ الله تعالى دخُولَه في الوجودِ فقَد علِمَ اللهُ أنّهُ سَيَدخُل في الوجُود.
اللهُ تَعالى علِمَ في الأزل أنّ كذا وكَذا يَصِيرُ حَاصلًا وموجُودًا فكُلُّ مَا علِمَ اللهُ أنّهُ سيَصِيرُ حاصلًا ومَوجُودًا فقَد شاءَ اللهُ أن يَدخلَ في الوجُود، فعِلمُه تَبارك وتعالى أزليّ ومَشيئتُه تابِعَةٌ لهُ أزليّةٌ فمَا عَلِم اللهُ تعالى وجودَه أي دخولَه في الوجودِ فقَد شَاء دخُولَه في الوجُودِ غَيرَ أنّ عِلمَ الله أعمُّ وأشمَلُ، عِلمُ الله تعالى يتعَلّق بالواجِبَاتِ العقليّةِ والجائزاتِ العقليّةِ أي الحادِثَاتِ وبالمستَحِيلات، اللهُ تعالى يَعلَمُ الواجِبَ العقليَّ أي ما لا يَجُوز عليهِ الفَناءُ، مَا لا يجوز علَيهِ العدَمُ، الله تعالى واجِبُ الوجود لا يَقبَلُ الانتفَاء، هوَ مَوجودٌ أزلًا وأبَدًا فلا يَقبَلُ الانتِفَاءَ.
ذَاتُ اللهِ لا يَقبَلُ الانتِفَاءَ لأنّهُ لا يصِحُّ في العَقلِ إلا وجُودُه فاللهُ يَعلَمُ ذاتَه ويَعلَمُ صِفاتِه الأزليّةَ الأبديةَ، ويَعلَمُ المستَحِيلَ أي الشّىءَ الذي لا يصِحّ في العقل وجُودُه، فمُتَعَلَّقاتُ العِلم أوسَعُ مِن مُتعَلَّقَاتِ المشِيئَةِ، المشيئةُ تعَلُّقَاتُها بالممكنَاتِ العقليّةِ، الجائزاتِ العقليّةِ، وهو مَا يجوزُ عليهِ العدَمُ والوجُودُ، هذا العالم يُقَالُ لهُ الممكنُ العقليُّ ويُقالُ لهُ الجائزُ العقليُّ لأنّهُ يَجُوز عليهِ العدَمُ تَارَةً والوجودُ تَارةً، العالَمُ لم يَكنْ في الأزلِ ثم دخَلَ في الوجُود، اللهُ تَعالى بمشِيئَتِه خَصّصَه بالوجودِ بدَلَ العدَمِ الذي كانَ فيهِ، بدَلَ أن يَبقى في العدَم أدخَلَهُ في الوجُود، وكُلُّ شَىءٍ دَخَل في الوجُودِ يجُوز في العَقلِ أن يَنعَدمَ بَعدَ وجُودِه، ويجُوزُ أن يَبقَى بَعضُه لأنّ استِمرارَ الوجُودِ في المستَقبَل لا يَرُدُّه العَقلُ إنّما الذي لا يَقبَلُه العَقلُ أنْ يَكُونَ العَالَمُ أَزليّا، الأزليةُ مَعناها استِمرارُ الوجُودِ في الماضي إلى غَيرِ أوّل، إلى غَيرِ ابتِدَاء.
الشّىءُ الذي لا يَلحَقُه عَدَمٌ باتّفاقِ المسلمِينَ بلا خِلافٍ عِندَهُم شَيئانِ الجنّةُ والنّارُ أي جَهنّمُ، هَذان شاءَ اللهُ لهما البَقاءُ أي أن لا يلحَقَهُما الفَناءُ فلا يَنعَدمَان، وكذلكَ أهلُوهُما بعدَ أن يَستَمِرّوا فيهما باقُونَ لا يَلحَقُهمُ الفَناء.
بَعضُ الناس استَشْكَلَ عليهِ هَذا فقالَ كيفَ نَقولُ الجنّةُ والنّارُ باقِيتَان أليسَ يكونُ ذَلكَ تَشريكًا مع اللهِ حَيثُ إنّ اللهَ تعالى لا يجُوز عليهِ الفَناءُ، يعني فإذَا قلنا الجنّةُ والنارُ باقيَتان أليسَ ذلك تَشْريكًا لهما معَ اللهِ في البَقاءِ، هَذا جوابُه أن يُقَالَ لهُ ليسَ هذا تَشْريكًا للجَنّةِ والنار معَ اللهِ بصفَةِ البقاءِ لأنّ بقاءَ الله تعالى ذاتيٌّ أي واجِبٌ لا يَقبَلُ العَقلُ خِلافَه، أمّا بقاءُ الجنّةِ والنار فلَيسَ بقَاءً ذاتيًا ،يجُوزُ مِن حيث العقلُ (أي بالنّظَر إلى ذاتهِما) أن يَنقَطعَ بقَاؤهما فيَنعَدِمانِ،أمّا بالنّظَر إلى أنّ الله شاءَ بقاءَهما فيَستَحِيلُ عَقلا فناؤهما) فلا تَشريكَ، بهذا يزُولُ الإشكالُ ويَطمَئنّ القَلبُ لاعتِقَادِ بقَاءِ الجنّةِ والنّار إلى غَيرِ نهايةٍ، وأمّا قَولُه تعالى في وَصْفِ أهلِ جهَنّم:{ لابِثِينَ فِيها أحقَابًا} 23 سورة النبأ. فمَعنَاه للدَّوام، معنَاهُ أنّهم دائِمُونَ فيها لا يخرُجُون ولا يَفنَونَ، ليس المعنى أنّهم يَمكُثُونَ فيها مُدّةً طَويلَةً إلى أمَدٍ بَعِيدٍ ثم يَفنَونَ، بل قولُه تعالى: {أحقَابًا} الأحقَابُ هيَ جمعُ حُقْبٍ والحُقْبُ ثمانونَ سَنةً والمعنى أحْقابًا لا نهايةَ لها أي أزمِنَةً لا نهايةَ لها، هذا المعنى لأنّ الله تعالى وصَفَ في مَوضع ءاخَر في القرءان بأنّ خُلودَ الكفّار أبديٌّ أي لا نهايةَ لهُ، فعَلِمْنا مِن ذلك أنّ قولَه تعالى “أحقَابًا” ليسَ بتَحديدِ مُدّةٍ بل هو عبارةٌ عن دَوام المكْثِ واللُّبثِ هناك، القرءانُ يجبُ التّوفيقُ بينَ ءاياتِه لأنّه منزّه عن التّنَاقُض.
قالَ أبو حنيفَة رضيَ اللهُ عنهُ: إذَا كانَ الله تَعالى خَالقُ أجسَامِنَا فبالأولى أنْ يكونَ خَالقَ أعمَالِنَا أي حَركَاتِنا وسُكُونِنا، نحنُ ليسَ لَنا إلا الكَسْبُ، والكَسْبُ هو المباشَرَةُ، أحَدُنا يتَحَرّكُ بقُدرَةِ اللهِ تعالى ويتَّصِلُ بشَىءٍ يمَسُّ شَيئًا فيَخلُق اللهُ تَعالى الأثَرَ الذي شاءَ أن يَحدُثَ مِن هَذه المباشَرة، هَذا غايَةُ مَا للعِباد، أمّا أن يُحدِثُوا هَذه الحركاتِ والسَّكَناتِ مِنَ العَدم إلى الوجُودِ فَلا، ليسَ هَذا مما يَجُوز لهم عَقلا، لأنّه لو كانَ الإنسانُ يخلُق كُلَّ حَركةٍ يتَحَركُها وكُلَّ سُكونٍ يَسكنُه بإرادةٍ لكَانَ مخلُوقُ العبادِ أكثَرَ مِن مخلُوقِ الله، وهَذا لا يلِيقُ بألُوهيّةِ الله، لأنّ الألوهيّةَ تَقتَضِي السّيطَرةَ على كلّ شَىء فاللهُ تَبارك وتعالى مسَيطِرٌ على حَركَاتِنا وسُكُونِنا كَما أنّهُ مُسَيطرٌ على أجسَادِنا.
ذُكِرَ في كتابِ القضَاءِ والقدَر عن سيّدنا عليّ رضي الله عنه أنّه قالَ عن القَدريّة، (القَدَريّةُ هم طائفَةٌ ينتَسبُون إلى الإسلام انتسَابًا وليسَ لهم نَصِيبٌ في الحقيقةِ مِنَ الإسلام، يقُولونَ اللهُ خَلَقَ الأجسادَ فقَط أجسادَ ذَوي الأرواح ثم هم يَخلقُونَ حَركاتِهم وسكُونَهم وإدراكَاتِهم وعلُومَهم ونوايَاهُم،) عن هؤلاء قال سيّدُنا عليٌّ رضيَ الله عنه: القَدَريّةُ مَا قَالَت بقَول الملائكةِ ولا بقَولِ النّبيّينَ ولا بقَولِ أهلِ الجنّةِ ولا بقَولِ أهلِ النّار ولا بقَولِ صَاحبِهم إبليسَ. قالَ أمّا مُخالَفتُهم للهِ تعالى، قال اللهُ تعالى: اللهُ خالق كلّ شيء} وأمّا مخَالفَتُهم للمَلائكةِ قَالت الملائكةُ: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} ، 32 سورة البقرة. المعتزلةُ يقُولونَ مَعلُومَاتُ العبادِ حَركاتهُم وسُكُونُهم وعلُومُهم وإدراكَاتهُم كلُّها بخَلق العِبادِ، الملائكةُ قالوا لا عِلمَ لنَا إلا مَا عَلّمتَنا” معناهُ أنتَ تَخلُق عِلمَنا الذي فِينا، وأمّا هؤلاء يقولونَ نحنُ نَخلقُه كذّبُوا الملائكةَ، وقالَ نوح: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} 34 سورة هود. يقولُ نوحٌ عليهِ السلام لقَومِه الذينَ هُم كفّارٌ ولا يَنفَعُكُم نُصحِي إنْ أرَدتُ أن أنصَحَ لكُم إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغويَكُم”، نوحٌ عليه السّلام نَسَبَ أفعالَ العبادِ مِن حيثُ الخَلقُ إلى الله تعالى ما نسَبَها إلى العِبَاد، قالَ إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغويَكُم” مَعناهُ أنّ اللهَ تَعالى هوَ خَالقُ الخَيرِ والشّرّ في العِبادِ ليسَ العبادُ يَخلُقُونَ الهُدَى والضّلالَ، لأنّهُ قالَ إنْ كانَ اللهُ يُريدُ أن يُغويَكُم”، المعنى إنْ كانَ الله تعالى شَاءَ في الأزَلِ أن تكُونُوا غَاوِيْنَ فأَغْواكُم أي خَلَقَ فِيكمُ الغَوايةَ، {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} أي بيَاني، المعنى أنّ وظيفَتي أنْ أُبَيّن لكم وأحَذّركُم طرُقَ الهَلاك، أمّا الضَّلالةُ إنْ قَدّرَها اللهُ عَلَيكُم فإرشَادِي لكُم لا يَنفَعُكُم، وقالَ موسى: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 155 سورة الأعراف. موسى عليهِ السّلام لمّا ذهَبَ لميقَاتِ ربّهِ([1]) ثم قَضَى أربَعِينَ ليلَةً ثم عادَ إلَيهم فوجَدَهُم قَد عبَدُوا العِجلَ إلا بَعضًا منهم، قَومُه الذينَ اجتازَ بهمُ البَحرَ وأنقَذَهُم ورأَوا هَذه المعجزةَ الكَبِيرةَ انفِلاقَ البَحْر اثني عشَرَ جُزءًا كُلُّ جُزءٍ كالجبَلِ العَظِيم وبَيْنَ كُلّ جُزءٍ وجُزءٍ جَبَلٌ أرضٌ يابِسَةٌ، فاجْتَازُوا ونجَوا مِن فِرعَونَ الذي أرادَ أن يُبِيدَهُم، كانوا هم سِتَّمِائةِ ألفٍ وفِرعَونُ كانَ أخَذَ مَعهُ ألفَ ألفِ مُقَاتلٍ أي مَليُونًا مع السّلاح، أمّا بَنُو إسرائيلَ المؤمنونَ الذينَ أخَذَهم موسى ما كانُوا متَسَلّحِينَ، بعدَ أنْ رأَوا هَذه العَجِيبَةَ المعجزةَ الكبيرةَ فتَنَهم شَخصٌ يقَالُ لهُ موسى السّامِريّ، اسمُه باسم موسَى علَيهِ السّلام، فتَنَهُم صَاغَ لهم عِجلًا مِنْ ذَهَب ووَضَع فيه شيئًا مِن أثَرِ حَافِرِ فرَسِ جِبريلَ، عندَما أرادَ فرعونُ أن يخُوضَ البَحرَ كانَ جِبريلُ على فَرسٍ هَذا الخبِيثُ رأى مَوقِفَ فَرَسِ جِبريلَ فأَخَذَ منه شيئًا قَبَضَ مِنهُ قَبضَةً ووضَعَه في هذا العِجْل المصَوَّر مِن ذهَبٍ فأَحيا اللهُ تَعالى هذا العِجلَ فصَارَ يخُورُ كالعِجْلِ الحَقِيقيّ خَلَقَ اللهُ فيهِ الحيَاةَ، فقال لهم هَذا إلهكُم وإلهُ موسَى، حمَلَهُم على عبَادَةِ هَذا العِجْلِ ففُتِنوا فعبَدُوا هذا العجلَ، فلَمّا أُخبِرَ موسى بذلكَ اغتَاظَ على هؤلاء اغتِياظًا شَديدًا.
مُوسَى السّامريُّ قالَ لهم هَذا إلهكُم أي هذا العِجلُ الذي رأَيتُمُوه إلهكُم خَالقُكم الذي يَستحقُّ أن تَعبُدوه وموسى أيضًا هذا العِجلُ هو خَالقُه لكن موسَى نَسِيَ فذهَب يَطلُبُ ربَّه، فصَدّقَه بعضُ بني إسرائيلَ الذينَ كَانُوا مع موسَى، لما رأَوا هَذا الأمرَ العَجِيبَ فاتّبَعُوهُ، فلَمّا رَجَعَ موسَى إلَيهِم وعَلِمَ بحَالهِم اغتَاظَ مِنهُمُ اغتِيَاظًا شَدِيدًا ثم أخَذَ هَذا السّامريَّ فقَالَ لهُ: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} 97 سورة طه. ثم اختَارَ جَرّدَ مِن قَومِه سَبعِينَ شَخصًا ليَأخُذَهُم للتّضرّع إلى الله تعَالى فقَالَ موسَى متَضَرّعًا إلى اللهِ تعالى: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ}
155 سورة الأعراف. المعتزلةُ خَالفَت الأنبياءَ خَالفَت نُوحًا كَما بُيّن وخَالفَت موسَى لأنّ موسَى قالَ “إنْ هيَ إلا فِتنَتُكَ” أي هَذا الأمرُ الذي حدَث بقَومي مِن عبادَتهم العِجلَ فِتنَتُكَ تُضِلُّ بها مَن تَشَاءُ وتَهدي مَن تشَاءُ، معناهُ بهذه الحادثةِ أي حَادثةِ تَصويرِ هَذا العجلِ حتى صارَ عِجْلًا جَسدًا لهُ خُوارٌ بخَلقِ اللهِ تَعالى فيه الحياةَ هذه فِتنتُكَ يا رَبِّ أضلَلْتَ بها قِسمًا وهَدَيْتَ قِسمًا، القَدْرُ الذينَ عَبَدُوه أضلَلتَهُم، موسى يخاطِبُ اللهَ نسَبَ الإضلالَ إلى ربّه تَبارك وتعالى لأنّهُ لا خالقَ للشّرّ ولا للخَير إلا الله، العبادُ يَكتسِبُون اكتسابًا فقط، دِلالةً على أنّه لا خَالقَ لأعمالِ العبادِ إلا الله قالَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} أنتَ، المشيئةُ للهِ، وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} ، الهُدَى أيضًا مِن الله، معناهُ أنتَ شِئتَ للقِسْم الذين عبَدُوا العِجْلَ أنْ يَعبُدُوه، في الأزلِ شَاءَ اللهُ لهم أن يتَحوَّلُوا كُفّارًا بعدَ أن كانوا مؤمنِينَ، وشاءَ للآخَرِينَ أن يَثبُتوا فالذينَ ثبَتُوا زادَهُم اللهُ تَعالى على هُداهُم هُدًى، والمعتزلةُ خَالفَت الأنبياءَ،
وأمّا تكذِيبُهم لأهلِ الجنّة فقَد قالَ أهلُ الجنّة: {لَولا أنْ هَدانَا الله} 43 سورة الأعراف. الإيمانُ والعَملُ الصّالحُ الذي كانوا عليهِ نَسَبُوه إلى الله، المعتزلةُ ينسُبونَهُ إلى أنفُسِهم يَقولونَ اللهُ تعالى فَرْضٌ علَيه أن يُدخِلَنا الجنّة، نحنُ خَلَقْنا هذه الأعمالَ الحسَنة فاللهُ فَرضٌ عليهِ أن يُدخلَنا الجنّةَ. أمّا عندَ أهلِ الحقّ العَملُ الصّالح والإيمانُ بخَلق الله.
اللهُ تَباركَ وتَعالى تَفَضّلَ على المؤمنينَ فخَلَقَ فِيهمُ الإيمانَ والعمَلَ الصّالحَ كُلُّ حَركَاتهم في الخَير الظّاهرةِ والباطِنَةِ اللهُ خَلَقَها فلِلهِ الفَضلُ علَيهم ليسَ لهم على الله فَضْلٌ، ثم فَضْلا مِنهُ يُثِيبُهم في الآخِرَة النّعيمَ المقيمَ، فَضْلا منهُ لَيسَ مُلزَمًا، كيفَ يَكُونُ مُلزَمًا وهوَ الذي خَلَقَ فيهِمُ الإيمانَ والهُدَى، هوَ تَفَضّلَ علَيهِم بالإيمانِ والعَملِ الصّالحِ ثم امْتَنّ علَيهِم بأنْ جَعَلَ مُستَقَرَّهم النّعِيمَ في الآخِرة فلِلّه الفَضلُ في الأُولى والآخِرَة.
قالَ وأمَّا إبليسُ فقَد قال: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} 16 سورة الأعراف. “قالَ فبِما أغوَيتَني” المعنى أنتَ خَلَقتَ فيّ الغَوايَةَ فصَدَق في ذلكَ، إبليسُ صَدَقَ في ذلكَ، اللهُ تَعالى خَلَقَ فيهِ الغَوايةَ الضَّلالةَ، إبليسُ اكتَسَب اكتِسابًا فقَط ما خَلَق غَوايَتَه، اللهُ تَعالى ما كذّبَه في قولِه بما أغوَيتَني، ومعنى قولِ إبليسَ {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} مَعنَاهُ أَقِف لهم في طَريقِكَ المستَقِيم لِأُزِيغَهم عنهُ، أقِفُ لهم في صِراطِكَ المستَقِيم الذي أمَرتَهم بهِ لِأصْرِفَهُم عنه، كالذي يقِفُ على الجَادّةِ ثم يَأتي الجَائِينَ فيَقولُ لهم الطّريقُ مِن هنا فيُزيغُهم عن الطّريق، هكَذا شَأنُ إبليسَ يُزيّنُ لهم خِلافَ الأوامِر، يُزَيّنُ لهم المعاصي حتى يَقَعُوا فيها، هذا مَعنى قولِ سيّدِنا عليّ وخالَفُوا صاحِبَهُم إبليسَ، هوَ وليُّهم وهم أوليَاؤه.
المشيئَةُ والإرادةُ بمعنًى واحِدٍ إنّما الإرادَةُ أحيَانًا تَأتي بمعنى المحبّةِ أمّا المشيئَةُ فمَعناها دائمًا التّخصِيصُ، ففِي بعضِ المواضِع في القُرءانِ ذُكِرت الإرادَةُ بمعنى المحبّةِ، ومِن المواضِع التي ذُكِرَت فيها الإرادَةُ بمعنى التّخصِيصِ قَولُه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ 176 سورة ءال عمران. وقالَ مَا أخبَر بهِ وحَكَاهُ عن نُوحٍ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} هنا بمعنى التَّخصِيص ومَواضِعُ أُخرَى كثِيرَة، أمّا ورُودُ الإرادَةِ بمعنى المحبّةِ كقَولِه تعالى: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ 67 سورة الأنفال. وقولُه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ 185 سورة البقرة. في هَاتَين الآيتَينِ الإرادَةُ بمعنى المحبَّة.
الجسَدُ في القَبر يُشاركُ الرُّوحَ بما يَحصُل لهُ مِن ألم أو لَذّةٍ لكنْ مِن حيثُ لا يَظهَرُ لعُيونِ النّاس وشَاهِدُ ذلكَ أنّ النّائمَ يَرى ما يَسُرّه في مَنامِه فيَرتَاحُ لذلكَ ويرَى ما يَسُوؤه فيتَألّم لذلكَ والنّاظرُ إليهِ لا يَعرفُ حَالَ النّائم.
وردَ في الصّحيح عن رسولِ الله ﷺ: «مَنْ قَتَل نَفسَه بحَديدةٍ فحَدِيدَتُه في يَدِه يَجَأ بها في بطنِه في نارِ جَهَنّمَ خَالدًا مُخَلَّدًا فيها أبَدًا ومَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فقَتَلَ نَفسَه فهوَ يتَرَدّى في نَارِ جَهَنّمَ خَالدًا مُخَلَّدًا فيها أبَدًا» رواه البخاري ومسلم، هذا الحديث يُحمَلُ على الكافِر، فالكافرُ يُعذَّب يومَ القيامةِ على كُفره وعلى معاصِيْه، فهذا الكافرُ الذي قَتَل نَفسَه بتِلكَ الحَدِيدَةِ يُعذَّبُ بتِلكَ الحَدِيدة في نار جهنَّمَ على الدّوام، على الدَّوام يَطعَنُ بتِلكَ الحديدةِ في بَطنِه، كذلكَ الكافرُ الذي قتَلَ نَفسَه بأنْ رمَى نَفسَه مِن شَاهِق جبَلٍ حتى ماتَ بهذا التّردّي، يُفعَلُ به في جهنَّم مِثلُ مَا فعَلَ بنَفسِه، هَذا الكَافِر، أمّا المسلِمُ الذي قتَلَ نَفسَه فهو يُعذَّبُ في نَارِ جَهنّمَ بما قتَلَ بهِ نَفسَه بُرهَةً ثم يَنتَهِي فيَخرجُ مِنَ النّار ثم يَدخُل الجنّة، ومنَ المسلِمِينَ الذينَ يَقتُلُونَ أنفُسَهم مَن يُسَامحهُم اللهُ فلا يُدخِلُهم جَهنّم.
والحَديثُ الذي هو شَامِلٌ للمُسلِم والكافرِ الذي يَقتُل نفسَه هو حَديثٌ ءاخرُ صَحِيحٌ أيضًا وهو: «مَنْ قَتَل نَفسَه بشَىءٍ عُذّبَ بهِ في نارِ جهَنّم» رواه البخاري، هذا يَشمَل المنتَحرَ المسلمَ والمنتَحِرَ الكافرَ لأنّهُ لم يَرِدْ فيه خالِدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، أمّا الرّوايةُ التي فيها: «خَالدًا مُخَلَّدًا فيها أبَدًا» هذه للكُفّار، للمُنتَحِر الكَافر، أمّا المنتَحِرُ المسلِم فيَنطَبِقُ علَيه حديثُ: «مَن قتَلَ نَفسَه بشَىءٍ عُذّبَ بهِ في نارِ جَهَنّم» هَذا في البخَاري. وسُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ، واللهُ تعالَى أعلَمُ.
([1]) أَيْ لِمُنَاجَاةِ اللهِ أَيْ لِسَمَاعِ كَلامِ اللهِ الأَزَلِيِّ.