الأحد نوفمبر 3, 2024

فصل في التحذير من كتاب سيد سابق وحسن الهضيبي وحسن قاطرجي

 

والحذر الحذر من كتاب سيد سابق المسمى “فقه السنة” وكتاب “نحن دعاة لا قضاة” لحسن الهضيبي وأمثالهما مما يحتوي على عدم تكفير من كفر إلا إذا قصد الانتقال إلى دين ءاخر غير الإسلام، فهؤلاء أهلكهم الوهم فظنوا بأنفسهم أنهم صاروا أئمة مجتهدين لا يرون التقيد بالأئمة المجتهدين.

 

ومما يؤيد ردنا أن أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما بعثهما الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وكان أحدهما يعمل في الأراضي المنخفضة والآخر في الأراضي العالية وكانا يجتمعان كل مدة للتشاور وحصل مرة أن أبا موسى قيّد رجلاً أسلم ثم ارتد فجاء معاذ بن جبل فرأى الرجل وكان راكبًا بغلة فقال: ما هذا؟ قيل له: هذا رجل أسلم ثم ارتد، فقيل له: انزل فقال: لا أنزل حتى يُقتل فقُتل فنزل عن دابته. ووجه الدليل أنه لم يقل هل سألتموه أكان قاصدًا الانتقال من الإسلام الذي كان عليه إلى دين ءاخر بدل دين الإسلام أم لا. وهذا الحديث رواه البخاري وغيره [1].

 

هذا دين الله خلاف ما قاله سيد سابق والهضيبي ورجل ءاخر يسمى حسن قاطرجي البيروتي داعٍ من دعاة الوهابية يعتمدون عليه لنشر دعوتهم حتى إنهم أجروا له خمسة ءالاف دولار كل شهر يقبضها من السفارة ونص عبارته: “أما الكفر لا يوجّه إلا لمن اختار الكفر دينًا وارتضى غير دين الله سبحانه وتعالى”. قال ذلك في جامع النور في صيدا.  وقال ذلك في مجلة الهداية [ص/10] من العدد الواحد والعشرين. وقوله هذا زاعمًا أنه كلام السبكي مردود لأنّ ما قاله يخالف ما جرى عليه العمل عند الحكام وذلك لأن حكام المسلمين إذا أُتي إليهم بالشخص الذي نطق بالكفر لا يقولون له هل أردت لما قلت هذا الكلام الخروج من دين الإسلام والانتقال إلى غيره، هذا عمل حكام المسلمين سلفًا وخلفًا فما خالف فهو مردود إنما كانوا يعتمدون لإجراء حكم المرتد على أمرين إما باعترافه وإما بقيام بيّنة أي شاهدين بأنه نطق بهذه الكلمة، ثم إن المالكية زادوا تأكيدًا فقالوا: فإن ادعى أنه سبقُ لسان ليس بإرادة منه لا يأخذ القاضي بكلامه بل يلزمه الرجوع بالنطق بالشهادة وإلا أجرى عليه حكم المرتد.

ومما ينقض أيضًا ما أتى به هؤلاء الثلاثة الذين هم ليسوا فقهاء ولا محدثين ما قاله الحافظ الكبير أبو عُوانة الذي عمل مستخرجًا على البخاري وكان معاصرًا للبخاري قال فيما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري [2] ما نصه: “وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينًا على دين الإسلام” اهـ.

 

وعبارته: “وترجم أبو عوانة في صحيحه لهذه الأحاديث -أي أحاديث الخوارج التي هي صريحة في تكفيرهم- بيان أن سبب خروج الخوارج كان بسبب الأثرة بالقسمة مع كونها صوابًا فخفي عنهم ذلك وفيه إباحة قتال الخوارج بالشروط المتقدمة وقتلهم وثبوت الأجر لمن قتلهم وفيه أن المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينًا على الإسلام وأن الخوارج شر الفرق المبتدعة من الأمة المحمدية ومن اليهود والنصارى”. قال الحافظ ابن حجر [3]: “قلت: والأخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقًَا” اهـ.

 

ثم إن السبكي ليس مجتهدًا مطلقًا ولا مجتهدًا منتسبًا إذ هو لم يدّع ذلك بل هو ناقل فكيف يؤخذ بكلامه إذا خالف كلام إمامه الإمام الشافعي، فالسبكي وغيره من الفقهاء الذين هم غير مجتهدين لا يلتفت لكلامهم إذا خالف أحدهم كلام المجتهد، فما لحسن قاطرجي يترك القاعدة الأصلية المعتمدة لنقل كلام عالم مقلّد لإمام من الأئمة وهو الشافعي فيما خالف فيه إمامَه الشافعي، على أن هذا الكلام يخالف ما قاله السبكي في فتاويه من ترجيح تكفير الخوارج رادًّا على كلام النووي بترك تكفيرهم، والسبكي نفسه في بعض فتاويه نقل تكفير الأئمة الأربعة لمن يقول إن الله في جهة وهذا ينقض النقل المزعوم الذي أورده حسن قاطرجي.

وهذا سيد سابق بلغنا أنه قال أنا أجتهد أقول قولاً ثم أجتهد فأقول قولاً أخالفه كما كان الشافعي له مذهب قديم ومذهب جديد وهو أي سيد سابق لا هو فقيه ولا هو محدث إنما ينقل من كتاب “نيل الأوطار” للشوكاني والشوكاني يأخذ من كتاب الحافظ ابن حجر “التلخيص الحبير”. وسيد سابق وحسن قاطرجي ليسا من المحدثين، فإنا لله وإنا إليه راجعون فقد تحقق حديث الصادق المصدوق نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال “إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم” أي يقلُّ الخير في كل البلاد وهذا الحديث صحيح صححه المحدثون فقد صححه ابن حبان، وليس كما يقول أحمد بدران الدوماني فإنه ادعى أنه حديث منكر.

 

وكنتُ كتبتُ إلى سيد سابق كتابًا في الرد عليه قلت فيه: إن صح هذا القول منك فإنك قد كفرت ارجع إلى الإسلام وإلا فبرّئ نفسك فلم يقبل النصيحة. وشأن الداعي إلى الله أن يكون جريئًا لقول الحق لا يداهن الناس.

 

وصنيع هؤلاء الخمسة الذين قالوا مثل هذه المقالة سيد سابق وحسن الهضيبي وحسن قاطرجي والدكتور محمد علوي والدكتور عمر عبد الله كامل مخالف لما اتفق عليه الفقهاء من تقسيم الكفر إلى ثلاثة أنواع: كفر قولي وكفر فعلي وكفر اعتقادي على أن كل واحد كفر بمفرده فخالف كلامُ هؤلاء ذلك فإنهم جعلوا الكفر القولي يُشتَرَطُ أن يكون معه الاعتقاد وقصد الخروج من الإسلام إلى دين ءاخر وهذا أمر انفرد به هؤلاء الخمسة مخالفين بكلامهم علماء الإسلام الذين سبقوهم من السلف والخلف. ثم هؤلاء ليس فيهم أحد وصل إلى حد المفتي ولا إلى نصفه ولا إلى عشره لأن المفتي شرطه أن يكون حافظًا لأغلب مسائل المذهب الذي ينتسب إليه، ولعل هؤلاء نقلوا قولهم هذا من كلام الشوكاني من كتابه السيل الجرار المتدفق على روض الأزهار.

وقد سبقهم إلى ما ينقض كلامهم الإمام المجتهد المطلق محمد بن جرير الطبري في كتابه “تهذيب الآثار” وسيأتي نقله فماذا يكون كلام هؤلاء أمام كلام هذا الإمام المجتهد المطلق الذي هو كمالك والشافعي وغيرهما من المجتهدين، وقد كان ابن جرير صاحب مذهب متبوع ثم انقرض المنتسبون إلى مذهبه، فيجب على هؤلاء الخمسة أن يرجعوا إلى ما مضى عليه علماء الإسلام ويحذروا مما ألّفوا مما ينطوي على هذا الكلام الفاسد وإلا فعليهم وزرهم ووزر من يتبعهم بمطالعة كتبهم فإن مؤلفاتهم ضرر على من يطالعها ويصدّق ما فيها فإنها تجرئ على التلفظ بألفاظ الكفر لأنهم يعتقدون أنها لا تخرج من الإسلام لأنهم لا يريدون الخروج إلى دين غير دين الإسلام إنما يفوهون بها بألسنتهم وهذا دعوةٌ للناس إلى الكفر.

 

ومما ينقض ما أتى به هؤلاء الذين هم ليسوا فقهاء ولا محدثين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها في النار سبعين خريفًا” [4] فلم يشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا أن يكون الشخص ناويًا ومعتقدًا وقاصدًا الانتقال من الإسلام إلى غيره، ومع ذلك قال بأنه ينزل بهذه الكلمة إلى قعر جهنم، ولا يصل إلى قعر جهنّك إلا الكفّار. فقوله صلى الله عليه وسلم “يهوي بها في النار سبعين خريفًا” دليل على أن الإنسان قد يعتقد اعتقادًا أو يفعل فعلاً أو يقول قولاً هو كفرٌ ولا يرى بذلك بأسًا أي لا يرى فيه معصية وهو في الحقيقة كفرٌ فيكون في جهنم في مكان ولا يكون فيه عصاة المسلمين إلا الكفار لأن المسلم العاصي لا يصل إلى ذلك الحد. فما أبعد كلام هؤلاء من هذا الحديث.

 

وقال البدر الرشيد الحنفي في رسالة له في بيان الألفاظ الكفرية: “من كفر بلسانه طائعًا وقلبه على الإيمان إنه كافر ولا ينفعه ما في قلبه ولا يكون عند الله مؤمنًا لأن الكافر إنما يُعرف من المؤمن بما ينطق به فإن نطق بالكفر كان كافرًا عندنا وعند الله”. وقال: “من تكلم بكلمة توجب الكفر وأضحك به غيره كفر” اهـ.

 

وهذا الذي حصل في هذا الزمان من بعض العوام فقد ذكر لي رجل من أهل دمشق قال: كنا في وزارة الخارجية فأقبل رجل أعمى فقال أحدنا: قال الله تعالى إذا رأيت الأعمى فكبه لست أكرم من ربه فأضحكنا فقلت له: هذا كفر فكيف تضحكون له؟! هذا حال كثير من الناس اليوم يكفرون لإضحاك الناس أو لغرض ما من أغراض الدنيا، فهؤلاء إذا رأوا مؤلفاتكم هذه يزدادون جرأة واطمئنانًا للارتياح بما يتكلمون به من كلام الكفر فإن هذا الرجل حكى لي هذه الحكاية من باب المباسطة، وقد جرت العادة في لبنان أن كثيرًا من الناس إذا لقي بعضهم بعضًا يقول أحدهم للآخر اشتقنا لك أخت ربك أين كنت وكذلك اعتادوا فيما بينهم أن يقول أحدهم للآخر يا ابن الله.

 

ومما يؤيد ردنا على هؤلاء ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني عند الكلام عن الخوارج ما نصه [5]: “وممن جنح إلى ذلك من أئمة المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي فقال في فتاويه احتج من كفّر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيبَ النبي صلى الله عليه وسلم في شهادته لهم بالجنّة قال وهو عندي احتجاج صحيح. قال: واحتج من لم يكفرهم بأنّ الحكم بتكفيرهم يستدعي تقدم علمهم بالشهادة المذكورة علمًا قطعيًا وفيه نظر لأنا نعلم تزكية من كفروه علمًا قطعيًّا إلى حين موته وذلك كافٍ في اعتقادنا تكفير من كفرهم، ويؤيده حديث “من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما” وفي لفظ مسلم “من رمى مسلمًا بالكفر أو قال عدوّ الله إلا حارَ عليه” قال: وهؤلاء قد تحقق منهم أنهم يرمون جماعة بالكفر ممن حصل عندنا القطعُ بإيمانهم فيجب أن يُحكم بكفرهم بمقتضى خبر

الشارع وهو نحو ما قالوه فيمن سجد للصنم ونحوه ممّن لا تصريح بالجحود فيه بعد أن فسروا الكفر بالجحود.

 

فإن احتجوا بقيام الإجماع على تكفير فاعل ذلك قلنا: وهذه الأخبار الواردة في حقّ هؤلاء تقتضي كفرهم ولو لم يعتقدوا تزكية من كفّروه علمًا قطعيًا ولا ينجيهم اعتقاد الإسلام إجمالاً والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما لا ينجي الساجد للصنم ذلك، قلت: وممن جنح إلى بعض هذا البحث الطبري في تهذيبه فقال بعد أن سرد أحاديث الباب -أي باب من ترك قتال الخوارج للتأليف وأن لا ينفر الناس عنه-: “فيه الرج على قول من قال لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالمًا فإنه مبطل لقوله في الحديث “يقولون الحق ويقرؤون القرءان ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشئ”، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطإ منهم فيما تأوّلوه من ءاي القرءان على غير المراد منه، ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس وذُكر عنده الخوارج وما يلقون عند قراءة القرءان فقال يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه، ويؤيد القول المذكور الأمر بقتلهم مع ما تقدم من حديث ابن مسعود: “لا يحل قتلُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث” وفيه: “التارك لدينه المفارقُ للجماعة”. قال القرطبي في “المفهم”: يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد يعني الآتي في الباب الذي يليه فإنّ ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام ولم يتعلقوا منه بشئ كما خرج السهم من الرمية لسرعته وقوة راميه بحيث لم يتعلق من الرميّة بشئ وقد أشار لذلك بقوله: “سبق الفرث والدم”، وقال صاحب “الشفاء” فيه وكذا نقطع بكفر كل من قال قولاً يَتَوَصل به إلى تضليل الأمة أو تكفير الصحابة

وحكاه صاحب “الروضة” في كتاب الردة عنه وأقره” انتهى كلام الحافظ ابن حجر.

والجملة التي نقلها الحافظ عن الإمام المجتهد ابن جرير الطبري حجة قاصمة لظهور أولئك الثلاثة سيد سابق وحسن الهضيبي وحسن قاطرجي مبطلة لكلامهم لأنه صرّح بأن الذي يقول كلام الكفر يكفر ولو لم يقصد الكفر والخروجَ إلى دين سوى الإسلام.

 

وهذه المقالة الخبيثة ما سبق هؤلاء الثلاثة إليها أحدٌ من العلماء ولا حجّة لهم في قول إمام الحرمين والغزالي المشهور، على أنه لو كان فيهم مُسْكَةٌ من فهم وعقل لكفاهم قوله تعالى: {مَن كفرَ باللهِ من بعدِ إيمانِهِ إلا مَنْ أُكْرِهَ وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ ولكن مَنْ شرحَ بالكفرِ صدرًا فعليهم غضبٌ منَ اللهِ ولهمْ عذابٌ عظيمٌ} [سورة النحل/106] فإن الآية صريحة أن اعتقاد الكفر في غير المكره لا يُشترط وكذلك شرح الصدر بالكفر ليس شرطًا في ثبوت كفر قائل كلمة الكفر في غير المكره.

ولم يشترط أحدٌ من علماء المسلمين اعتقادَ معنى لفظ الكفر في غير المكره.

 

وقول الإمام المجتهد المطلق محمد بن جرير الطبري في “تهذيب الآثار” المتقدم ذكره ينسف افتراءات هؤلاء الثلاثة سيد سابق وحسن الهضيبي وحسن قاطرجي ومعهم محمد بن علوي المالكي المكي وعمر عبد الله كامل حيث قال في كتابه “التحذير من المجازفة بالتكفير” [ص/11 و12]: “فلا بدّ من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر. ولا اعتبار بلفظٍ يتلفظ به المسلم يدل على الكفر ولا يعتقد معناه” اهـ. ووافقهم في هذه المقالة الكفرية أيضًا الدكتور عمر عبد الله كامل في كتابه المسمى “التحذير من المجازفة بالتكفير” [ص/52-53] فقال: “وإذا كان الإنسان يعجز عن تحرير معتقده في عبارة فكيف يحرر اعتقاد غيره من عبارته فما بقي الحكم بالتكفير إلا لمن صرح بالكفر واختار دينًا وجحد الشهادتين وخرج عن دين الإسلام وهذا نادر وقوعه فالأدب الوقوف عن تكفير أهل الأهواء والبدع” اهـ.

 

قاعدةٌ مفيدة: قال الفقهاء من تلفظ بكلام كفر أو فعل فعلاً كفريًا وجهل أن ما حصل منه كفر لا يُعذر بل يُحكم بكفره قاله القاضي عياض المالكي والشيخ ابن حجر الهيتمي الشافعي وكذلك عدد من فقهاء الحنفية. ومن المتفق عليه أن القولَ الكفري كفر بمفرده ولو لم ينضم إليه اعتقاد ذلك الكفر بالقلب ولا عملٌ بالبدن، وكذلك الكفر الفعليُّ كفرٌ وردّة من فاعله لو لم يقترن به قول واعتقاد، وكذلك الكفر الاعتقادي كفر بمفرده من غير أن ينضم إليه قولٌ باللسان أو فعل وهذا مجمع عليه عند الفقهاء. وقد اشتهر في كتب الفقه تقسيم الكفر إلى ثلاثة قول أو فعل أو اعتقاد.

 

ثم إن هذا الأمر الذي ذكره سيد سابق في كتابه “فقه السنة” وحسن الهضيبي في كتابه “نحن دعاة لا قضاة” وحسن قاطرجي البيروتي ومحمد بن علوي المالكي والدكتور عمر عبد الله كامل فيه تهوين أمر الكفر للجهال لأن من اطلع على كلام هؤلاء يرى أنه لا بأس إذا تكلم الشخص بكلمات الكفر بجميع أنواعها فيقول: أنا أقول هذه الكلمات ولا أقصد الخروج من الإسلام فلا أكفر، فعلى قول هؤلاء إذا إنسان قال كفرًا أو فعل كفرًا فأُتي به إلى حكام الشريعة لا يجرى عليه أحكام الردة حتى يقال له هل كنت قاصدًا الخروج من الإسلام واخترت دينًا غير الإسلام وهذا لم ينقل عن حكام المسلمين في أثناء التاريخ الإسلامي من الخلفاء وغيرهم، وقتل المرتد حكم ديني أنزل على محمد كما نزل على موسى عليهما السلام فإن موسى قتل المرتدين الذين ارتدوا إلى عبادة العجل في غيبته إلى الطور وكانوا سبعين ألفًا، وشرائعُ الأنبياء لا تُرد بالرأي وهي حق في حياتهم وبعد مماتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

 

وهذا الإمام المجتهد الأوزاعي ناظر غيلان الدمشقي في أول القرن الثاني من الهجرة لكونه قدريًا فقطعه بالحجة ثم قال للخليفة هشام بن عبد الملك: كافر ورب الكعبة يا أمير المؤمنين فقطع يديه ورجليه وعلقه بباب دمشق ولم يذكر عن الأوزاعي ولا هشام أنه سأل غيلان هل قلت هذا الكلام وأنت قاصد الخروج من الإسلام واستبدال دين غيره عنه، فليراجع تاريخ دمشق الجزء الثامن والأربعون من ترجمة غيلان أبي مروان، وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق أنه كان من موالي سيدنا عثمان وكان يقص في المسجد النبوي.

 

ومما يحذر أيضًا مما في هذا الكتاب -أي كتاب الدكتور عمر عبد الله كامل- إطلاق ترك تكفير أهل الأهواء، وهو كلام مردود لأنه ثبت عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل تكفير بعض أهل الأهواء. أما أحمد بن حنبل فقال “من قال الله جسم لا كالأجسام كفر”، وأما الشافعي فقال “لا يكفّر أهل القبلة” واستثنى المجسم. ذكره السيوطي في “الأشباه والنظائر” [6]، والنووي كفر المجسم في “شرح المهذب” [7]، وكفر الشافعي القدري أي المعتزلي والقائل بخلق القرءان الذي هو مذهب المعتزلة الذين يقولون الله ليس له كلام إلا ما يخلقه في غيره نقل ذلك صاحب البيان العمراني اليمنيّ وهو قبل النووي. وقال مالك: أرى أن يستتاب أهل الأهواء فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم اهـ وهذا صحيح ثابت عنه رواه عنه الإمام المجتهد أبو بكر بن المنذر في كتابه “الأوسط” وفي كتابه “الإشراف”.

ثم إن اشتراط أن يكون الشخص الذي يتلفظ بلفظ الكفر قاصدًا للكفر وعارفًا بأنه كفر ليحكم عليه بالكفر مردود باطل صرح بذلك القاضي عياض المالكي وابن حجر الهيتمي الشافعي وغيرهما كما تقدم.

 

وكذلك قال كمال بن الهمام الحنفي في “فتح القدير”: “المجسم القائل جسم لا كالأجسام كافر” اهـ ونصوص العلماء في هذا الباب كثيرة فليتتبعها من أراد التأكد من مظانها.

 

ولا حجة لهؤلاء الخمسة في قول الشافعي أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية فإن هذا محمول على من لم يصل منهم إلى الكفر أي لم تثبت عليه قضية معينة تقتضي كفره، هذا هو محمل كلام الشافعي كما قال الحافظ سراج الدين البلقيني الشافعي في كتابه “حواشي الروضة”.

 

والدليل على أن هذا مراد الشافعي ما ثبت عنه أنه كفّر القدري أي المعتزلي والقائل بخلق القرءان والمجسم وهو المشبه باصطلاح الفقهاء ولا يصح تأويل النووي وغيره لقول الشافعي لحفص الفرد المعتزلي القائل بخلق القرءان “لقد كفرت بالله العظيم” بعد أن أطال مناظرته فقطعه بالحجة بأن مراده كفران النعمة لا كفر الجحود، قال الحافظ البلقيني هذا أي قول أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية عام وقوله لحفص الفرد خاص والخاص يقدم ويرجح على العام كما هو مقرر في علم أصول الفقه، ويرد هذا التأويل قولُ الربيع بن سليمان المرادي راوي كتب الشافعي الذي حضر قصة مناظرة الشافعي لحفص في هذه القصة: “فقطعه وكفره” كما ذكر ذلك الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق.

والحذر الحذر من الأخذ بقول بعض المتأخرين من الشافعية كعز الدين بن عبد السلام من ترك تكفير الجهوي الذي يثبت لله التحيز في المكان وبقول غيره من المنتسبين للشافعي فإن كلامهم خالف كلام الشافعي فلا يعتد به والعبرة بكلام الإمام ومن وافقه من المنتسبين إليه كأبي حامد المَروزي إمام أصحاب الشافعي المراوزة والإمام أبي منصور البغدادي فإنه قال: “يجب تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة” يعني بذلك أن المنتسبين إلى الاعتزال منهم من لا يعتقد مقالاتهم الكفرية إنما يعتقد بعض مقالاتهم التي ليست كفرًا فإن منهم من لا يرى بعض أصول عقائدهم وهو منتسب إليهم فإن المعتزلة لهم مقالات كفرية ومقالات دون الكفر مع كونها ضلالة وبدعة وقد ذكرتُ قبل هذا في موضع من هذه الرسالة ما قاله الإمام عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه “تفسير الأسماء والصفات” وهو قوله في ص/228: “فأما أصحابنا فإنهم وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغلاة من الخوارج والنجارية والجهمية والمشبهة فقد أجازوا لعامة المسلمين معاملتهم في عقود البياعات والإجارات والرهون وسائر المعاوضات دون الأنكحة فأما مناكحتهم وموارثتهم والصلاة عليهم وأكل ذبائحهم فلا يحل شئ من ذلك إلا الموارثة ففيها خلاف بين أصحابنا” انتهى.

 

وبهذا يعلم أن ما ذكر في كتاب “روضة الطالبين” للنووي من ترك تكفيرهم وصحة الاقتداء بهم خلاف ما ذكره المتقدمون من أصحاب الشافعي.

ومثل هذا ما هو مذكور في كتاب “الاقتصاد في الاعتقاد” المنسوب للغزالي من عدم تكفير أهل الأهواء على الإطلاق فإنه باطل مخالف لقول الإمام الشافعي وسائر الأئمة الأربعة وغيرهم رضي الله عنهم وقد قال أبو عليّ عمر بن محمد السكوني في كتابه “لحن العامة والخاصة” وليحترز من مواضع في كتاب “الإحياء” لأبي حامد الغزالي ومن مواضع في كتاب “النفخ والتسوية” له أيضًا ومن مواضع في تآليفه أيضًا دُسّت في تآليفه أو رجع عنها كما ذكره في كتابه المسمى بالمنقذ من الضلال اهـ. وحكى القاضي عياض في “الشفا” عن الجاحظ وثمامة المعتزليين أنهما قالا إن كثيرًا من العامة والنساء والبُله ومقلدة النصارى واليهود وغيرهم لا حجة لله عليهم إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال وقد نحا الغزاليّ قريبًا من هذا المنحى في كتاب التفرقة وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحدًا من النصارى واليهود وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفيرهم أو شك. قال القاضي أبو بكر لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن وقف في ذلك فقد كذب النص والتوقيف أو شك فيه والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر اهـ.

[1] رواه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي: باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها.

[2] فتح الباري [12/301-302].

[3] فتح الباري [12/302].

[4] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الزهد: باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس.

[5] فتح الباري [12/299-300].

[6] الأشباه والنظائر [ص/598].

[7] المجموع [4/253].