الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}
[الدخان: 4].

قال الإمام المفسر السلفي محمد بن جرير الطبري في تفسيره ما نصه([1]): «والصواب من القول في ذلك قول من قال عنى بها ليلة القدر». اهـ.

قال الإمام المفسر محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرءان» ما نصه([2]): «قال ابن عباس: يُحكِم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم. وقيل: إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران، قاله ابن عمر. قال المهدوي: ومعنى هذا القول أمر الله – عزّ وجلّ – الملائكة بما يكون في ذلك العام ولم يزل ذلك في علمه عز وجل». اهـ.

قال الإمام المفسر النَحْوي اللغوي الأصولي الفقيه المحدث المحقق المدقق الجليل النبيه النبيل الشيخ عبد الله بن محمد الهرري المعروف بالحبشي رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في الفردوس الأعلى في كتابه الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم: «تقدير الله لا يتغيّر.

اعلم إن تقدير الله تعالى الأزلي لا يُغيّره شيء لا دعوة داعٍ ولا صدقة متصدق ولا صلاة مصل ولا غير ذلك من الحسنات بل لا بد أن يكون الخلق على ما قدّر لهم من غير أن يتغيّر ذلك. وأما قول الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فليس معناه أن المحو والإثبات في تقدير الله، بل المعنى في هذا أن الله جل ثناؤه قد كتب ما يصيب العبد من عباده من البلاء والحرمان والموت وغير ذلك وأنه إن دعا الله تعالى أو أطاعه في صلة الرحم وغيرها لم يُصبه ذلك البلاء ورزقه كثيرًا أو عمّرَه طويلاً، وكتب في أم الكتاب ما هو كائن من الأمرين فالمحو والإثبات راجع إلى أحد الكتابين كما أشار إليه ابن عباس، فقد روى البيهقي عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} قال: يمحو الله ما يشاء من أحد الكتابين، هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويُثبِت وعنده أم الكتاب.

والمحو يكون في غير الشقاوة والسعادة، فقد روى البيهقي أيضًا عن مجاهد أنه قال في تفسير قول الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أنه قال يُفرِقُ في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، فأما كتاب الشقاء والسعادة فإنه ثابت لا يغيّر.

فلذلك لا يصح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الدعاء الذي فيه: إن كنت كتبتني في أم الكتاب عندك شقيًا فامح عني اسم الشقاء وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني في أم الكتاب محرومًا مقتّرًا علي رزقي فامح عني حرماني وتقتير رزقي وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير، فإنك تقول في كتابك {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ولا ما أشبهه، ولم يصح هذا الدعاء أيضًا عن عمر ولا عن مجاهد ولا عن غيرهما من السلف. كما يُعلم ذلك من كتاب «القدر» للبيهقي.

بعض الناس يعتقدون انه إذا تصدق من مالٍ من حلال الله يغيّر مشيئتُه وبعضُهم يظن أن الدعاء يغيّر مشيئة الله وهذا غير صحيح بل اعتقاده كفر لأن فيه نسبة التغيّر إلى الله، والتغيّر هو أكبر أدلّة الحدوث، أكبر الأدلّة أنّ هذا الشيء حادث. الحسنات لا تغيّر مشيئة الله، بل لا بد أن يحصل من الخلق ما شاء الله حصولَه منهم من غير أن يتغيّر ذلك. من شاء الله له أن يحيا لا بد أن يحيا، من شاء الله له أن يموت في لحظه لا بد له أن يموت في تلك اللحظة، من أراد الله له أن يهتدي لا بد أن يهتدي، من شاء الله له أن يكون واسع الرزق لا بد أن يكون كذلك ومن شاء الله له أن يكون فقيرًا لا بد أن يكون كذلك. رجلٌ من الناس كان مسافرًا ومعه زوجتُه وكانت زوجتُه حاملاً كانوا مسافرين في أرضٍ لا بشر فيها يسكنونها في أثناء السفر جاء الوضع لزوجته فولدت ولدًا غلامًا صبيًّا ثم بعد أن ولدته ماتت، فدفنها زوجُها واحتارَ في أمر الولد، فكّر أنه إذا أخذه معه سيموت في الطريق لأنه لا يوجد من يُرضِعُه وسيمر وقت طويل قبل أن يصل إلى موضع فيه بشر فوضعه في غارٍ هناك ووضع حجارةً على باب الغار حتى لا يدخُل حيوانٌ فيفتَرِسَهُ ومضى، لأنه خشي أن يموت ولده عطشًا، لا ماءَ معه ولا غير ذلك، ثم هذا الرجل نجى في ذلك السفر، وصل إلى مقصِدِه، وظنّ أن ولدَه قد مات، ثم بعدما أنهى عمله الذي كان يريد رجع إلى ذلك الموضع، فوجد الغلام حيًّا فيه وهو يرضع إصبَعه وقد جعل الله له في أصبعِه ثقبًا ينزل منه الحليب. هذا الكلام مذكور في كتب أهل العلم يرووُنَه بالإسناد عن ذلك الشخص هذا يدل على أنه لا يحصل للعبد إلا ما أراد الله. قال تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه فسّر هذه الآية فقال: يغفِرُ ذنبًا معناها أن الله كل يومٍ يغفر ذنبًا، ويفرّج كربًا ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء أي يغيّر أحوال العباد على حسب علمه الأزلي ومشيئتِه الأزلية من غير أن تتغير مشيئتُه ومن غير أن يتغيّر علمُه. ومما يدل على ما ذكرناه أي أن القضاء الـمُبرم لا يتغيّر مهما دعَ الداعِي أو تصدّق المتصدق أو فعل الـمُحسن من الحسنات أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «سألتُ ربي أربعًا فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة، سألتُه ألّا يُهلِك أمتي بسنةٍ عامّة» يعني ألّا يأتي على المسلمين مجاعة يموت بها كل المسلمين قال: «فأعطانيها، وسألتُه ألّا يُهلِكهم بما أهلك به الأمم من قبلهم» أي كأمّة عاد وثمود كالذين أُهلِكوا بصيحة جبريل أو بالريح، معناه أن النبي طلب من ربه ألّا يهلك كل أمته ألّا يموت كل أمته بعذاب عُذّب به الأُمم من قبلهم فأعطانيها، قال: «وسألته ألّا يُظهر عليهم عدوًا من غيرهم يستأصلَهم» يعني ألّا يأتي عدو من غير المسلمين فيقتل كل المسلمين. قال: «فأعطانيها، وسألته ألّا يجعل بأسهم بينهم» يعني ألّا يتقاتل المسلمون في ما بينهم، قال: «فمنعنيها». هذا الحديث رواه ابن مردويه ورواه مسلم أيضًا برواية أخرى وفيها عِبارةٌ زيادة على رواية ابن مردويه، وهي أن الله تعالى قال: «يا محمد إني إذا قضيتُ أمرًا فإنه لا يُرد» لذلك قال ابن عباس رضي الله عنه لا ينفع الحذَرُ من القدر يعني إذا قدّر الله على إنسان أن يصيبه شيء مهما اجتهد وحسَبَ لا بد أن يقع في هذا الشيء، وهو له عباره أخرى: إذا وقع القدر عَميَ البصر، يعني إذا شاء الله لإنسان أن يقع في شيء مهما كان هذا الإنسان ذكيًا وحذرًا لا بد أن يقع فيه كأن بصره يعمى عن ذلك. ولقوله هذا مناسبةٌ، كان ابن عباس يكلم بعض الناس في تفسير بعض آيات القرآن فكان من جُملة ما قال لهم، إن الهُدهد يرى الماء تحت الأرض هذا مذكور في القرآن ومن الناس من كان يستفيد منه في معرفة أين يحفرون لإخراج الماء، فقال له إنسان خبيث، هذا الإنسان من الخوارج الشاذين عن عقيدة أهل السُّنَّة، قال له: فكيف يقع في الفخ؟ يرى الماء تحت الأرض ثم يقع في فخ الصياد، لا يرى فخ الصياد؟ فقال له ابن عباس: إذا وقع القدر عميَ البصر، أي يقع فيه الشخص كأنه أعمى. ما ذكرناه من المحو من بعض كتب الملائكة لا يدخل على الشقاوة والسعادة، المراد الشقاوة والسعادة الأخرويان هذا يكون مكتوبًا في كتابٍ للعبد ولا يتغيّر، مكتوب هل يختم له على خاتمة خير أو خاتمة سوء. قضاءً مبرمًا هذا لا يدخله التغيّر. هنا يعلم مما ذكرناه انه لا يصح ما يقوله بعض الناس، ليس صحيحًا أنّ النبي قاله، في ليلة النصف من شعبان بعض الناس اعتادوا أن يقولوا دعاءً، يقولون: اللهم إن كنت كتبني في أم الكتاب شقيًا فامحُ عني اسم الشقاء واثبتني عندك سعيدًا وإن كنت كتبيني في أم الكتاب محرومًا مقتّرًا علي في الرزق فامحُ عني حِرماني وتقتيرَ رزقي، فإنك تقول في كتابك: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}. هذا الدعاء لم يصح عن رسول الله، ولم يصح عن عمر، ولم يصح عن مجاهد، ولا عن غيرهم من السلف، كما بين ذلك الإمام البيهقي في كتاب القدر، لكن الذين يقولونه لا يُحكم عليهم بحكمٍ واحد، إنما يقال: من قاله وكان يفهم منه يا رب غيّر مشيئتك، فهذا كفر، أما من قاله وهو يفهم منه يا رب إذا كنت كتبتـني أن أكون لمدة من الزمن على حال سيئة فغيّر حالي إلى حالٍ حسنة لا يكفر، فالحُكم يرجع إلى قصد الشخص في هذه المسألة». اهـ.

([1]) طبعة دار الجيل – بيروت، المجلد الحادي عشر الجزء 25 ص64).

([2]) الجامع لأحكام القرءان، دار الفكر، الطبعة الأولى ص126.