عمر بن الخطاب
عُمَرُ بْنُ الـخَطَّاب
ثَانِي الـخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ:
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ أَبُوْ حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ الـخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرَطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، الـخَلِيْفَةُ الرَّاشِدُ الفَارُوْقُ الَّذِي عَدَلَ فِي رَعِيَتِهِ فَنَامَ قَرِيْرَ العَيْنِ، أَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ مِنَ الـمُهَاجِرِيْنَ وَأَحَدُ العَشَرَةِ الَّذِيْنَ بَشَّرَهُمْ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالـجَنَّةِ. وَأَحَدُ أَصْهَارِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، الَّذِيْنَ لَـمْ تَأْخُذْهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَفِي هَذَا يَقُوْلُ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا مَزَايَا عُمَرَ الفَارُوْقِ وَمَنَاقِبَهُ “إِنَّ اللهَ جَعَلَ الـحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ”.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَدِيْدَ البَيَاضِ تَعْلُوْهُ حُمْرَةٌ، طَوِيْلًا أَصْلَعُ أَجْلَحُ انْحَسَرَ الشَّعَرُ عَنْ جَانِبَيْ رَأْسِهِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: جَاءَتْ صِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهُ قَرْنٌ مِنْ حَدِيْدٍ، أَمِيْرٌ شَدِيْدٌ.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ابْنَ سِتِّ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً حِيْنَ أَسْلَمَ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَرْبَعِيْنَ رَجُلًا وَعَشْرِ نِسْوَةٍ، وَقِيْلَ: أَسْلَمَ بَعْدَ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِيْنَ رَجُلًا وَإِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً.
قِصَّةُ إِسْلَامِهِ:
ذَكَرَ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” قِصَّةَ إِسْلَامِهِ، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ، فَوَجَدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: أُرِيْدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، فَقَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَرَاكَ قَدْ تَرَكْتَ دِيْنَكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى العَجَبِ إِنَّ أُخْتَكَ وَخَنَتَكَ [صِهْرَكَ] قَدْ تَرَكَا دِيْنَكَ، فَأَتَاهُمَا عُمَرُ وَكَانُوا يَقْرَؤُوْنَ “طَهَ” فَقَالَ لَـهُمَا: لَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوْتُمَا، فَقَالَ لَهُ خَنَتُهُ: أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الـحَقُّ فِي غَيْرِ دِيْنِكَ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيْدًا، فَجَاءَتْ أُخْتُهُ وَدَفَعَتْهُ عَنْهُ فَضَرَبَـهَا بِيَدِهِ فَدُمِيَ وَجْهُهَا، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الـحَقُّ فِي غَيْرِ دِيْنِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُوْلُ اللهِ، فَلَمَّا يَئِسَ عُمَرُ قَالَ: أَعْطُوْنِي هَذَا الكِتَابَ الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ، فَقَرَأَ “طَهَ” حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [سُوْرَةُ طَهَ/الآيةُ: 14] فَانْشَرَحَ صَدْرُهُ لِلْإِسْلَامِ وَقَالَ: دُلُّوْنِي عَلَى مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَتَى دَارِ الأَرْقَمِ* فَإِذَا عَلَى بَابِهِ حَمْزَةُ وَطَلْحَةُ وَبَعْضُ أَصْحَابِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُوْمِهِ خَرَجَ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ سَيْفِهِ ثُمَّ هَزَّهُ هَزَّةً فَمَا تَمَالَكَ عُمَرُ أَنْ وَقَعَ عَلَى رُكْبَتِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ؟” فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، فَكَبَّرَ أَهْلُ الدَّارِ تَكْبِيْرَةً سَمِعَهَا أَهْلُ الـمَسْجِدِ الـحَرَامِ. وَكَانَ إِسْلَامُهُ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقِيْلَ سَنَةَ خَمْسٍ.
مَنَاقِبُهُ وَفَضَائِلُهُ:
اشْتَهَرَ عَنِ الفَارُوْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَدْلُهُ وَاهْتِمَامُهُ بِأُمُوْرِ الـمُسْلِمِيْنَ قَبْلَ أَنْ يُبَايَعَ لَهُ بِالخِلَافَةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ، وَأَخْبَارُ عَدْلِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُجْمَعَ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ.
وَمِنْ أَخْبَارِ رَحْمَتِهِ وَعَطْفِهِ عَلَى الـمُسْلِمِيْنَ أَنَّهُ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الرَّمَادَةِ، وَهِيَ سَنَةٌ كَانَ فِيْهَا قَحْطٌ شَدِيْدٌ، نَحَرُوْا جَزُوْرًا وَزَّعُوْهَا عَلَى النَّاسِ، وَكَانُوْا قَدِ ادَّخَرُوْا لَهُ أَطْيَبَ مَا فِيْهَا دُوْنَ أَنْ يَعْلَمَ، فَلَمَّا قُدِّمَتْ لَهُ قَالَ: أَنَّى هَذَا؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيْرَ الـمُؤْمِنِيْنَ، مِنَ الـجَزُوْرِ الَّتِي نَحَرْنَا اليَوْمَ، فَقَالَ: بِئْسَ الوَالِي أَنَا إِنْ أَكَلْتُ أَطْيَبَهَا وَأَطْعَمْتُ النَّاسَ كَرَادِيْسَهَا، فَأَمَرَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَجَعَلَ بِيَدِهِ يَكْسِرُ الخُبْزَ وَيُثَرِّدُهُ، ثُمَّ قَالَ لِـخَادِمِهِ، وَكَانَ اسْمُهُ يَرْفَأُ: وَيْحَكَ يَا يَرْفَأُ، ارْفَعْ هَذِهِ الـجَفْنَةَ حَتَّى تَأْتِيَ بِـهَا أَهْلَ بَيْتٍ بِثَمْغٍ [وَهُوَ مَوْضِعٌ قُرْبَ الـمَدِيْنَةِ] فَإِنِّي لَـمْ ءَاتِهِمْ مُنْذُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَحْسَبُهُمْ مُقْفِرِيْنَ، فَضَعْهَا بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ.
وَرَوَى أَبُوْ نُعَيْمٍ فِي “حِلْيَةِ الأَوْلِيَاءِ” أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَرَجَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ فَرَءَاهُ طَلْحَةُ، فَدَخَلَ عُمَرُ بَيْتًا ثُمَّ دَخَلَ بَيْتًا ءَاخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ طَلْحَةُ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ البَيْتِ فَإِذَا عَجُوْزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ، فَقَالَ لَـهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيْكِ؟* فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، يَأْتِيْنِي بِـمَا يُصْلِحُنِي وَيُخْرِجُ عَنِّي الأَذَى، فَقَالَ طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ، أَتَتَّبِعُ عَثَرَاتِ عُمَرَ!!.
وَأَمَّا أَخْبَارُ زُهْدِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَكَثِيْرَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” وَهُوَ أَنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ وَهُوَ خَلِيْفَةٌ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ فِيْهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً، وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثَلَاثُ رِقَاعٍ.
وَأَمَّا تَعَبُّدُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ كَانَ كَثِيْرًا، وَخَوْفُهُ مِنْهُ كَانَ كَبِيْرًا، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الـخَطَّابِ يَقُوْلُ: لَوْ مَاتَ جَدْيٌ بِطَفِّ [جَانِبِ] الفُرَاتِ لَـخَشِيْتُ أَنْ يُحَاسِبَ اللهُ عُمَرَ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: مَا مَاتَ عُمَرُ حَتَّى سَرَدَ الصَّوْمَ، أَيْ جَعَلَهُ مُتَوَالِيًا مُتَتَابِعًا.
وَقَالَ سَعِيْدُ بْنُ الـمُسَيِّبِ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُحِبُّ الصَّلَاةَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ.
وَمِنْ مَنَاقِبِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالـمَشَاهِدَ كُلَّهَا وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ الأَعْظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَنَاقِبِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِالتَأْرِيْخِ اعْتِمَادًا عَلَى الأَشْهُرِ الـهِجْرِيَّةِ، وَأَوَّلَ مَنْ أَمَرَ بِـجَمْعِ النَّاسِ عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيْحِ بَعْدَ أَنْ كَانُوْا يُصَلُّوْنَـهَا فُرَادًى، وَأَوَّلُ مَنْ عَسَّ، أَيْ طَافَ بِاللَّيْلِ يَـحْرُسُ النَّاسَ وَيَكْشِفُ أَهْلَ الرِّيْبَةِ، وَأَوَّلَ مَنْ حَمَلَ الدُّرَّةَ [العَصَا] وَأَدَّبَ بِـهَا، وَأَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ الدَّوَاوِيْنَ، وَأَوَّلَ مَنْ لُقِّبَ بِأَمِيْرِ الـمُؤْمِنِيْنَ.
ثَنَاءُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ:
وَرَدَتْ أَحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ فِي مَدْحِ سَيِّدِنَا الفَارُوْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَبَيَانِ فَضَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ الـحَمِيْدَةِ، مِنْهَا مَا بَيَّنَ فِيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْلَاصَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَصَلَابَتَهُ وَقُوَّتَهُ فِي الدِّفَاعِ عَنْ دِيْنِ اللهِ وَالأُمَّةِ الإِسْلَامِيَّةِ وَإِقَامَةِ العَدْلِ بَيْنَ الـمُسْلِمِيْنَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ”.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالـحَاكِمُ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَشَدُّ أُمَّتِي فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ”.
وَمِنْ هَذِهِ الأَحَادِيْثِ مَا أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيْتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى إِنِّي أَرَى الرّيَّ يَخْرُجُ مِنْ أَطْرَافِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ” قَالُوْا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ: “العِلْمُ”.
مِنْ كَلَامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
لَقَدْ أُثِرَ عَنْ سَيِّدِنَا الفَارُوْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الكَثِيْرُ مِنَ الـمَوَاعِظِ وَالـحِكَمِ البَلِيْغَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ رِضْوَانُ اللهُ عَلَيْهِ “حَاسِبُوْا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوْا وَزِنُوْا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوْزَنُوْا، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الـحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسِبُوا نُفُوْسَكُمُ اليَوْمَ. وَتَزَيَّنُوْا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُوْنَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (سُوْرَةُ الـحَاقَّةُ/الآيةُ:18)
وَفِي كَلَامِهِ هَذَا حَثٌّ عَلَى مُحَاسَبَةِ العَبْدِ نَفْسَهُ وَكَبْحِ جِمَاحِهَا وَكَفِّهَا عَنْ هَوَاهَا لِيَسْلَمَ فِي دُنْيَاهُ وَءَاخِرَتِهِ.
وَمِنْ كَلَامِ الفَارُوْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِيْمَا حَكَاهُ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ (أَنَّهُ) قَالَ: يَا أَحْنَفُ مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هَيْبَتُهُ، وَمَنْ فَرِحَ اسْتُخِفَّ بِهِ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ، وَمَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ.
وَهَذَا مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَوْجِيْهٌ وَجِيْهٌ لِـمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُوْنَ عَلَيْهِ الـمَرْءُ مِنَ الاتِّزَانِ وَالرَّزَانَةِ، فَلَا يُكْثِرُ مِنَ الضَّحِكِ بِدُوْنِ سَبَبٍ وَلَا يُكْثِرُ مِنَ الـمُزَاحِ كَيْ لَا تَقِلَّ هَيْبَتُهُ فِي نُفُوْسِ العِبَادِ وَبِالتَّالِي يَقِلُّ انْتَفَاعُهُمْ بِهِ وَتَأَثُّرُهُمْ بِـمَا يَقُوْلُ مِنْ إِرْشَادَاتٍ وَتَوْجِيهات، وَكَذَا فَإِنَّ كَثْرَةَ الكَلَامِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَغَيْرِ مَصْلَحَةٍ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِيْهِ، وَلِذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُرَاقِبَ نَفْسَهُ فِيْمَا يَقُوْلُ وَمَا يَفْعَلُ.
وَفِي مَنَاقِبِ عُمَرَ لِابْنِ الـجَوْزِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: “لَا تَظُنَّ بِكَلِمَةٍ، خَرَجَتْ مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الـخَيْرِ مَـحْمَلًا” فَمَا عَلِمْنَا مِنْهُ خَيْرًا حَسَّنَّا الظَّنَّ بِهِ وَاللهُ يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَمَا تُخْفِي الصُّدُوْرُ. أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أُمِرْنَا بِتَحْسِيْنِ الظَّنِّ إِذْ يَقُوْلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ ءَامَنُوْا اجْتَنِبُوْا كَثِيْرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (سورة الحُجُرَاتِ/ الآيةُ:12)
وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: ثَلَاثٌ يَصْفُوْ بِـهِنَّ وُدُّ أَخِيْكَ: تَسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيْتَهُ وَتَفْسَحُ لَهُ فِي الـمَجَالِسِ وَتُنَادِيْهِ بِأَحَبِّ الأَسْمَاءِ إِلَيْهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ عُمَرَ بِلَفْظٍ ءَاخَرَ وَحَاصِلُهُ يُفْهِمُ أَهَمِّيَةَ أَنْ تَجْتَمِعَ هَذِهِ الخِصَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الـمَرْءِ الـمُسْلِمِ مِـمَّا يَزِيْدُ فِي أَوَاصِرِ التَّمَاسُكِ وَالوَحْدَةِ لِيَقُوْمَ الـمُجْتَمَعُ عَلَى أُسِسٍ سَلِيْمَةٍ مَتِيْنَةٍ.
وَمِنْ حِكَمِهِ الرَّائِعَةِ قَوْلُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيْمَا رَوَاهُ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ “تَفَقَّهُوْا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوْا” أَيِ اطْلُبُوْا الفِقْهَ وَالعِلْمَ قَبْلَ طَلَبِ الزَّعَامَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَقَبْلَ أَنْ تَصِيْرُوْا أَسْيَادَ النَّاسِ.
هَذَا وَلْيُعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا كَلَامٌ مُفِيْدٌ فِي الطِّبِّ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
“إِيَّاكُمْ وَالبِطْنَةَ فَإِنَّهَا مَكْسَلَةٌ عَنِ الصَّلَاةِ مُؤْذِيَةٌ لِلْجِسْمِ، وَعَلَيْكُمْ بِالقَصْدِ فِي قُوَّتِكُمْ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الأَشَرِ وَأَصَحُّ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى عَلَى العِبَادَةِ، وَإِنَّ امْرَءًا لَنْ يَهْلَكَ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِيْنِهِ، وَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَاللَّحْمَ فَإِنَّ لَهُ ضَرَاوَةٌ كَضَرَاوَةِ الخَمْرِ، وَالضَّرَاوَةُ بِالشَّيْءِ الوَلَعُ بِهِ. وَإِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الإِدْمَانَ عَلَيْهِ لِـمَا فِيْهِ مِنَ التَّنَعُّمِ وَالتَّشَبُّهِ بِالأَعَاجِمِ.
وَفَاتُهُ:
كَانَتْ وَفَاتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَبِيْحَةَ السَّابِعِ وَالعِشْرِيْنَ مِنْ ذِي الحِجَّةِ لِسَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِيْنَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَ أَحَدُ غِلْمَانِ الـمُغِيْرَةِ وَكَانَ يُدْعَى أَبَا لُؤْلُؤَةَ، وَكَانَ مَجُوْسِيًّا، فَطَعَنَهُ بِسِكِّيْنٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ وَوَلَّى هَارِبًا، وَصَارَ لَا يَـمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَـمِيْنًا وَشِمَالًا إِلَّا طَعَنَهُ، وَلَـمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَهْرَبَ لَهُ طَعَنَ نَفْسَهُ فَمَاتَ.
وَقَبْلَ أَنْ تَفِيْضَ نَفْسُهُ طَلَبَ الفَارُوْقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ أَنْ يُـحْصِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَأَنْ يُؤَدِّيْهِ لِأَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَقُلْ لَهَا: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ، فَمَضَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَتْ لَهُ: كُنْتُ أُرِيْدُهُ لِنَفْسِي وَلَأُوْثِرَنَّهُ اليَوْمَ عَلَى نَفْسِي، فَدُفِنَ قُرْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
إِنَّ مَنَاقِبَ أَمِيْرِ الـمُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِ الـخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَلَغَتْ مَبْلَغًا كَبِيْرًا جَعَلَ العُلَمَاءَ وَالـمُؤَرِّخِيْنَ وَالـمُتَرْجِمِيْنَ يُوْرِدُوْنَ فُصُوْلًا وَأَبْوَابًا طَوِيْلَةً فِي تَعْدَادِ مَآثِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلَّفَ كِتَابًا مَخْصُوْصًا لِتَعْدَادِ مَنَاقِبِهِ كَابْنِ الـجَوْزِيِّ الَّذِي عَدَّدَ مِنْ مَزَايَاهُ وَصِفَاتِهِ مَا جَمَعَ كِتَابًا ضَخْمًا، وَكَذَلِكَ السِّيُوْطِيُّ الَّذِي أَلَّفَ كِتَابًا لَهُ سَمَّاهُ: “الغُرَرَ فِي فَضَائِلِ عُمَرَ”، وَكَثِيْرُوْنَ غَيْرُهُ.