قَضِيّةُ خَلْقِ أفعالِ العِبادِ والرَّدُّ على المُعتزِلةِ (دَرسٌ ثانٍ)
الحمدُ لله ربّ العالمينَ صلواتُ الله البرّ الرّحيم والملائكةِ المقربّينَ على سيّدنا محمّدٍ أشرفِ المرسلينَ وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسلينَ وسلامُ الله تعالى علَيهم أجمعين.
أمّا بعدُ، فقد رُوّيْنا بالإسنادِ الصّحيح المتّصل في «صحيح مُسلم» مِن حديثِ يحيى ابنِ عُقَيل عن يَحيى بنِ يَعمُر عن أبي الأسودِ الدُّؤليّ قال قال لي عِمران بنُ الحُصَين رضي الله عنه: أرأَيتَ ما يَعملُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُونَ فيه أَشَىءٌ قُضِيَ علَيهم ومَضَى علَيهِم مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَق أو فِيما يُستَقبَلُون بهِ مما أتَاهُم به نَبيُّهم وثبتَتِ الحُجَّةُ علَيهم، قال: فقُلتُ: بل شَىءٌ قُضِيَ علَيهم ومضَى عليهم، قال: أفَلا يكونُ ظُلمًا؟ قال: ففَزعتُ مِن ذلكَ فَزعًا شَديدًا وقُلتُ: كلُّ شَىءٍ خَلْقُهُ ومِلْكُ يَدِه لا يُسألُ عما يَفعلُ وهم يُسأَلون، قال: يَرحمُكَ اللهُ إنِّي لم أُردْ بما سأَلتُكَ إلا لأحْزِرَ عَقْلَك، إنّ رجُلَينِ مِن مُزَينةَ أتَيَا رسولَ الله ﷺ فقالا: يا رسولَ الله، أرأَيتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكْدَحُونَ فيه أشَىءٌ قُضِيَ علَيهِم ومضَى علَيهم مِن قدَرٍ قَد سَبَقَ أو فِيما يُستَقبَلُون به ممّا أتاهُم به نبِيُّهم وثبَتَتِ الحُجّةُ علَيهم؟ قال: «بَلْ شَىءٌ قُضِيَ علَيهم ومَضَى علَيهم، ومِصْداقُ ذلكَ قَولُ اللهِ تباركَ وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (8) سورة الشمس. هَذا الحديثُ أخرجَه الإمامُ مسلمٌ في «صحِيحِه» وأخرجَه البيهقي في «كتابِ القدَر» وغيرُهما.
أمّا عِمران بنُ الحصينِ فهو أحَدُ فُقَهاءِ الصحابة وأحدُ أولياءِ الصّحابةِ مِن أهلِ الكرَاماتِ، كانَ تَزورُه الملائكةُ ثم استَعمَل الكَيَّ مِن أجْلِ البواسِير فانقَطعَت عنه الملائكةُ، ثم بَعدَ بُرهَةٍ عَادُوا لزِيارتِه.
هذا عِمرانُ بنُ الحُصينِ رضي الله عنه سأَل أبا الأسودِ الدُّؤليَّ وهذا أبو الأسودِ الدُّؤليُّ مَعروف مِن ثِقاتِ التّابعِينَ أخَذَ الحديثَ عن سيّدنا عليّ وغيرِه مِن عِدّةٍ مِن أصحابِ رسول الله، وكانَ هوَ أوّلَ واضعٍ للنّحْو بإشارةِ سيّدِنا عليّ، سألَه عِمرانُ رضي الله عنه عن هذا الأمر قالَ لهُ: أرأَيتَ ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُون فيه([1]) أي أعمالُهم هذِه أي حركاتُهم وسَكنَاتُهم أشَىءٌ قُضِي علَيهم ومضَى عليهم؟ قال: هل هو شَىءٌ قَدَّرَه اللهُ تعالى أنّه سيَحصُل منهم أي باختيارهِم ومشيئَتِهم الحادثةِ بعدَ مَشيئةِ اللهِ الأزليةِ وعلمِه الأزليِّ الأبديّ أو فيما يُستَقْبَلُونَ به أم شىءٌ جَديدٌ لم يَسبِق بهِ قدَر مما أتَاهُم به نبيُّهم وثبَتَت الحُجّةُ علَيهم؟ فأجابَ أبو الأسودِ عِمرانَ بنَ الحُصَين بقوله: بل شىءٌ قُضِيَ عليهم ومضَى عليهم.
المعنى أنّ كلَّ ما يعمَلُ العباد مِن حَركاتٍ وسكُون حتى النّوايا والقُصُودُ أيْ قَصْدُ النّفْس إلى فعلِ شَىء، أجابَه بأنّ ذلكَ كلَّه على حسَب مشيئةِ الله الأزليةِ السّابقةِ وعِلمِه السّابقِ وتقديرِه السّابِقِ، ثم أَورَدَ عليه هذا الكلامَ قال له: أفَلا يكونُ ظُلمًا؟ المعنى: إنْ كانَ هو قَدَّر بعِلمِه ومشيئتِه أن يَعمَلوا هذه الأعمالَ ثم رتّبَ على ذلكَ جَزاءً لهم الحسَناتِ بالثواب والسّيئاتِ بالعقابِ، ألا يكونُ ذلكَ ظُلمًا؟ قال: ففَزعتُ فَزعًا شَديدًا وقُلتُ: كلُّ شىءٍ خَلْقُه ومِلْكُ يَدِه لا يُسألُ عمّا يَفعل وهم يُسْأَلُون.
فلَمَّا وُفّق للجَوابِ الصّحيح الذي أرادَ عِمرانُ بنُ الحُصَينِ أن يَظْهَر منه قالَ له: يَرحَمُكَ اللهُ، إنّي لم أُرِدْ بما سَألتُك إلا لأَحزِرَ عَقلَك، أي أردتُ أن أمتَحِنَ فَهمَك للدّينِ، دَعا لهُ وصَوَّب جَوابَه، ثم حَدّثَه حديثَ رسولِ الله قال لهُ: إنّ رجُلَينِ مِن مُزَينَة أتَيا رسولَ الله فقالا: أرأَيتَ يا رسولَ الله ما يَعمَلُ الناسُ اليومَ ويَكدَحُونَ فيه أشَىءٌ قُضيَ علَيهِم ومضَى علَيهم مِن قَدَرٍ قَد سبَقَ أو فيما يُستَقبَلُونَ به مما أتاهُم به نبيُّهم وثبتَت الحُجّةُ علَيهم؟ قال رسولُ الله ﷺ: «بل شىءٌ قُضِي علَيهم ومَضَى علَيهِم ومِصْداقُ ذلك قولُ الله تبارك وتعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
رسولُ الله ﷺ استَدلّ بهذه الآية، أيّدَ جوابَه لهما بهذه الآية: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8). اللهُ تباركَ وتعالى أَقسَم بالنَّفْس وما سوّاها على أنّ اللهَ تبارك وتعالى هوَ الذي يُلهِمُ النّفوسَ فجُورَها وتَقواها أي أنّه لا يكونُ شَىءٌ مِن أعمالِ العباد خَيرِها وشرّها إلا بخلقِ الله تبارك وتعالى فيهِم ذلكَ، أي العَملَ الحسَن وهذا السّيِّءَ هو يخلقُ فيهم لا يكونُ شىءٌ منهُم إلا بخَلْق اللهِ تعالى فيهم ذلكَ، العبادُ ليس لهم في ذلكَ خَلْقُ شىءٍ مِن ذلكَ، مِن حيثُ الخَلْقُ هذا يُنسَب إلى الله أمّا مِن حيثُ الكَسبُ فيُنسَب إلى العبدِ، قال الله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 286 سورة البقرة. مَا كسَبت أي مِن عَملِ الخير وعلَيها ما اكتَسبَت أي مِن عمَل الشّرّ والمعاصي. المعنى أنّ العبادَ يُثَابُون على كَسْبِهم للحَسناتِ ويُعاقَبونَ على كَسبهم للسّيئاتِ فالعبادُ لا يَخلُقون شيئًا مِن أعمالهم، اللهُ تعالى هو الخالقُ أي هو الذي يُحدِثُ حركاتهِم وسَكناتهِم مِن العدَم إلى الوجُودِ كذلك نِيّاتُهم وقُصودُهم وإدراكاتهُم اللهُ تعالى هو الذي يَخلُق فيهم ليسَ لهم في ذلك مِن خَلقٍ أي إحداثٍ مِن العدَم إلى الوجودِ، اللهُ تبارك وتعالى قال:{هَل مِن خَالِقٍ غَيرُ الله}
الخَلقُ إذا أُريدَ به الإحداثُ الإبرازُ مِن العدَم لا يُضافُ إلا إلى اللهِ، خاصٌّ بالله تبارك وتعالى، أمّا إذا أُريد بالخلقِ التّصويرُ فهو يصِحّ إضَافتُه إلى المخلوق قال تعالى مخاطبًا لعِيسى:{وإذْ تَخلُق} أي يا عيسى { مِنَ الطّينِ كهَيأَةِ الطَّيرِ} 110 سورة المائدة. هذا خَلْقٌ بمعنى التَّصوير هذا يُضاف إلى العبدِ ويُضافُ بمعنى التّقدير إلى العِباد أيضًا وإلى اللهِ قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (14) سورة المؤمنون. أي المقَدِّرين، معناه الله يُقَدّر وأنتم تُقَدّرونَ وتقديرُ اللهِ أحسَنُ مِن تقديركُم لأنّ تقديرَ الله لا يَدخُله الخطأ ولا التّغيُّر، ثم تقديرُ الله نافِذٌ لا مُمانِعَ له ولا مؤخِرَ له أمّا تقدير العبادِ قَد يَنفُذُ وقد لا يَنفُذ، إنْ نفَذَ فعَلى حسَب مشيئةِ الله الأزليةِ وإنْ لم يَنفُذ فذلكَ لأنّ الله لم يشأ في الأزلِ أن يحصلَ، هذه المسئلةُ مسئلةٌ متّفَقٌ علَيها بينَ أهلِ السّنة مِنَ الصّحابة والتّابعِينَ ومَن تبِعَهُم بإحسَانٍ إلى يومِ الدّين.
هذا أبو جعفرٍ الطّحاويُّ مِن أهل القرنِ الثّالثِ الذي هو أحَدُ القُرونِ الثلاثِ الفاضِلَةِ التي فضّلَها رسولُ الله بقَوله: «خَيرُ النّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم» رواه ابن حِبّانَ والنَّسائي. أبو جعفر الطّحاويُ كانَ أشهرَ المحدَّثينَ الحنفِيّين، وقَد عَمِل هذا الموجَز بيانًا لعقيدةِ أهلِ السنّةِ والجماعةِ.
هَذا أبو جعفرٍ الطّحاويُّ يقولُ في مسئلة خَلْق أفعالِ العبادِ التي هيَ مِن أهمّ مسَائلِ عِلم العقيدة: «وأفعالُ العبادِ كلُّها خَلقٌ للهِ تعالى وكَسْبٌ للعِباد» أفعالُ العبادِ حَركاتُنا وسكَناتُنا الظّاهرةُ والباطنَةُ كلُّها بخلقِ الله أي هو يُبْرِزها مِنَ العدَم إلى الوجُود وهيَ لنا كَسْبٌ أي نحنُ نوجّهُ إليها القَصدَ والإرادةَ، قَصدُنا الذي هو حادِثٌ وإرادتُنا التي هيَ حَادثةٌ وقُدرتُنا التي هي حادثةٌ نوجّهُها إلى هذه الأعمالِ التي نعمَلُها، أمّا حصولُ ذلكَ الشّىءِ ودخولُه في الوجُود فهو بخلقِ اللهِ تبارك وتعالى ليسَ بخَلقِنا، هذا معتقَدُ أهلِ السّنّة ولم يَشُذَّ عنهُم إلا أُناسٌ شذّوا فخَالَفُوا قالَ بَعضُهم بما هو سَلبٌ للعَبدِ مِن الاختيار، جعَلُوا العَبدَ لا اختِيارَ لهُ ألبَتّة ولا فِعلَ لهُ ألبَتّةَ، جعَلُوه كالماءِ الذي يَسِيل في الوادي، هذا الماءُ ليسَ باختِياره وفِعلِه يَحصُل منه هذا السّيلُ، إنّما يُقال سَالَ الوادي لأنّهُ مَظهَرُ السّيَلانِ ليسَ لأنه يُحدِثُ هَذا السّيلَ.
هؤلاء زعِيمُهم يُقالُ لهُ جَهمُ بنُ صَفوانَ التّرمِذي مِن العَجم هو كانَ لهُ أتباعٌ يُقال لهم الجَهميّةُ([2])، ثم سَلْمُ بنُ أَحْوَزَ لَمّا عَلِمَ بفِتْنَتِه وإضلالِه للنّاس قتَلَه فخَفَّت فِتْنَتُه.
والفريقُ المقابِلُ لهؤلاء يقالُ لهم المعتزلةُ هؤلاء المعتزلةُ قالوا: “اللهُ تَعالى لا يخلقُ شيئًا مِن أعمال العباد إنّما هوَ خَلَق أجسَادَهم ويخلقُ فيهم الحركاتِ التي ليسَت اختياريةً لهم كحركاتِ العُروقِ النّابِضةِ”. هؤلاء على زعمِهم يُنزّهون اللهَ عن الجَور، قالوا: “فإنْ خَلَق العبادُ الحَسناتِ استَحقُّوا على اللهِ أن يُثيبَهم”، قالوا: “واجِبٌ على الله، إنْ لم يَفعَل ذلكَ يكونُ هو ظالمًا، وإنْ أساءَ العبادُ أي إنْ عَصَوه بكُفرٍ أو بما دونَه كذلك استَحَقُّوا العذابَ لأنهم هُم خَلَقُوا هذه السّيئاتِ، أمّا إنْ لم يكونُوا هُم خَالقِيْها ما يَستَحقّونَ العُقوبةَ كيفَ يُعاقَبُون على شىءٍ خلَقَهُ اللهُ تعالى فيهم ولم يخلقُوه”، هذه حُجّتُهم وهي داحِضةٌ([3]).
يقال لهم: هل عَلِمَ اللهُ في الأزلِ قَبلَ أن يَخلُقَ العبادَ ما يَعمَلُون مِن الكُفر والمعاصي والحسنَات؟
فإن قالوا: لم يكن اللهُ عالِمًا فقَد جَهَّلُوهُ فكَفَرُوا، وإنْ قَالُوا: كانَ عَالِمًا فيُقَالُ لهم: هلْ يَستطِيعُ العبدُ أن لا يَصدُرَ منه ما علِمَ اللهُ في الأزل أنّه يفعَلُه باختِياره، هل يصِحّ منهُ ذلكَ، لا يَصِحُّ.
قال تعالى:{هَل مِن خَالِقٍ غَيرُ الله} أي هَل مِن مُحْدِث لشىءٍ مِنَ الأشياءِ الأعيانِ أو الحركاتِ والسّكَناتِ أو الأعمالِ الباطنةِ كالنّيةِ والإدراكِ، هل مِن مُحْدِثٍ مِن العدَم إلى الوجود لشَىء مِن ذلكَ غيرُ الله، لا.
أهلُ السّنةِ والجماعةِ على وِفَاق هذه الآيةِ وعلى وِفاق أحاديثِ رسول الله حيثُ قال ﷺ: «اللهُمّ مُصَرِّفَ القُلوبِ صَرِّفْ قلُوبَنا على طَاعَتِك» رواه مسلم والنَّسائي، وفي لفظٍ: «صَرّفْ قلُوبَنا إلى طَاعَتِك» والمعنى واحدٌ، معنى «على» و«إلى» هُنا واحِدٌ، في هذا الحديثِ أبلَغُ دليلٍ على أنّ اللهَ تعالى هوَ خَالِقُ أفعَالِ العبادِ الحركاتِ والسّكنَات وغيرِها لأنّه إذا كانَ هوَ مُصَرِّفَ القلوبِ أي مُقلّبَ القلُوبِ فهوَ بطَريقِ الأولى مُقلِّبُ الجوارح اليدِ والرجْل والعينِ واللّسان. هذا الحديثُ وغيرُه مِن أحاديثِ النّبي ﷺ مما فيهِ تعَلُّقٌ بهذه المسئلةِ شَواهِدُ لما ذهَب إليه أهلُ الحقّ.
فلْيَجْعَل المؤمنُ هذا عَقدَ قَلبِه ولْيُكثرْ مِن شُهُودِ هذا المعنى حتى يكونَ مُوحّدًا للهِ تعالى توحيدًا شُهُوديّا في جميع أفعالِه وفي جميعِ حالاتِه فتَهُونُ عليهِ المصائبُ والخوفُ مِن العباد، مَنْ جَعَل هذا المعنى ذكْرَه القَلبيَّ أي جعَلَ قلبَه يَستَشعرُ بذلكَ دائمًا هانَت عليه المصائبُ وسهُلَ عليهِ ما يتَوقّعُه أن يحدُث مِنْ قِبَلِ الناس، هانَ عليه أَمرُه فلا يَستَفزّه ذلكَ على نِسيانِ أنّهُ تَبارك وتعالى هو المتصرّفُ في كلّ شَىء، هذا يُقال لهُ التّوحيدُ الشُّهُوديُّ، وما خالَف ذلك فهو باطِلٌ، ولا يُنظَر إلى الشُّبَه التي تُوردُها المعتزلةُ أو غيرُهم.
المعتزلةُ يَنقَطعُون إذا قيل لهم: لو ثبَتُّم على اعتقَادِكم أنّ العَبدَ هو يخلُق أفعالَه وكانَ مَقصُودُكم مِن ذلك الفِرارَ مِن أن تَنسُبوا الله إلى الجَور، على زَعمكُم إن كانَ هو يخلق أعمالَ العَبدِ السّيئةَ ثم يعاقبُه عليها اعتبَرتم ذلك جَورًا مِن الله تعالى فقُلتم: “اللهُ منزَّه عن الجَور والظُّلم فنُنَزّهُه” فوقَعتُم فيما وقَعتُم فيه مِن هذا الاعتقاد، نقُول لكم: أليسَ اللهُ كانَ عالِمًا في الأزل بأنّ هذا العبدَ يختارُ هذه السّيِّئةَ ويعمَلُها، فهل للعَبدِ إمْكانٌ أن يُغَيِّر عِلمَ الله تعالى، ليسَ لهُ إمكانٌ، إذًا مِن أيّ شىءٍ هَرَبتُم؟!
ومِن جملة ما احتَجّ بهِ أهلُ السّنة على أنّ اللهَ خَالقُ كلّ شىء مِن حيث النّصّ قولُه تعالى: {اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء} وأفعالُ العبادِ أشياءُ، فإنْ قالَ قائلٌ: هذه الآيةُ مِن العامّ المخصُوصِ لا يَدخُل فيها ذاتُ اللهِ وصِفاتُه، وذاتُ اللهِ شىءٌ وصفاتُه شَىءٌ لكن لم يَدخُلا تحتَ قولِه: {اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء} لأنّهُ لا يصحُّ عَقلًا أن يخلُقَ اللهُ ذاتَه ولا صفاتِه، فكمَا لم يَشْمَل هذا النصُّ وهوَ قولُه: {اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء} ذاتَ الله وصفاتِه كذلكَ لا يشمَلُ أفعالَ العبادِ التي يفعلُونها باختِيارهم. يُقالُ لهم: عدَمُ دخُولِ ذاتِ الله وصفاتِه في قوله تعالى: {اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء} فلِدليلٍ عَقليّ وهو أنّ الشّىءَ لا يكونُ خَالقًا لنَفسهِ لأنّهُ يَلزمُ منهُ التّنَافي وهو أن يكونَ الشّىءُ سابقًا على نفسِه باعتِبارٍ ومتأخّرًا عن نفسِه باعتبارٍ وهذا لا يُجِيزُه العقلُ، لذلكَ ما دخَل ذاتُ اللهِ وصفاتُه تحتَ قولِه: {اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء}
يقولُ الشّارح القُونويّ: “بأنّا نقولُ الله تعالى وإنْ كانَ شيئًا لكن عندَ ذِكْر الأشياءِ لم يُفهَم دخولُه فيهِ كما لا يُفهَم دخولُه تحتَ لفظِ العلَماء([4])، ثم خُروجُه عن لفظِ العلَماءِ لم يكن تخصِيصًا فكذَا هذا، ولأنّا سَلَّمْنا خُصُوصَ ذاتِ البارئ جَلَّ وعلا، لكنْ خصُوصُه لمعنًى يُفارِقُ المتَنازَعَ فيه، بيانُ ذلك أنّ الآيةَ خَرجَت مَخرَجَ التّمَدُّح، وإذا خُصّ البارئ جَلّ وعَلا إنّما يُخصُّ تحقِيقًا للتّمَدُّح، فبِخُصُوص أفعالِ الخَلق زَوالُ التّمَدّح لأنّهُ حِينَئذ يَصيرُ تَقديرُ الآيةِ اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء هو فِعلُهُ أو خَالقُ كلّ شىء ليسَ بفِعلٍ لغَيرِه وفي هذا يُساويْهِ عندَهُم كُلُّ ما دَبَّ ودَرَج”.
هذا الجوابُ الثاني أنّ اللهَ تَعالى ذكَر هذا أي أنّهُ خَالقُ كلّ شىءٍ للتّمدُّح أي ليَمدَح نَفسَهُ فلو كانَ لَفظُ الشّىء هُنا لا يَشمَلُ أفعالَ العبادِ لم يَكُن تَمدُّحًا لأنّهُ لا تَمدُّحَ في إخْبارِه بأنّهُ يَخلُق بَعضَ الأشياء معَ كونِ بعضِ الأشياء وهيَ الأفعالُ وهيَ أكثرُ مِن ذَواتِ العبادِ ليسَتْ بِخَلْقِه، الإنسَانُ ذاتُه واحِدةٌ وأعمالُه في حياتِه كثيرةٌ جِدًّا، فلو كانَ اللهُ يَخلُق ذاتَ الشّخص فقط وأمّا حَركاتُه وسَكنَاتُه الكثيرةُ مخلوقةٌ للعَبد نَفْسِه لم يَكن في قوله تعالى: {اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء} تَمدُّحٌ، فلذلكَ يجِبُ أن يكونَ قولُه تعالى {اللهُ خَالقُ كُلّ شَىء} شَامِلًا لذَواتِ الأشياء ولأفعَالِها.
قال القُونويّ: “فقِياسُ تخصِيصِ ما في تخصِيصِه زَوالُ التّمدُّح على تخصِيصِ ما في تخصِيصِه تحقيقُ التَّمدُّح قِياسٌ باطل”، قِياسُ المعتزلةِ هذا باطِلٌ.
سُئِلَ الشَّيخُ: هل يقال العبدُ مُسَيَّر؟
فقال الشَّيخُ: معنى مُسَيَّرٌ بحَسَب أصلِ اللّغة الممَكَّنُ مِنَ السَّيْرِ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ﭐ 22 سورة يونس. أي هوَ الذي يُمَكِّنكُم مِن السَّير في البرّ والبَحر، العَبدُ مُسَيّرٌ باعتبار هذا المعنى بنَصّ القرءان، الله هو الذي يمكِّنُنا مِنَ السَّير إن سِرنا في البَرّ وإنْ سِرنا في البَحر فالله تعالى هو الذي يُسَيّرُنا([5])، أمّا سَلْبُ الاختيارِ هذا ليسَ مقصودًا، لم يَرِدْ في ءايةٍ ولا في حديثٍ نبَويّ أنّ العِبادَ لا اختيارَ لهم بالمرّة، لهم اختِيارٌ لكن اختيارُهم هذا لا يجعلُهم مستَقلّينَ عن الله أي لا يجعَلُهم خالقِينَ لشىءٍ مِن حَركاتهِم وسكَناتهِم بل اختِيارُ العبدِ أمرٌ دونَ ذلك أي لا يوصلُه إلى ذلك.
واللهُ سبحانَه وتعالى منفَردٌ بِخَلْق أعمالِنا القَلْبِيّةِ وهذا الحديثُ أبْيَنُ دَلِيلٍ على ذلك: «اللهُمّ مُصرّف القلوبِ صَرّفْ قلُوبَنا على طاعَتِك» ووَردَ في معناه ءاياتٌ قرءانيةٌ منها قولُ الله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} 110 سورة الأنعام. وقولُه تبارك وتَعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 8 سورة الشمس. هذه الآيةُ أيضًا دليلٌ على أنّ اللهَ تعالى هو خالقُ أفعالِ العبادِ القَلبيّةِ، فإذا كانَ خالقًا لأفعالِ العباد القَلبيةِ فبالأولى هو خالِقٌ لأفعالِ الجوارح كحركةِ الرِجْل أو حركةِ اليَدِ أو لِلَمْح بصَره أو طَرْفِه.
ثم عبارةُ “العبدُ مُسَيَّر أو مُخَيَّرٌ” ليسَت سَائغةً مِن حيثُ اللّغةُ، وهذه العبارةُ مُنتَشرةٌ منذُ نحو خمسةِ قرُونٍ، أمّا في الماضي([6]) لم تَكُن، وشَاعَت بينَ الناس.
ومعنى قولِه تعالى:{وتخلُقُونَ إفْكًا } 17 سورة العنكبوت. معناهُ تفتَرونَ كذبًا ليسَ معناه تُحدِثُونَ مِنَ العدَم إلى الوجُود. الإفكُ إفكُ العبدِ باعتِبار الخَلْق والإحداثِ فهو خَلقُ الله تعالى وباعتِبارِ الافتراءِ فهوَ وَصفُ العَبد، باعتِبار معنى الافتراءِ وَصْفُ العَبدِ، أمّا باعتبارِ معنى الخَلق فهو مُضافٌ للهِ تَبارك وتعالى.
([4]) لأنّه عالِمٌ لا كالعُلَماءِ، كما أنّه شىءٌ لا كالأشياء، فهو شىءٌ بمعنَى أنّهُ ثابِتُ الوُجودِ لا بمعنَى أنّ له أوَّلَ.