الأحد نوفمبر 9, 2025

الدَّرسُ التّاسِعُ

قضِيّةُ حُدوثِ العالَمِ وَالتّحذيرُ مِن ضَلالاتِ ابنِ تَيمِيةَ

الحمدُ لله ربّ العالمينَ صلواتُ الله البرِّ الرَّحيم والملائكةِ المقرَّبينَ على سيّدنا محمَّد أشرفِ المرسلِينَ وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسَلِينَ

وبَعدُ فقَد رُوّينَا بالإسنادِ المتَّصِل إلى صَحِيح ابنِ حِبّان وغيرِه مِن الكتُب المشهورةِ مِن حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال قالَ رسول الله ﷺ: «لا يَزَالُ النَّاسُ يتَسَاءَلُون حتَّى يقُولوا هذا اللهُ خَلَقَ الخَلْقَ فمَن خَلَقَ الله فَمَن وَجَدَ ذلكَ فَلْينْتَهِ وَلْيَقُل ءامَنْتُ باللهِ وَرُسُلِه» هذا الحديثُ فيه دواءٌ لما يُخالج كثيرًا مِن النّفوس ويتحَدَّثُ به كثيرٌ منَ النَّاس فيمَا بينَهُم، وقَد حصَل ما تحدَّثَ بهِ رسولُ الله ﷺ في الحديث، حتَّى في عصرِنا هذا يحصُلُ مِن بعضِ النّاسِ أنْ يقولَ أحَدُهم: مَنْ خَلَقَ الله، وهذا السّؤالُ سؤالُ المحَالِ، وذلكَ أن الَّذي تقتَضيهِ البراهينُ العقليّةُ والنّصوصُ القرءانيّةُ أنّ صانعَ العالَم أي خالقَه يجبُ أن يكونَ أزليًّا أي لا ابتداءَ لِوجُودِه، فيستَحيلُ على مَن لا ابتداءَ لوجُوده أن يكونَ له خالقٌ، لأنّ الَّذي يُخْلَق يَلزَمُه الحدُوثُ أي أن يكونَ لوجُودِه ابتداءٌ، فبَينَ الخالِقيَّة والمخلوقِيّةِ اختِلافٌ ظاهِر، الخالقُ مِن شَأنه أن يكونَ أزليًّا أي لا ابتداءَ لوجُودِه حتَّى يصِحَّ خَلقُه أي إحداثُه منَ العدَم لغَيرِه، والذي يُخلَق مِن شأنِه الحدُوثُ هذا أمرٌ بدِيهِيٌّ، فمَع هذه البَداهَةِ يَستَحِيلُ الجمعُ بينَ الخَالقِيّةِ والمخلُوقيّةِ، فإنْ كانَ هذا خُطُوْرًا يَخطرُ في البالِ فعِلاجُه كما أشارَ إليهِ هذا الحديثُ أنْ يَنْحُوَ عن هذا بغَيره، الشَّخصُ يَشغَلُ فِكرَهُ بغَيره ويَدفَعُه بما هوَ المعتقَدُ الصّحيحُ أنّ الخالقَ لا ابتداءَ لوجودِه فلا يكونُ لهُ خالقٌ، إنّما الَّذي سبَقَهُ العدَمُ هو الَّذي يحتاجُ إلى خالِقٍ أحدَثَه أي أدخلَه في الوجودِ بعدَ أن كانَ مَعدومًا، وأمّا إن كان سؤالًا مِن واحِدٍ مِنَ الملحِدِينَ يَقصِدُ تَشكيكًا أو هوَ يَكونُ التَبَس عليه الأمرُ لم يصِل فَهمُه إلى هذه القاعدةِ: الخالقُ ليسَ له خالقٌ، هذا إن كانَ مُلحِدًا يُحَجُّ بالبُرهَانِ العَقليّ لأنّ مَن ثبَت لهُ الخالِقِيَّةُ يَستَحِيلُ عليهِ أن يَحتاجَ إلى خالقٍ، لأنّ الخالقِيّةَ شَرطُها الأزليّةُ والمخلوقيّةُ يَلزَمُها الحدوثُ، يُقالُ لهُ أنتَ تُصَحِّح المحالَ العقليَّ وهو الجمعُ بينَ المتنَافِيَيْن، فإن كنتَ تعتقدُ أنّ خالقَ العالم لا بُدّ أن يكونَ أزليًّا فلا معنى لقولك فمَن خلقَ اللهَ، وإن كنتَ لا تعتقِدُ ذلك فالكلامُ معكَ في إثباتِ حدوثِ العالَم وأنَّه لا بُدَّ لهُ مِن مُحدِثٍ خالقٍ أحدَثَه وخلَقَهُ، وحديثُ الرَّسول ﷺ المذكورُ هوَ في المسلِم الَّذي يؤمِنُ باللهِ أنَّه قديمٌ أزليٌّ ويؤمِنُ برَسُولِه لكنّه يَخطُر بلا إرادةٍ منه في بالِه هذا الشىءَ وَهو أنَّ اللهَ خلقَ السَّماواتِ والأرضَ أي أوجَدهُمَا بعدَ أن كانا مَعدُومَيْن فمَن جَعلَ اللهَ موجودًا، هذا يَخطُر للمؤمن خطُورًا لا يعتَقِدُه، بل يخطُر بقَلبِه، ببالِه بلا إرادَةٍ فهو مَعذورٌ، المؤمنُ الَّذي يؤمِنُ بأنّ اللهَ موجودٌ أزليّ قَديمٌ لا ابتداءَ لوجودِه إذا خطَرَ له هذا الخاطرُ بدون إرادتِه فالذي عليه أن لا يَتبَعَه. ويَنفعُه في إبعادِ هذا الخاطرِ أن يقولَ هَذا لَفظًا ونُطْقًا ءامَنتُ باللهِ ورسُلِه أو يقولَ ءامَنتُ بالله وبِرُسُلِه، فإنّ هذا ينفَعُه في قَطْع هذا الخاطِر.

لذلكَ قال الرَّسول ﷺ: «فإذَا وَجَدَ أحَدُكُم ذلكَ فَلْيَنْتَهِ ولْيَقُل ءامَنتُ باللهِ وبِرسُلِه» معنى قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلام “فَلْيَنتَهِ” أي ليُعْرِض عن هذا ولا يَتْبَعْهُ لأنّ الخاطرَ إذا تَبعَهُ الشّخصُ يكونُ اعتقادًا أو شَكًّا، إذا وصَلَ إلى حَدّ الاعتقادِ أو الشّكّ ضَرَّ صاحبَه، أمّا ما لم يصِل إلى حَدّ الاعتقادِ أو الشّكّ فَلا يَضُرُّ صاحبَه، وهكذا كلُّ أمرٍ يُنافي الإيمانَ.

هذا مِن رحمة الله بعبادِه أنّه لا يَكتُب علَيهم هذا الخاطرَ مَهما كانَ قَبِيحًا، مَهمَا كانَ مَعناه بَعيدًا منَ الإيمان فإنّ اللهَ تعالى أعفى المؤمنَ عن أن يُؤاخَذَ به.

قال رسول الله ﷺ: «لا يَزالُ النّاسُ يتَساءَلُونَ حتّى يقُولوا هذا اللهُ خلَقَ السّماواتِ والأرضَ فمَن خلَق اللهَ” وفي لفظٍ لهذا الحديثِ “هذا اللهُ خَلقَ الخلْقَ فمَن خلَق اللهَ فإذا وجَدَ أحَدُكم ذلكَ فلْيَنتَهِ ولْيَقُل ءامَنتُ باللهِ ورسُلِه” وفي لفظٍ “ءامَنتُ باللهِ وبرُسُله». الحديثُ فيهِ بيانُ أَمرَينِ أحَدُهما أنّ مَن خَطَرَ لهُ ذلكَ خُطورًا مطلُوبٌ منه أن ينتَهيَ أي لا يتبَعَ ذلكَ الخاطرَ ويَبقَى على ما كانَ يعتقدُه جَزمًا بلا تَردُّدٍ، أنّ اللهَ خَالقٌ لا خالقَ لهُ لأنَّ الخالقَ مِن شأنه أنّهُ مَوجُودٌ بلا ابتداءٍ، فيَستَحيلُ أن يحتاجَ إلى خَالِق، أي مَطلوبٌ منَ المؤمن المعتقدِ أن يَبقَى على اعتقادِه هذا وأنْ يُعرِض عن هذا الخاطِر، لأنّه مَن تَبِعَه قد يَصِلُ إلى حَدّ الشّكّ أي التَّردُّد أو الجَزْم بهذا الكفرِ الَّذي هو خِلافُ معتقَدِ المؤمن. وأن يَستَعِينَ بالله تباركَ وتعالى في دَفع هذا الخاطِر بقَولِ ءامَنتُ بالله وبرسُلِه، هذا ما دَلَّ عليه الحديثُ بطريقِ النّصِّ، وأمّا الأمرُ الثّاني فهو أنّ مَن سمِعَ هذا مِن غَيرِه يتَلفَّظُ به كما يَحصُل في زمَاننا هذا وقَبلَ هذا: اللهُ خلَق العالم فمَن خلَق الله علَيهِ أن يَنتَهيَ عن شَغْلِ بالِه بهذا الكلام الفاسِد وأن يَستَعينَ باللهِ تعالى للنّجاةِ مِن شَرّ هذا الكلام بأنْ يقولَ ءامَنتُ بالله وبرُسُلِه، وأمّا قائلُ هذا الكلام لَفظًا ونُطْقًا فلا يَخلُو مِن أحَدِ أمرَيْنِ، وهو إمّا أن يكونَ زِنديقًا لا يَدِيْنُ بدِينٍ مِنَ الأديان، وإمّا أن يكونَ جَاهلًا بالحقيقةِ التَبسَ علَيهِ الأمرُ، وكِلا هذَينِ على ضَلالٍ وكُفر، والإلهُ معناهُ الموجودُ الَّذي لا ابتداءَ لوجُودِه المستحِقُّ للعبادةِ أي نهايةِ التّذلّل، فمِنْ لازِمِ الألوهيّة أي مما يجبُ لِمَن ثبتَت لهُ الألوهيّةُ أن يكونَ منفَردًا بالأزليّة أي لا أحدَ سِوَاه أَزَلِيٌّ ويكونَ جميعُ ما سواه حَادِثًا.

ومِن الفلاسِفَةِ المنتَسِبينَ إلى الإسلام مع اعتقادِ أنّ العالَم أزليٌّ الَّذي أجمعَ المسلمونَ أنّ مُعتقِدَه كافرٌ طائفةٌ انتَسبَت إلى الإسلام وليسَ لها في الإسلام نصِيبٌ مِنهم ابنُ سِيْنا والفَارابيُّ ومَن تبِعَهُما، هذانِ قالا العالَم أزليٌّ بمَادَّتِه وصُورتِه لكنَّ وجودَ الله تعالى الأزليَّ اقتضَى وجُودَ هذا العالَم، فاللهُ أزليٌّ والعالَم أزليٌّ بمادّتِه وصُورَتِه، والآخَرونَ وهم مُحْدَثُو الفلاسفَةِ الذِينَ ليسُوا مِن قُدمائِهم قالوا العالَم أزليُّ الجنسِ والنَّوع حَادثُ الأفراد، حَادثُ الأشخَاص. قالوا: الأفرادُ حادثةٌ سبَقَها العدَم أمّا جِنسُ العالم لم يَسبقْه العدَم فهوَ أزليّ كما أنّ اللهَ أزليّ، وكلا الفَريقَينِ ضَلّلَهُم المسلِمُونَ أي حَكَمُوا علَيهم بأنّهم ضَالّونَ وأَنّهم كافرونَ، قالَ ذلكَ منَ العلماءِ ونصَّ علَيه كثيرٌ منهُم الفَقيهُ المحدّث الأصوليُّ بَدرُ الدّين الزَّرْكَشيُّ. في(تشنيفِ المسامع ِ)

قالَ أحَدُهم: انتَبِهوا للنّقل.

 فقال الشيخ: ذكّرَنا كلامُكَ بما جاءَ عن ابنِ عبّاس رضيَ الله عنهما كان يقول:«أَفهِمُوْني ما تقُولُونَ وافْهَمُوا عَنّي ما أقُول» المعنى أنّ السَّائِلَ ينبَغي أن يُوْضِحَ السّؤالَ، والمجيبَ يَنبَغي أن يكونَ جَوابُه مُفهِمًا حتّى لا يَلتَبِسَ الأمرُ على أحدِ الطّرَفَيْن.

هَذا مَوضوعٌ مهمّ يجبُ فَهمُه على حقِيقَتِه وهوَ أنّ اللهَ تَبارك وتعالى ثبَتَت لهُ الألُوهيَّةُ عَقلًا ونَقلًا، بالدّلائلِ العقليّةِ تَثبُت ألوهيّتُه وبالنَّقل كذلك، الكتُبُ السّماوية تُثبِتُ ذلكَ، وأنّ مِن خَصائص الألوهيّةِ الأزليّةَ والقِدَمَ أي أنّ الإلهَ مِنْ شأنِه أنّه لا ابتداءَ لوجُودِه وأنّ ما سواه حَادثٌ بإحداثِه. ومِمّن نقَل الإجماعَ على تكفيرِ الفَريقِ الَّذي يقول العالمُ قَديمٌ أزليٌّ بمادَّتِه وصُورتِه أي تَركيبِه والقائلِ بأنّ العالَم قَديمٌ بجِنسِه ونوعِه حَادثٌ مخلُوقٌ بأفرادِه، الإمامُ بَدرُ الدّينِ الزّركشيُّ في كتابه تَشنيْفُ المسامِع بشَرح جمع الجوامع، ومِمّن نَصّ على تكفيرِهم الفقيهُ المجتهدُ المحدّثُ الحافظُ الأصُوليُّ اللّغويُّ النَّحْوي تقيُّ الدّينِ السُّبكيّ، وكذلك نقَل تكفيرَ القائلِ بأزليّة العالَم الفقيهُ المشهُور المعروفُ كنَارٍ على علَم النَّوويُّ وكانَ شافعيًّا، وقَبلَه القاضي عِياضٌ المالكيُّ وهوَ مِنَ الحُفّاظ المحَدّثين الذين جمَعوا بينَ مَرتبَةِ الحِفْظ للحَديث والفِقه، وغيرُهم نقَل الإجماعَ على تكفير مَن يقول بأزلية غيرِ الله.

فالذينَ يقولونَ إنّ العالَم أزليٌّ بنَوعِه حادثٌ مخلوقٌ بأفرادِه يُمَوّهونَ بكلامِهم بأن يقولوا في بعضِ عِباراتِهم فكُلُّ ما سوى الله حَادثٌ مخلوقٌ ثم مع ذلكَ يقولونَ نَوعُ العالَم لم يزَلْ معَ الله، الَّذي يقِفُ على تلك العِبارةِ الأُولى كلُّ ما سِوى الله مخلوقٌ حادثٌ يقولُ : هَذا على هُدَى هذا عَينُ الحقّ فيَنفِي عنهُ ذلكَ المعتَقَدَ الخبِيثَ أي أنّ نوعَ العالَم أزليٌّ، لكنّه إذا كانَ بَصيرًا بالعِبَاراتِ فوقَع على هذه ووقَع على تلكَ أي وقَع على قولِه: كلُّ ما سوى الله مخلوقٌ حادثٌ ووقَعَ على قوله: نوعُ العالَم لم يَزَلْ مع الله هَذا كَمالٌ للهِ تعالى يَعرِف أنّ هذا الإنسانَ نفَى الأزليّةَ عن الأفرادِ فقَط.

مَعنى الألوهيةِ أنّ اللهَ هو الأزليُّ فقَط فكانَ هو خَالقًا لكلّ ما سِواه. ومِمّن قال بأنّ العالَم أزليٌّ بنَوعِه حَادثٌ بأفرادِه ابنُ تيميةَ ومع ذلك فابنُ تيميةَ يُكَفّرُ ابنَ سِينا والفَارابي، والكُتبُ التي ذكَرَ فيها ابنُ تيميةَ مَقالاتِه الفاسِدةَ منها مِنهاجُ السُّنَّة النبويّةِ وشرحُ حديثِ النّزولِ وشرحُ حديث عِمران بنِ الحُصَين ونَقدُ مَراتِب الإجماع والموافقَة. مُوافقَة صَريح ِ المعقُول لصَحِيح ِ المنقُول.

ومِمّن اطّلَعَ على مقالاتِ ابنِ تَيميةَ الحافظُ الفَقِيهُ المحدّثُ الأصوليُّ اللُّغَويُّ النّحْويُّ تقيُّ الدّين علي بنُ عبدِ الكَافي السُّبكيُ، وتقيُّ الدينِ السُّبكيُّ كانَ قَاضيًا بدمشقَ، وكانَ وَرِعًا زاهِدًا. هذا الحافظُ تقيُّ الدّينِ السُّبكيُّ قال فيهِ الذّهبيّ: (الوافر)

لِيَهْنَ المِنبَرُ الأُموِيُّ لمَّا                             عَلاَهُ الحاكم البَحْرُ التَّقيُّ

شُيوخُ العصر أحفظُهُم جميعًا                 وأخطبُهم وأقضاهُم عَليُّ

يعني عليَّ بنَ عبدِ الكافي السُّبكيّ، هذا كَفّرَ ابنَ تَيميةَ ونقَلَ عنه أنّه جَعلَ العالَم المحدَثَ أزليًّا والأزليَّ مُحدَثًا، قالَ: لم يجمَعْ بينَ هاتَينِ الضّلالتَينِ أحَدٌ قَبلَه. معنى ذلك أنّ ابنَ تيميَةَ يَقُولُ اللهُ تَحدُث في ذاتِه إرادَاتٌ إرادةٌ بعدَ إرادةٍ وإرادةٌ بعدَ إرادةٍ وكلامٌ بعدَ كلامٍ وكلامٌ بعدَ كلامٍ، فجَعَلَ الذّاتَ المقدَّس الأزليَّ القَديمَ مُحدَثًا لأنّهُ نسَبَ إليه أنّه تَحدُث في ذاتِه إراداتٌ حادثةٌ متَواليةٌ لا انتهاءَ لها.

السُّبكيُّ ليسَ كبَعض العُلَماء الفقهاءِ الذين تولَّوُا القضاءَ ممّن ليسَ لهم تَمكُّنٌ في التَّقْوى بل قالَ الحافظُ المحدّث صلاحُ الدّين الصّفَديُّ في السُّبكيّ: «أنا لا أُشَبّهُه إلا بسُفيانَ الثَّوريّ» معناهُ أنّه ليسَ مِن هؤلاء المتعلّقِينَ بالدّنيا ولو تَولّى القَضاء، لأنّ مِنَ النّاس مَن تَولَّوا القضاءَ لإحياءِ شَريعةِ الله ليسَ لحَظّ النَّفس. الإمامُ السُّبكيّ كانَ خَطيبَ الجامع الأمَويِّ وأقواهُم في القَضاء الشّرعيّ.

كانَ في بلَدِنا بلادِ الحبشة شيخٌ يُقالُ لهُ محمَّدُ بنُ إدريسَ هَذا كان قَاضيًا تَقيًّا زاهدًا ورِعًا إلى حدٍّ كبيرٍ حتَّى إنه بَعدَ موتِه درّس تلميذًا لهُ، كانَ توفّي الشّيخُ قبلَ أن يُنهِي كتابًا بدَأ بدِراستِه (علَيه) فحَزِنَ هَذا الطّالبُ حَزَنًا شَديدًا لأنّهُ ما أكمَل دِراسَةَ هذا الكتابِ على شَيخِه محمَّد بنِ إدريس، فجاءَه في الرّؤيا قال لهُ: خُذِ الكتابَ معَك وتعالَ إلى قَبري اقرَأ كما كنتَ تَقرأ أنا أشرَح لكَ، فجَعَل يَذهَبُ إلى القَبر فيَفتَحُ الكتابَ ويَقرأ فيهِ فيَشرحُ له الشّيخُ مِن القَبر حتى أَنهى هذا الكتابَ، ثم أخَذ كتابًا ءاخَرَ مَعه فلَم يَرُدَّ علَيه.

الإمامُ ابنُ سِيرينَ الَّذي أخَذَ العلمَ مِنَ الصّحابة قال: «إنّ هذا العلمَ دِينٌ فانظُروا عمّن تأخذُونَ دِينَكُم» معناهُ لا يؤخَذُ عِلمُ الدّين عن أيّ إنسانٍ يَدّعيْه إلا عن الثّقاتِ الذين لهم كَفاءَةٌ.

يقولُ ابنُ تَيميةَ في كتابه شَرح حديثِ عِمران بنِ الحُصَين: “وإنْ قُدِّر أنّ نوعَها” أي نوعَ المفعولاتِ أي المخلوقاتِ “لم يزَلْ معَه أي مع اللهِ فهذه المعِيَّةُ لم يَنْفِها شَرعٌ ولا عَقلٌ بل هيَ مِن كمَالِه”. جعَلَ إثباتَ نوع العَالم في الأزَل مع الله أي أنّ اللهَ لم يتقَدّمْه بالوجُود، جعَلَ هذا القولَ الَّذي هو مِن أصول الكُفر كمَالًا للهِ تعالى، معناه لو لم يكن معه في الأزلِ مخلوقٌ لكانَ ناقِصًا.

وقَد ذُكِرَ في كتاب النّهر المادِّ مِن البَحر للإمام أبي حَيَّانَ الأندلسِي شَيخِ النّحْو واللّغةِ والقِراءاتِ يقولُ وفي الحديث أيضًا: «ما الكرسيُّ في جَنبِ العَرشِ إلا كحَلْقةٍ مِن حَديدٍ ألقيتَها في فلاةٍ مِن الأرض»([1]) وقرأتُ في كتابٍ لأحمدَ بنِ تيميةَ هذا الَّذي عاصَرَنا وهو بخطِّه سمَّاهُ كتابَ العَرش إنَّ الله تعالى يَجلِسُ على الكرسيِّ وقد أخلَى منه مكانًا يُقعِدُ فيه معهُ رسولَ الله، تَحيّلَ عليهِ التّاجُ محمَّدُ بنُ عليّ بنِ عبد الحقّ البَارَنْبَارِي وكانَ أظهرَ أنّه داعِيَةٌ لهُ حتى أخذَه منه وقرأنَا ذلكَ فيه” اهـ.

ابنُ تيميةَ كانَ حَافظًا، حَنبَليًّا في الفُروع، وأَصلُه مِن حَرَّان([2]) أبوه جلَبَه مِن حَرّان وحَطَّه في دِمشق. وكانوا قَد عمِلُوا لابنِ تيميَةَ مجالسَ مُناظَرة فأُفحِم فيها وانْقطَع، فأظهَرَ تَراجعَه وكتَب بخَطّه رجَعْتُ إلى ما عليهِ الجماعَةُ، ثم صارَ يَنقُض ثم يُحبَس ثم يُفرَجُ عنه وهكذا حتّى  مَلُّوا منهُ، فحُبِسَ بإجماع العلماءِ وَوُلاَة الأمور، الحافظُ تقيُّ الدّين السُّبكيُّ هو الَّذي قال: “حُبِسَ بإجماع العلماءِ ووُلاةِ الأمُور”، وكانَ السُّلطانُ في الوقت الَّذي كانَ فيه ابنُ تيميةَ ابنَ قَلاَوُوْن.

ابنُ تَيميةَ ما كانَ يُظهِر قولَه بأنّ اللهَ جَالسٌ على الكرسيّ إنّما كانَ يُظهِر مسئَلةَ الطّلاقِ أي بعدَم اعتبارِ الطّلاقِ الثّلاثِ إذا وقَعَ بلَفظٍ واحِدٍ طلاقًا ثلاثًا، على أنّ هذه عندَ الحُكَّام أكثرُ ما كانَ يُناظَرُ فيه، ومسئلةُ قولِه بالجِهَة لفظًا، وابنُ تيميةَ كانَ خرَق الإجماعَ بمسائلَ كثيرةٍ نحوُ سِتِّينَ مسئلة([3]).

والذهبيُّ قالَ عن ابنِ تيميةَ قبلَ أن يَعرفَ أنّهُ يقولُ كَلامًا كفريًّا: “ومَا رأَتْ عَينايَ مِثلَه، وكأنّ السُّنَّة نُصْبَ عَينَيْهِ”، ثم لما تبَيّن لهُ فيهِ الخُبثُ قال: “وما جَرى عليه وعلى أتباعِه إلّا بَعضُ ما يستَحقّونَه” لأنّ ابنَ تيميَة حُبِسَ مَرَّاتٍ عديدةً  إلى أنْ ماتَ في القَلعَةِ التي حُبِس بها بدِمشقَ ودُفِنَ، والقولُ قالَه الذّهبي في كتابه بيانُ «زَغَلِ العِلم والطَّلَب».

اللهُ تعالى لا يَمَسُّ ولا يُمَسُّ واللهُ تعالى مُنزّه عن الاتّصالِ والانفِصال، إنّما العرشُ اللهُ تعالى وصفَه بالكريم وبالمجيدِ لأنّه لم تَجْرِ فيهِ معصيةٌ للهِ تبارك وتعالى لأنّه يَحُفُّ به الملائكةُ الْمُكْرَمُون، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}. 75 سورة الزمر.

 ثم عِظَمُ الشَّأنِ هو بالقَدْر ليسَ بالمكان، أفضَلُ الخَلق سيّدُنا محمَّدٌ أينَ وُلِدَ وأينَ عاشَ وأينَ دُفِنَ وأينَ هو مستَقِرٌّ الآنَ في الأرض؟، في قَبرِه، والملائكةُ الذينَ حَولَ العَرشِ أقلُّ منهُ دَرجَةً عندَ اللهِ بمَراحلَ بعِيدةٍ، وفي الدُّنيا قَد يكونُ الملِكُ سلطانُ البلادِ بَيتُه في بَطْن الوادي في السّهْل والحُرّاسُ تكونُ بيُوتُهم في الأعالي في الجِبال. فالشّأنُ ليسَ في عُلوِّ المكان.

السَّماواتُ السّبعُ مَشحُونَةٌ بالملائكة، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} هذه الآيةُ تَفسيرُها بالملائكة لأنّ الرَّسولَ ﷺ قال: «ارحَمُوا أهْلَ الأرضِ يَرحَمْكُم أَهلُ السّمَاء» رواه أحمد وأبو داود. أهلُ السّماءِ هُم الملائكةُ، فقولُه تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} 16 سورة الملك. مَعناهُ لو أمَرَ اللهُ تعالى الملائكةَ سُكّانَ السّماواتِ أن يَخسِفوا بكم الأرضَ يا مُشركونَ مَن يُنقِذُكُم مَن يَحولُ بينَ ذلكَ وبَينَكُم. مَلَكٌ واحِدٌ يَكفِيهِم لو أمرَه اللهُ تعالى أن يَخسِفَ بهِمُ الأرض.

 لمّا ءاذَى المشركونَ الرَّسولَ ﷺ جاءَ مَلَكُ الجِبال، جِبريلُ قالَ لهُ: يا محمَّدُ هذا مَلَكُ الجِبال أمرَهُ اللهُ تَعالى بأنْ يَفعَلَ ما تُريدُ، فجَاء ذلكَ المَلَك الَّذي يُصَرّفُه الله تعالى في الِجبال قال: يا محمَّدُ إنْ شِئْتَ أَطْبَقتُ عليهِمُ الأخْشَبَيْن، يَعني جَبَلَيْ مَكّة، قال: «لا أُريدُ ذلكَ، أرجُو أن يُخْرِجَ اللهُ مِن أصْلَابِهم مَن يُوَحِّدُ اللهَ» رواه البخاري ومسلم والنسائي. ملائكةُ اللهِ يَستطيعُونَ أن يَقْلِبوا هذه الأرضَ على الكفّارِ فيُدمِّروهم تَدميرًا، لكنَّ اللهَ تعالى شاءَ أن يؤجّلَ لهم عذابَهم إلى الآخرةِ، هُناكَ العَذابُ الأكبر، مَاذا تَكونُ هذه الأساليبُ التي هم يؤذُونَ بها المؤمنِينَ بالنّسبةِ لعذابِ اللهِ، جبريلُ لو أمرَه اللهُ أن يصِيحَ على أهل الأرض لأمَاتَ جميعَهم مِن قوّةِ صَوتِه كما أماتَ ثمود، ثمودُ أبادَهُم جِبريلُ بصَيحَتِه، أمرَه اللهُ تعالى فصَاحَ عليهم فهلَكوا ما بقِي منهُم أحدٌ. لغةُ القرءان الكريم أشرَفِ الكتُبِ وأفضلِها وأفصَحِها عربيّةٌ.

هنا أمرٌ مهمٌّ إنْ قال قائلٌ: فما الدّليلُ القرءانِيُّ والدليلُ الحديثيُّ على أنّ اللهَ هوَ الأزليُّ فَقط لا أزليَّ سواه؟

الجوابُ: الدليلُ على أنّ اللهَ تعالى هو الأزليُّ ولا أزليَّ سواه قولُه تعالى {هوَ الأوّلُ} الأوّلُ أي هو فقط الأزليُّ، لا أَزلِيَّ سواه. وأمَّا الدّليلُ الحَديثيّ فهو قولُه ﷺ: «كانَ اللهُ ولم يَكُن شىءٌ غَيرُه وكانَ عَرشُه على الماء» رواه البخاري والبيهقي وأبو بكر بنُ الجارود وغيرُهم. أي أنّ الله تعالى لم يكنْ في الأزل شَىءٌ سواه، قولُه عليهِ الصَّلاة والسَّلام: ولم يكن شىءٌ غيرُه “فيهِ أَبْيَنُ البَيانِ أنّ اللهَ تَباركَ وتعالى لم يكن في الأزلِ شَىءٌ سِواه مُطلَقًا.

يُقال للوهّابيّةِ هذا الجنسُ جِنسُ العالَم غَيرُ الله أم هو ذاتُ الله؟ يَقولونَ ويَعترفونَ بأنّهُ غَيرُ الله، يُقالُ لهم إذًا أنتُم كَذّبتم كلامَ رسولِ الله، جعَلتم جنسَ العالَم وهو غيرُ الله أزليًّا، هنَا كذّبَ ابنُ تيميةَ رسولَ الله، الوهابيُّ مِن خُبثِه يقولُ هذه الرّوايةُ لا نَأخُذ بها نحنُ نَأخُذ بروايةِ: «كانَ اللهُ ولم يَكنْ شَىءٌ قَبلَه» رواه البخاري وابنُ حِبّان، مع أنّ روايةَ «كانَ اللهُ ولم يكن شَىءٌ غيرُه» هيَ الرّاجحَةُ، لو سَلَكْنا مَسْلَكَ التّرجِيح حتى يُلْغَى الآخَرُ لقُلنا هذا هو الصّحيحُ وتلكَ الرّوايةُ مُلْغَاة. هوَ مِن خُبثه يقول: نحنُ نأخُذ بروايةِ: «ولم يَكن شىءٌ قَبلَه» فلا نُنافي وجودَ جِنسِ العالم مع اللهِ في الأزل فارتكَزَ على هذا الفَهم الفاسِد.

أمّا نحنُ نقولُ روايةُ: «ولم يكن شىءٌ قَبلَه» لا تُنافي روايةَ: «ولم يكن شَىءٌ غيرُه» ولو أرَدنا التّرجيحَ لرجَّحْنا روايةَ: «ولم يكن شَىءٌ غيرُه» وجعَلنا تلكَ مَرجُوحَةً.

الحافظُ ابنُ حَجَر يقولُ وهَذه الرّوايةُ أي روايةُ: «ولم يَكن شَىءٌ غيرُه» أصرَحُ في نفي القَولِ بحوادِثَ لا أَوَّلَ لها، وهذه مِن المسائلِ المنسُوبَةِ لابنِ تيميةَ المسْتَبْشَعَة.

وقالَ عنه: إنّه لمّا ردَّ على الرّافضِيِّ، تحَامَل على الرّافضي، فرَدَّ أحاديثَ صحيحَةً كثِيرةً وحتى إنّه انتقَصَ عليَّ بنَ أبي طالب، هكذا قال الحافظُ ابنُ حَجر، والذي يَنتَقصُ عليَّ بن أبي طالب فأمرُه مَعلوم، الرَّسول صلى الله عليه وسلم قال: «مَن سَبَّ عليًّا فقَد سَبَّني، مَن ءاذى عَليًّا فقَد ءاذاني» رواه أحمد والنسائي والحاكم” هذا منَ الأحاديث الصِّحَاح. معناه كأنه سبني. مَعنَاهُ علَيهِ ذَنبٌ كَبِيرٌ. ليسَ مَعنَاه أنّ سَبَّ عَليٍّ وسَبَّ النّبيّ سَواءٌ.

اللهم فقِّهنا في الدّين اللّهم اجعَلنا هَادِينَ مَهديّين غيرَ ضَالّين ولا مُضِلّين، اللّهم اجعلنا مِن أهل الإحسان الذينَ يخشَونَك كأنّهم يَرَوْنك. ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبَقونا بالإيمان.

اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والحمدُ لله ربّ العالمين وصلَّى الله وسلَّم على النّبيّ وآلِه، وَاللهُ أَعْلَم.

([1])  قال عليه الصلاة والسلام: «يا أبا ذَرّ مَا السّمَاواتُ السَّبعُ معَ الكُرسيّ إلا كحَلْقَةٍ مُلقَاةٍ بأرضٍ فَلاةٍ وفَضلُ العَرشِ على الكُرسيّ كفَضْل الفَلاةِ على الحَلْقَة» رواه ابن حبان وغيره.

([2])  التي في تركيا.

([3])  كما ذكر الحافظ ولي الدين العراقي.