الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}
[الجن: 26، 27].

ليس في هذه الآية حجة لمن يقول إن الرسل يطلعهم الله على جميع غيبه كما يدّعي كثير من الجهال، إنما معناه أن الذي ارتضاه الله من رسول يجعل له رصدًا أي حفظة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الشيطان، فـ(إلا) هنا ليست استثنائية بل هي بمعنى (لكن) فيفهم من الآية أن علم الغيب جميعه خاصّ بالله تعالى فلا يتطرق إليه الاستثناء فتكون الإضافة في قوله تعالى: {عَلَى غَيْبِهِ} للعموم والشمول من باب قول الأصوليين المفرد المضاف للعموم، فيكون معنى غيبه أي جميع غيبه، وليس المعنى أن الله يطلع على غيبه من ارتضى من رسول فإن من المقرر بين الموحدين أن الله تعالى لا يساويه خلقه بصفة من صفاته، ومن صفاته العلم بكل شيء قال تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ} والعجب كيف يستدل بعض الناس بهذه الآية على علم الرسل ببعض الغيب إنما الذي فيها أن الله هو العالم بكل الغيب، ولكن الرسل يجعل الله لهم حرسًا من الملائكة يحفظونهم. وأما اطلاع بعض خواص عباد الله من أنبياء وملائكة وأولياء البشر على بعض الغيب فمأخوذ من غير هذه الآية ومن حديث: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». فلو كان يصحّ لغيره تعالى العلم بكل شيء لم يكن لله تعالى تمدّح بوصفه نفسه بالعلم بكل شيء، فمن يقول إن الرسول يعلم كل شيء يعلمه الله جعل الرسول مساويًا لله في صفة العلم فيكون كمن قال الرسول قادر على كل شيء وكمن قال الرسول مريد لكل شيء سواء قال هذا القائل إن الرسول عالم بكل شيء بإعلام الله له أو لا فلا مخلص له من الكفر.

وقد قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير» ما نصه([1]): «وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يُظهره الله لأحد». اهـ.

وقال مفتي المدينة المنورة الشيخ أحمد البرزنجي الحسيني في كتابه «غاية المأمول» ما نصه([2]): «ومن اعتقد تسوية علم الله ورسوله يكفر إجماعًا». اهـ.

ومما يردّ به على هؤلاء قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}، وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، فإن الله تبارك وتعالى تمدّح بإحاطته بالغيب والشهادة علمًا.

ومما يردّ به على هؤلاء أيضًا قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} فإذا كان الرسول بنصّ هذه الآية لا يعلم جميع تفاصيل ما يفعله الله به وبأمته، فكيف يتجرأ متجرئ على قول إن الرسول يعلم بكل شيء، وقد روى البخاري في الجامع حديثًا بمعنى هذه الآية وهو ما ورد في شأن عثمان بن مظعون، فقائل هذه المقالة قد غلا الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو فإن الغلو أهلك من كان قبلكم» رواه ابن حبان، وقد صحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترفعوني فوق منزلتي».

وروى البخاري في الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلًا ثم قرأ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِين}»، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وإنه سيجاء بأناس من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول هؤلاء أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول سحقًا سحقًا أقول كما قال العبد الصّالح {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [المائدة: 117، 118].

ومعنى أن أول ما يكسى إبراهيم أي ما يلبسه من ثياب الجنة فوق ثيابه التي تكون عليه عند خروجه من القبر فإنه لا يخرج عاريًا لأن هذا لا يليق بأنبياء الله ومعنى أول أي من أول لأن نبيّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أول من يكسى من ثياب الجنة.

ومن أعجب ما ظهر من هؤلاء الغلاة لما قيل لأحدهم: كيف تقول الرسول يعلم كل شيء يعلمه الله وقد أرسل سبعين من أصحابه إلى قبيلة ليعلّموهم الدّين فاعترضتهم بعض القبائل فحصدوهم، فلو كان يعلم أنه يحصل لهم هذا هل كان يرسلهم؟ فقال: نعم يرسلهم مع علمه بذلك. وهذا الحديث رواه البخاري وغيره.

ومثل هذا الغالي في شدة الغلوّ رجل كان يدّعي أنه شيخ أربع طرق في بيروت من آل عنتر فقال: الرسول هو المراد بهذه الآية: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وهذا من أكفر الكفر لأنه جعل الرسول الذي هو خلق من خلق الله أزليًّا أبديًّا، لأن الأول هو الذي ليس لوجوده بداية وهو الله بصفاته فقط.

 

 

([1]) التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد الخامس عشر، الجزء 30 ص148).

([2]) غاية المأمول (الناشر: انجمن إرشاد المسلمين، ص397).