الأربعاء يناير 15, 2025

غُلامٌ تَقِىٌّ عَاقِلٌ شُجَاعٌ

   قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بنُ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَمَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ فِى مَجْلِسِنَا هَذَا نَتَهَيَّأُ لِلْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ وَقَدْ أَمَرْتُ أَصْحَابِى أَنْ يَتَهَيَّئُوا لِقِرَاءَةِ ءَايَتَيْنِ فَقَرَأَ رَجُلٌ فِى مَجْلِسِنَا ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ فَقَامَ غُلامٌ فِى مِقْدَارِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَة أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ وَوَرَّثَهُ مَالًا كَثِيرًا فَقَالَ يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ بنَ زَيْدٍ فَقُلْتُ نَعَمْ يَا حَبِيبِى فَقَالَ إِنِّى أُشْهِدُكَ أَنِّى قَدْ بِعْتُ نَفْسِى وَمَالِى بِأَنَّ لِىَ الْجَنَّةَ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ حَدَّ السَّيْفِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْتَ صَبِىٌّ وَأَنَا أَخَافُ أَنْ لا تَصْبِرَ وَتَعْجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ أُبَايِعُ اللَّهَ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ ثُمَّ أَعْجَزُ أَنَا أُشْهِدُ اللَّهَ تَعَالَى أَنِّى قَدْ بَايَعْتُهُ أَوْ كَمَا قَالَ رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.

   قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَتَقَاصَرَتْ إِلَيْنَا أَنْفُسُنَا وَقُلْنَا صَبِىٌّ يَعْقِلُ وَنَحْنُ لا نَعْقِلُ فَخَرَجَ مِنْ مَالِهِ كُلِّهِ وَتَصَدَّقَ بِهِ إِلَّا فَرَسَهُ وَسِلاحَهُ وَنَفَقَتَهُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخُرُوجِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ طَلَعَ عَلَيْنَا فَقَالَ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ فَقُلْتُ وَعَلَيْكَ السَّلامُ رَبِحَ الْبَيْعُ ثُمَّ سِرْنَا وَهُوَ مَعَنَا يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ وَيَخْدِمُنَا وَيَخْدِمُ دَوَابَّنَا وَيَحْرُسُنَا إِذَا نِمْنَا حَتَّى إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذَا بِهِ قَدْ أَقْبَلَ وَهُوَ يُنَادِى وَاشَوْقَاهُ إِلَى الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ فَقَالَ أَصْحَابِى لَعَلَّهُ وُسْوِسَ لِهَذَا الصَّبِىِّ وَاخْتَلَطَ عَقْلُهُ فَقُلْتُ حَبِيبِى وَمَا هَذِهِ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ فَقَالَ إِنِّى غَفَوْتُ غَفْوَةً فَرَأَيْتُ كَأَنَّهُ أَتَانِى ءَاتٍ فَقَالَ لِىَ اذْهَبْ إِلَى الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ فَهَجَمَ بِى عَلَى رَوْضَةٍ فِيهَا نَهْرٌ مِنْ مَاءٍ وَإِذَا عَلَى قُرْبِ النَّهْرِ جَوَارٍ عَلَيْهِنَّ مِنَ الْحُلِىِّ وَالْحُلَلِ مَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَصِفَهُ فَلَمَّا رَأَيْنَنِى اسْتَبْشَرْنَ بِى وَقُلْنَ هَذَا زَوْجُ الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ فَقُلْتُ السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ فَقُلْنَ نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا امْضِ أَمَامَكَ فَمَضَيْتُ أَمَامِى فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ فِى رَوْضَةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ فِيهَا جَوَارٍ لَمَّا رَأَيْتُهُنَّ افْتُتِنْتُ بِحُسْنِ جَمَالِهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَنِى اسْتَبْشَرْنَ بِى وَقُلْنَ هَذَا وَاللَّهِ زَوْجُ الْعَيْنَاءِ الْمَرْضِيَّةِ فَقُلْتُ السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ فَقُلْنَ وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا وَلِىَّ اللَّهِ نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا فَتَقَدَّمْ أَمَامَكَ فَتَقَدَّمْتُ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ مِنْ خَمْرٍ غَيْرِ خَمْرِ الدُّنْيَا لا يُسْكِرُ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَبِقُرْبِ النَّهْرِ جَوَارٍ فَقُلْتُ السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ قُلْنَ لا نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا امْضِ أَمَامَكَ فَمَضَيْتُ فَإِذَا أَنَا بِنَهْرٍ ءَاخَرَ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى وَجَوَارٍ عَلَيْهِنَّ مِنَ النُّورِ وَالْجَمَالِ مَا أَنْسَانِى مَا خَلَّفْتُ فَقُلْتُ السَّلامُ عَلَيْكُنَّ أَفِيكُنَّ الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ قُلْنَ يَا وَلِىَ اللَّهِ نَحْنُ خَدَمُهَا وَإِمَاؤُهَا فَامْضِ أَمَامَكَ فَمَضَيْتُ فَوَصَلْتُ إِلَى خَيْمَةٍ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ وَعَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِىِّ وَالْحُلَلِ مَا لا أَقْدِرُ أَنْ أَصِفَهُ فَلَمَّا رَأَتْنِى اسْتَبْشَرَتْ وَنَادَتْ مَنْ فِى الْخَيْمَةِ أَيَّتُهَا الْعَيْنَاءُ الْمَرْضِيَّةُ هَذَا بَعْلُكِ قَدْ قَدِمَ. قَالَ فَدَنَوْتُ مِنَ الْخَيْمَةِ وَدَخَلْتُ فَإِذَا هِىَ قَاعِدَةٌ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ فَلَمَّا رَأَيْتُهَا افْتُتِنْتُ بِهَا وَهِىَ تَقُولُ مَرْحَبًا بِكَ يَا وَلِىَ الرَّحْمٰنِ قَدْ دَنَا لَكَ الْقُدُومُ عَلَيْنَا فَذَهَبْتُ لِأُعَانِقَهَا فَقَالَتْ مَهْلًا فَإِنَّهُ لَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تُعَانِقَنِى لِأَنَّ فِيكَ رُوحَ الْحَيَاةِ وَأَنْتَ تُفْطِرُ اللَّيْلَةَ عِنْدَنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فَانْتَبَهْتُ (اسْتَيْقَظْتُ) يَا عَبْدَ الْوَاحِدِ وَلا صَبْرَ لِى عَنْهَا قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَمَا انْقَطَعَ كَلامُنَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ لَنَا سَرِيَّةٌ مِنَ الْعَدُوِّ فَهَجَمَ الْغُلامُ عَلَيْهِمْ فَعَدَدْتُ تِسْعَةً مِنَ الْعَدُوِّ قَتَلَهُمْ وَكَانَ هُوَ الْعَاشِرَ فَمَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِى دَمِهِ وَهُوَ يَضْحَكُ مِلْءَ فِيهِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا رَضِىَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ

يَا مَنْ يُعَانِقُ دُنْيَا لا بَقَاءَ لَهَا                    يُمْسِى وَيُصْبِحُ مَغْرُورًا وَغَرَّارًا

هَلَّا تَرَكْتَ مِنَ الدُّنْيَا مُعَانَقَة                    حَتَّى تُعَانِقَ فِى الْفِرْدَوْسِ أَبْكَارًا

إِنْ كُنْتَ تَبْغِى جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا             فَيَنْبَغِى لَكَ أَنْ لا تَأْمَنَ النَّارَا