فضَلُ عِلمِ الكَلام والاشتِغالِ به
الحمدُ لله ربّ العالمينَ صَلواتُ اللهِ البرِّ الرَّحيم والملائكةِ المقرَّبينَ على سيّدِنا محمَّدٍ أشرفِ المرسلينَ، اللّهُمّ علّمْنَا مَا جَهِلْنا وذكِّرنَا ما نَسِيْنا وَزِدْنا عِلمًا،
مِنَ الثّابِتِ المعلُوم عندَ أهْلِ العِلمِ أنّ أفضَلَ العلُوم العِلمُ الذي يُعْرفُ بهِ ما يَليقُ بالله وما لا يَليقُ به وما يليقُ بأنبيائه وما لا يليقُ بأنبيائه هذا أشرفُ العلُوم، ثم هذا العِلمُ على مَرتبَتَينِ المرتَبةُ الأولى التي هي لعَوامّ المؤمنينَ أي التي هي فَرضٌ على كلِّ بالغٍ عاقلٍ منَ المسلِمِينَ، أنْ يَعرفَ مَا يجِبُ للهِ ويَستَحِيلُ علَيهِ ومَا يجوزُ لهُ بحَيثُ يحصُل لهُ اعتقادٌ جَازمٌ لو لم يَعرف الأدلّةَ البُرهانيّةَ العقليّةَ على إثباتِ هذه العقائدِ لهُ، عرَف أو لم يَعرف.
الفَرضُ العَينيّ مِن هذا العِلم الذي هو فَرضٌ على كلّ مسلِم بالِغ عاقِلٍ أن يَعرف هذه العقائدَ، يجِبُ أن يَعرفَ بأنّ اللهَ موصُوفٌ بالوجُودِ والقِدَم أي الأزليّةِ أي أنّ وجُودَه ليس لهُ ابتداءٌ، وَالوَحْدانيةِ أي أنّه لا شَريكَ لهُ في ذاتِه ولا في صِفاتِه ولا في أفعالِه، والقِيَامِ بنَفسِه أي أنّه لا يحتَاجُ إلى غيرِه وكُلُّ شىءٍ يحتاجُ إليه، والمخالفةِ للحوادِث أي لا يُشبِهُ شَيئًا مِن المخلوقاتِ، وأنَّ لهُ قُدْرَةً أزليَّةً وأنّ لهُ إرادَةً أزليَّةً وأنّ لهُ حَياةً أزليَّةً ليسَت كحياةِ غَيرِه وأنّه متَّصفٌ بالعِلم الأزليّ، وأنّ لهُ الكلامَ، كلُّ هَذا معَ التّنزيهِ عن مُشَابَهتِه للخَلق، وأنّ لهُ سَمْعًا وبَصَرًا أي يَرى ويَسمَع، هَذه الصّفاتُ الثّلاثَ عَشْرَةَ مَعرفتُها فَرضٌ عَينيٌّ على كلّ بالغٍ عاقلٍ، أمّا مَا سِوى هَذه الصّفاتِ الثّلاثَ عَشْرَةَ فيجِبُ مِن بابِ الوجوبِ الكِفَائيّ أي إذا عَلِمَهُ بعضُ المسلمينَ سقَط الحَرَجُ عن الآخَرِينَ.
فمَن عرَفَ هذه الصّفاتِ الثّلاثَ عَشرَةَ بدَليلٍ عَقلِيّ أو بدُونِ دَلِيل أي بدونِ مَعرفةِ الدَّليْل وعَرَفَ مَا يجِبُ للأنبياءِ مِن دوْنِ دليلٍ فقَد قامَ بما هو فَرضٌ عليهِ مِن الاعتِقاد، هذه المرتَبةُ الأولى التي هيَ فَرضٌ على كلّ مسلِم بالغٍ عاقِل.
والمرتَبةُ الثّانيةُ هيَ مَعرفَةُ هذه الصّفاتِ الواجبةِ لله بالدّليل العَقليّ والنّقليّ، هذه فَرضُ كفايةٍ ليسَت فَرضَ عَين، العَوَامُّ ليسَ فرضًا علَيهم أن يَعرفوا هذه الصّفاتِ بدلائِلها العقليّةِ والنّقليّةِ أي أنّ هَذا ليسَ فرضًا على كلّ مُكلّف أي بالغ عاقلٍ إنّما هذا فَرضٌ أي تَحصيلُه على بعضٍ منَ المسلمِينَ. كما أنّ عِلْمَ الأحْكام على مَرتبَتَين، علمُ الأحكام التي تتَعلّقُ بالصّلاةِ والصّيام والحجّ والزَّكاةِ على مَرتَبتَين مرتَبَةٍ أُوْلَى ومَرْتَبَةٍ فَوْقَها.
ويَنْضَافُ إلى هذه المرتَبةِ الثّانيةِ التّمَكُّنُ في مَعرفةِ الدّلائلِ حتّى يَسْتطيْعَ المسْلمُ الذي عرَفَ هذه الدَّلائلَ دَحْضَ تَشكِيكاتِ الملحِدينَ والبِدعيِّيْن، والملحِدونَ هُم الذينَ لا يَنتَسِبونَ إلى الإسلام إنّما هُم زَنَادقَةٌ يُريدُونَ أن يُشَكِّكوا المسلمينَ في دِينِهم لِيَنْحَلَّ عَقْدُ قلُوبِهم عن دِيْنِهم، وأمّا البِدعِيُّون فهمُ الذينَ يَنتَسِبُونَ إلى الإسلام وهُم ضالّونَ ليسُوا مُهتَدِينَ، ثمّ هؤلاء البِدعِيُّونَ هُم في حَدِّ ذاتهِم صِنفانِ صِنْفٌ خَرجُوا مِنَ الإسلام وهم ينتَسِبُونَ إلى الإسلام ولا يَدرُونَ بأنّهم خرَجوا منهُ كهؤلاء المعتزلةِ الذينَ يقولونَ العَبدُ يَخلُقُ أفعالَ نَفسِه بقُدرةٍ خلَقَها اللهُ فيه وأنّ اللهَ لا يخلُق شيئًا مِن أعمالِ العَبْدِ بل العبدُ هوَ يَخلُق أعمالَه،يقولونَ بَعدَ أن أعطاهُ القُدْرةَ صارَ عاجزًا عن خَلق هذه الأفعال، أي حركاتِ العِبادِ وسكُونِهم، هؤلاء يَدّعُونَ الإسلامَ بل يَدّعونَ أنّهم خِيْرَةُ المسلمِينَ، يَزعُمُونَ ذلك، وهم لَيسُوا منَ الإسلام في شَىء، ليسَ لهم حَظٌّ مِنَ الإسلام، فالعِلمُ الذي يُتَمَكَّنُ به مِن دَحْض تَشكِيكاتِ هؤلاء وشُبِهِهِم فَرضٌ على الكِفايةِ، أي ليسَ على جميع الأفرادِ المسلِمَةِ بل على قِسمٍ مِنهُم، هذا العِلْمُ كانَ في السَّلَف، هذا أبو حنيفةَ رضي الله عنه كانَ تُوفّي في منتَصف السَّلَف، السّلَفُ مَعناه أهلُ القُرونِ الثّلاثِمائةِ الأولى، ثم مَن جاءَ بعدَ ذلك يُقال لهم خَلَفٌ، فخِيْرَةُ هذه الأُمَّةِ هُم أهلُ القرونِ الثّلاثةِ أي أهلُ الثّلاثِمائةِ سَنةٍ الأُوْلى، هؤلاء خِيْرَةُ هذه الأمّةِ، الرَّسولُ شهِدَ لهم بذلك بالأفضلِيّة، أبو حنيفةَ كانَ تُوفّي في منتَصَف هذه المدّةِ تُوفّي سنةَ مائةٍ وخمسِين ووُلِدَ الشّافِعيُّ تلكَ السَّنةَ، هذا أبو حنيفة كانَ متَمَكّنًا إلى حدٍّ بَعِيدٍ في هذا العِلم، علمِ العقيدة، بتَقريرها بالدّلائل العقليّةِ والنّقليّةِ، كانَ يُكَافحُ هؤلاءِ وهؤلاءِ البِدعيّينَ الذينَ ينتَسبونَ إلى الإسلام والملاحِدَةَ الذينَ لا ينتَسِبُونَ إلى الإسلام، كانَ مِن شِدَّة عِنايَتِه بهذا الأمر العظيم يتَنقَّل بيْنَ الكُوفةِ والبَصْرةِ وهيَ مَسَافةٌ واسِعَةٌ، هوَ كانَ في تلكَ الأيّام التي لم يَكُن فيها إلّا الدَّوابُّ يترَدَّدُ بينَ الكوفةِ والبَصرة، نحوَ عِشرينَ مرَّةً ونَيِّفًا ترَدَّدَ.(والنّيّفُ مِن واحِدَةٍ إلى ثَلاثَة)
المقصودُ أنّ عِلمَ العقيدةِ بأدلّتِها العقليّةِ والنّقليّةِ ليسَ شَيئًا مَذمُومًا بل هو فَرضٌ على المسلمينَ، ومِن هؤلاء المشكّكِينَ مَن لا يَقبَلُ إذا قلتَ لهُ: قال اللهُ تعالى قال رسولُ الله، يقولُ : أنا لا أؤمن بكتابِكَ ولا بنَبيِّكَ أعْطِني دليْلًا عقليًّا، فهذَا كيفَ تُحاربُه كيفَ تُكافِحُه إذا لم تَعلَم هذه الأدلّةَ العقليةَ، إذا لم تَنْصِب دليلًا عقليًّا على وجُودِ الله وقُدْرَتِه وسائرِ صِفاتِه التي يجبُ معرفَتُها وحقِّيّةِ النبوَّةِ والرّسالةِ ووجُوبِ اتّباع الأنبياءِ والمرسَلِينَ؟ كيفَ تُثبِتُ لهُ البُرهانَ العَقليَّ إذا كُنتَ لا تَعرفُ إلا قالَ اللهُ قالَ رسولُ الله، إلا ظَواهرَ القرءانِ، ظواهرَ الآياتِ والأحادِيث؟.
الكِفاحُ عن الدِّين يتَطلَّبُ وُجُوْبًا وحَتمًا مَعرفَةَ البراهينِ العقليَّةِ، معرفةَ العقائدِ الإيمانيّةِ مَقرُونةً بالأدِلَّة العقلِيّة، أي البَراهينِ العقلِيّةِ والنّقليّةِ، هذا عِلْمٌ شرعيٌّ فَرْضٌ ليسَ مَندُوبًا، لو لم يوجَدْ في المسلمينَ أُناسٌ يقُومُونَ بِهذا لَعَصَوا كُلُّهُم لشَمَلَتِ المعصيةُ كلَّ الأفراد، لكنْ إذا كانَ بعضٌ يَعرف ذلك ويقومُ بهِ فليسَ على الآخرِينَ حرَجٌ، هذا العِلمُ الذي هو فَرضٌ بَعضُ الناس يَنْفِرُونَ منه لجَهْلِهم بالحقيقةِ ويَحتَجُّون للتَنفِيرِ مِن هذا العِلم بكلامٍ يُرْوَى عن الشَّافعيّ وهو: “لأنْ يَلْقَى اللهَ العَبْدُ بكُلِّ ذنْبٍ ما خَلا الشِّركَ خَيْرٌ لهُ مِن أن يَلقَاهُ بالكلام ” هذه روايةٌ يَرْوُوْنَها عن الشافعي، والرّوايَةُ الصّحيحةُ هيَ ما رَواها عن الشّافعيّ الإمامُ المجتهدُ المحدِّثُ المفَسِّر أبو بكر بنُ المنذر في كتابِه الإشرَاف، وابنُ المنذر ممّن أخَذَ العِلمَ عن أصحابِ الشَّافعي كالرَّبيع المُرَادِيّ، الرَّبيعُ أشهَرُ مَن أخَذَ عِلْمَ الشّافعِيّ، وهذا أبو بكرِ بنُ المنذِر كانَ درَس مذهَب الشّافعيّ دِراسَةً مُتقَنَةً، حفِظَ المذهَبَ الشّافعيَّ بالتّلقّي مِنَ الرّبيع الذي هو تِلمِيذُ الشّافعِيّ وغَيرِه، هَذا صارَ مجتَهدًا فيمَا بَعدُ لأنّ اللهَ تَعالى يَسّرَ لهُ حِفظ الأحاديثِ النّبويّةِ بأسانيدِها، والتّمَكّنَ في معرفةِ اللّغةِ العربيّة الفُصْحَى التي نزَل بها القرءانُ الكريم. والرّوايةُ التي رواها أبو بكر بنُ المنذر عن الشّافعِيّ هيَ: “لأنْ يَلْقَى اللهَ العَبْدُ بكُلِّ ذَنبٍ ما خَلا الشِّركَ خَيرٌ مِن أن يَلقاهُ بشَىءٍ منَ الأهواء”، الأهْواءُ عقائدُ البِدعِيّينَ، الاعتزالُ مِن جملةِ الأهواء.
هذَا الأمرُ العظِيم الذي هو فَرضٌ على الكفايةِ بعضُ النّاس يُعادُونَه ويحتَجّون بعِبارةٍ تُنسَب للشّافعيّ رضيَ الله عنه، ولم يَدْرِ هؤلاءِ أنّ الشّافعِيَّ رضيَ الله عنه كانَ يُتقِنُ هذا العِلم، علمَ العقيدةِ مع تَقرير الأَدلّةِ العقليّةِ والنّقليّة، كانَ الشّافعِيُّ متَمكِّنًا في ذلكَ حتَّى قال: «أَتْقَنَّا ذَاكَ قَبْلَ هذا» اتْقَنّا ذاك أي عِلمَ العقيدةِ المقرونَ بالدّلائل العقليّةِ والنّقليَّة، قبْلَ هَذا أي قبلَ عِلم الفِقه الفَرعيّ، عِلمُ الأحكام يُقال لهُ الفِقْهُ الفَرعِيُّ لأنَّ الفِقْهَ الأكبرَ هو عِلمُ العقيدة، ومِن الدَّليل على ذلكَ أنّ أبا حنيفةَ سمَّى كتابَه الذي ألَّفَهُ بالعقيدةِ مَقرونًا ببَيانِ الدَّلائل العقليَّة «الفِقْهَ الأَكْبَر» فالحَذَرَ الحَذَر مِن كلام هؤلاء الذين يُريدُون أن يَطعَنُوا في هذا العِلم الذي هو أشرَفُ العلوم.
فإن احتَجَّ قائلٌ بما يُنسَب للشّافعي: «لأنْ يَلقَى اللهَ العَبدُ بكُلّ ذَنبٍ ما خَلا الشِّركَ خَيرٌ مِن أن يَلقاه بالكلام»، يُقال له الشّافعيُّ لا يعني بالكلام المذمومِ علمَ العقيدةِ المشتمِلَ على تقريرِ البراهينِ العقليّةِ، إنّما يعني علمَ الكلام المذمومَ الذي هو عَمَلُ البِدْعِيّينَ المعتزلةِ وأشباهِهم. أمّا هذا أبو حنيفةَ فكانَ رأسًا فيه، كذلكَ أئمّةٌ قَبلَه عمرُ بنُ عبدِ العزيز رضي الله عنه لهُ رسالةٌ في الرّدّ على القَدرِيَّةِ المعتزلةِ بالبراهينِ العقليّةِ يَردُّ عليهِم ليس بالآياتِ فَقط، كذلكَ الحَسَنُ بنُ محمدِ بنِ الحنفيّةِ هذا حفِيدُ سيّدِنا عليٍّ رضي الله عنه، الحنفيّةُ هيَ سُرِّيَّةُ عليٍّ رضيَ اللهُ عنه ولَدَت لهُ هذه السُّرِّيَّةُ الإمامَ محمَّدَ بنَ الحنفيّةِ شُهِرَ بأُمِّه هو محمَّد بنُ عليٍّ إنّما غلَبَت شُهْرتُه باسم أُمِّهِ.
في أواخرِ المائةِ الثّانيةِ كانت المعتزلةُ، المأمونُ سَاعَدَهم في شَىءٍ واحِدٍ وهو القَولُ بخَلق القرءان، عذَّبَ النّاسَ لتَنفِيذِ مَقَالَةِ المعتزلةِ الفَاسِدَة، مِن جُملَتِهم (أَي مِن جملَةِ الذينَ عُذِّبُوا الإمامُ أحمَدُ بنُ حَنبَل.
اسمُ المعتزلةِ ظهَرَ عليهم أيّامَ الحسَنِ البِصْري وسبَبُه أنّ رجُلًا مِن رؤوس المعتزلةِ القُدماءِ كانَ يَحضُر مجلِسَ الإمام الحسنِ البِصري رضي الله عنه فكانَ يتكلَّمُ بِسَقَطٍ منَ القَول فنَبذَهُ الحسَنُ البِصري وقالَ: اعتَزِلْ عَنَّا، معنَاه اخرُجْ مِن مجلِسِنا، فلُقِّبُوا بعدَ ذلكَ بالمعتزلةِ، أي الطّائفةِ المعتزلةِ أي المنبُوذَةِ، ثم قبلَ هذا الظّهُورِ الأكبَرِ لهم ضِمْنَ أيّام السَّلَف أيَّامَ مَالِكٍ وقَبْلَه كانَ الأئمّةُ يَستَذِلُّونَهم، كانوا مُستَذَلِّيْنَ حتّى إنّ الخليفةَ الرَّاشِدَ عمرَ بنَ عبدِ العزيز استَتابَ أحَدَ أكابرِ المعتزلة وهو غَيْلانُ بنُ مَرْوَان، استَتابَهُ فأظهَرَ التّوبةَ فتركهُ مِنَ القَتل، كانَ قَتَلَه لولا أنّه أظهرَ التّوبةَ، ثم بعدَ ذلك نقَضَ ما أظهَرَ أيَّامَ عمرَ بنِ عبد العزيز أيامَ هِشام، فقتَلَهُ هِشَامٌ لأنَّه عادَ إلى الضَّلالَةِ التي كانَ عليها، ضلالةِ الاعْتزال. والإمامُ مالكٌ رضي اللهُ عنه قال لما سُئِل عن نِكاح المعتزلة: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} (221) سورة البقرة. مَعناه أنّهم كفّارٌ مشركونَ، دَخَلَهُم الإشراكُ حيثُ إنّهم أثبَتوا للهِ خَلقَ الأجسام وأثبَتوا للعبادِ خَلقَ الأعمال.
وقالَ (مالكٌ) أيضًا ممّا رواه عنهُ الإمامُ أبو بكرِ بنُ المنذر: “إنّ القدَرِيّةَ يُستَتابون” القَدريّةُ همُ المعتزلةُ، يُستَتابون أي يُطلَبُ منهم الرّجُوعُ إلى الإسلام فإن تابُوا وإلّا قُتِلوا.
القَاضي عبدُ الجبار المعتَزلي هو أنجَسُهم وأنحَسُهم، المعتزلةُ قَبلَه ما كانوا يقولونَ العبدُ يخلُق كانوا يقولونَ العبد يَجْعَلُ أعمالَه ويُوجِدُ أعمالَه لكنّهم يُضمِرُون يَخلُق، والجَعلُ يأتي بمعنى الخَلْق لُغةً.
وحَرَّفَت المعتزلةُ قولَه تعَالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 23 سورة القيامة. قالوا: إلى ربّها ناظِرةٌ أي تَنتَظرُ نِعمَة ربِّها، وهي صَريحةٌ في اللّغةِ أنّه إذا قِيلَ نظَرَ فُلانٌ إلى كذا معنَاه رءاه، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي يرَونَ ربَّهم، الآيةُ صَريحةٌ لكنْ مِن خُبثِهم وفسَادِهم وضَلالِهم حرَّفوا فقالوا ناظِرةٌ أي مُنتَظِرَةٌ. وفي اللّغةِ فَرقٌ بينَ نَظَرَ وبينَ أَنْظَرَ، يُقالُ أَنْظَرَهُ إلى كذا إلى سنَةٍ إلى سَنتَينِ إلى أكثرَ أو إلى أقلَّ، أَنْظَر إذا كانَ رُبَاعِيًّا، أمّا نَظَر إلى كَذا فلا يأتي بلُغَةِ العرَب إلّا للرّؤيَةِ.
فإنْ قِيل: إذا كانَ باستِطَاعتِنا أن نَنظُرَ إلى اللهِ يومَ القيامةِ فمَعنى ذلك أنّ اللهَ يقَعُ تحتَ حَواسِّنا فما الرّدُّ على ذلك؟
رَدُّ أهلِ السُّنَّةِ علَيهم مَتِينٌ، قالوا: كمَا هو يَرانا مِن غَيرِ أن يكونَ في جِهةٍ ومسَافَةٍ مِنَّا كذلكَ يُعطِيْنا قُدرَةً على رؤيتِه مِن غيرِ أن يكونَ بَينَنا وبَينَهُ مسَافَةٌ ومُقَابلَةٌ. نحنُ رؤيتُنا حادثةٌ أمّا رؤيةُ اللهِ فأزليّةٌ، اللهُ تَعالى يَرى كلَّ هذه الموجُوداتِ برؤيةٍ أزليّةٍ أبديّةٍ أمّا نحنُ فرؤيتُنا لهُ بعدَ استِقرارنا في الجنَّةِ حادِثةٌ. واللهُ سُبحانَهُ وتعالَى أعلَمُ.