قال المؤلف رحمه الله: [والكلامُ].
(الشرحُ): أنَّ الكلامَ صفةٌ أزليةٌ عُبِّرَ عنها بالنظم المسمّى بالقرءان وبالتوراة والإنجيل والزَّبور غيرِ ذلك من الكتب المنزلة، فالكتبُ المنزلة عبارات عن كلام الله الذي هو صفة أزلية أبدية قائمة بذات الله ليست مقترِنة بالزمن فهو غير العلم وغير الإرادة([1]) لأنه تعالى قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40] فَعَلِمْنَا مغايَرَةَ القولِ للإرادة، وكذلك الكلامُ غيرُ العلم إذ قد يُخبر الإنسانُ عما لا يعلمه بل يعلم خلافه.
قال المؤلف رحمه الله: [وهوَ متكلمٌ بكلامٍ هو صفةٌ لهُ أزليةٌ ليس من جنسِ الحروفِ والأصواتِ وهو صفةٌ منافيةٌ للسكوتِ والآفةِ].
(الشرحُ): أنَّ الحروفَ أعراضٌ حادثةٌ مشروطٌ لِحُدوث بعضها انقضاءُ البعض لأنَّ امتناعَ تكلمِنا بالحرف الثانِي بدون انقضاء الحرف الأول بديهيٌّ معقولٌ بالضرورة بل تفكير، فإذا قلتُ بسم الله فمعلومٌ أن الباء تأتي ثم تنقضِي ثم تأتِي السين ثم تنقضِي ثم تأتِي الميمُ وهكذا، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أن تقوم به صفاتٌ حادثةٌ لذلك يستحيلُ أنْ يكونَ كلامُهُ حرفًا وصوتًا. وخالفنا في ذلك مجسمة الحنابلة والكرامية ويُقال لهم الصوتية فإنهم لا يبالون بإطلاق القول أنَّ كلامه تعالى مِن جنس الحروف والأصوات ومع ذلك فهو قديمٌ فخرجوا بذلك عن حدِّ العقلِ وكذَّبُوا نصوصَ الشَّرْعِ وكأنهم لا يفهمونَ الفرقَ بينَ القديمِ والحادثِ.
قال المؤلف رحمه الله: [واللهُ تعالى مُتَكَلِّمٌ بها ءَامرٌ ناهٍ مخبِرٌ].
(الشرحُ): أنَّ الكلام صفةٌ واحدة أزلية أبدية اللهُ تعالى متكلمٌ بها ءَامِرٌ وناهٍ ومخبرٌ ومستخبرٌ وواعدٌ ومُتوعِّدٌ فليس الكلامُ الأزليُّ صفاتٍ متعددةً بل صفةٌ واحدةٌ إجماعًا تكون خبرًا ونهيًا وأمرًا واستخبارًا ووعدًا ووعيدًا. وقال بعض الماتريدية كلُّ أنواع الكلام يعود إلى الإخبار.
قال المؤلف رحمه الله: [والقرءانُ كلمُ الله تعالى غيرُ مخلوقٍ].
(الشرحُ): أنَّ القرءان بمعنى الصفة الأزلية غيرُ مخلوقٍ لاستحالة قيام المخلوق بذات القديم تبارك وتعالى واستحالةِ كونِ الحروف المؤلفة المركبة قديمةً كما ذهب إليه مجسمة الحنابلة فالقديمُ ما ليس لوجوده ابتداءٌ واللهُ تعالى ليس لوجوده ابتداءٌ، كذلك كلامه الذاتيُّ كسائرِ الصفاتِ القائمةِ بذاتِهِ تعالى ليس له ابتداءٌ فالقرءانُ بهذا المعنى أي بمعنى الكلام الذاتي قديم لا ابتداء لوجوده أما اللفظ المنزل على سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلمَ فهذا لوجوده ابتداء لأنه مخلوقٌ لله وجبريلَ الذي نزل به مخلوقٌ والنبيَّ الذي أُنزِل عليه مخلوقٌ، ويُشاهَدُ حِسًّا أنَّ الرجل يكونُ في بَدْءِ أمره ساكتاً ثم يقول بسم الله الرحمٰن الرحيم فيأتِي بالباء ثم تنقضِي ثم بالسين ثم تنقضِي ثم بالميم فتنقضِي وهكذا إلى ءَاخِرِ القُرْءَانِ فكيف يقولُ المجسمةُ المشبهةُ عن هذا اللفظ غيرُ مخلوق. وهذا اللفظُ هو ما يقصدونه بقولهم القرءان غير مخلوق بل يُكَفِّرون مَنْ يقولُ إنَّ اللفظَ مخلوقٌ خلقه الله تعالى فهؤلاءِ كأنهم لا عقولَ لهم نعوذ باللّٰه من فساد الفهم فإنه من أعظم المصائب.
وأمَّا ما يُنقل عن الأئمة من أن القرءان كلام الله غير مخلوق فالمرادُ به الصفة القديمة الأزلية ليس اللفظَ المنزلَ المتألِّفَ مِن الحروف ومع هذا يمتنع أهلُ السُّنَّةِ مِنْ إطلاقِ عبارةِ القرءان مخلوق ولو بقصدِ الألفاظِ والأصواتِ المُنْزَلَةِ منعًا للإيهامِ أيْ حتَّى لا يتوهَّمَ أحدٌ مخلوقيةَ الكلام الذاتِيِّ.
ثمَّ إنَّنَا أهلَ السُّنَّة والجماعة نقول عن الكلام الذاتيِّ الذي هو صفةُ اللهِ تعالى القائمةِ بذاتِهِ كلامُ الله ونُسَمِّي أيضًا اللفظَ المنَزَّلَ كلامَ اللهِ ولا محظور في ذلك إنما يُنَبَّهُ السامعُ على المراد فيقال له الكلام الذاتيُّ أزليٌّ كما أنَّ الذات أزليٌّ وأمَّا اللفظُ المنزلُ فقولنا إنه كلام الله نقصد به أنه عبارةٌ عن الكلام الذاتيِّ ويدُلُّ عليه لا أنه عينُه. وكلا الإطلاقين حقيقةٌ شرعيةٌ. فالمعتزلةُ الذين يعتقدون أنه لا كلام لله إلّا ما يخلقُه في غيره هم المرادون بقول بعض الأئمة [من قال القرءانُ مخلوقٌ فهو كافر] وليس مرادُهم مَن قال بالتّفصيل فإنَّ التفصيل هو مذهبُ أهل السُّنَّة مِن السلف والخلف. قال الإمام أبو حنيفة في إحدى رسائله الخمس التي ألفها في العقيدة [ويتكلم] يَعْنِي اللهَ [لا ككلامنا ونحن نتكلم بالآلات والحروف والله تعالى يتكلم بلا ءَالَةٍ ولا حروف والحروفُ مخلوقةٌ وكلام الله تعالى غير مخلوق] اهـ.
والحاصل: أنه يجب اعتقاد أن اللفظ المنزَّل حادثٌ مخلوقٌ لله لكنه ليس من تأليف جبريل ول سيدنا محمد إنَّما خَلَقَ اللهُ حروفًا مقطَّعةً بنظم القرءان فتلقَّفَه جبريلُ فتلاه على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لا يُطلَقُ القولُ بأنه مخلوقٌ وإنما يُذكَرُ ذلك في مقام التعليم حذرًا مِن اعتقادِ قيام اللفظِ الحادثِ بذاتِ اللهِ.
(تنبيهٌ): لِيُعْلَمْ أنَّ الذين قالوا مِنَ السلاطينِ العباسيينَ القُرْءانُ مخلوقٌ مِن غير أن يعتقدوا أنه ليس لله كلامٌ غلا ما يخلقُه في غيره كالمأمون والمعتصم بالله فإنهما لم يساعدا المعتزلة إلا على هذه العبارة القرءان مخلوقٌ ولم يعتقدا أنَّهُ ليس لله كلامٌ إلا ما يخلقه في غيره كما هو معتقدُ المعتزلة، ليُعلَمْ أنَّهُ لا يتناوَلُ هؤلاء الخلفاءَ حكمُ الأئمةِ بالتكفيرِ على من قال هذه العبارة فبطَلَ ما زعمه بعضُ الناس مِن الاحتجاج لترك تكفير المعتزلة بعدم تكفير الأئمة للخليفة المأمون العباسيّ والخليفتينِ اللَّذَيْنِ بعدَهُ مع قولِهِمْ عبارةَ القرءان مخلوقٌ وذلكَ لأنَّ قولَ الأئمةِ مُنْصَبٌ على المعتزلة القائلين بأنه ليس لله كلامٌ إلا ما يخلقُه في غيرِه ويُطلقونَ القولَ بأنَّ القرءان مخلوقٌ على هذا الوجه.
والمعتزليُّ الذي يقول هذه المقالة والذي يقول بأن العباد يخلقون أفعالهم الاختيارية مستقلين بإيجادها وإنَّ الله كان قادرًا على أن يخلق أفعالَ العباد قبل أن يعطيَهم القدرةَ عليها وبعد أن أعطاهم القدرة عليها صار عاجزًا عن خَلْقِها كافرٌ قطعًا، لكن لا يُكفَّر الواحدُ مِن المعتزلة لمجرد انتسابه إليهم إلا أن تثبتَ عليه قضيةٌ معيَّنَةٌ يَكفُرُ معتقدُها لأن منهم من ينتسب إليهم انتسابًا ولا يوافقهم إلا في بعض مقالاتهم التي هِيَ غيرُ كفر.
وأما إطلاق القول بأن المعتزلة ضُلَّالٌ غيرُ كفارٍ فبعيدٌ مِن الصواب إذْ كيف يُتردد في تكفير من يقول إن الله لا يقدر أن يخلق مقدور العباد بعد أن أعطاهم القدْرةَ عليها. هكذا حقَّقَ القولَ في أمر المعتزلة الحافظُ الفقيهُ شيخُ الإسلام سراجُ الدّين عُمَرُ بن رسلان البُلقينيُّ المصرِيُّ. وقال الحافظ الفقيه الحنفيُّ محمد مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين ما نصّه [ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان] اهـ.
(تنبيه): ذكر بعضُ شُرَّاحِ هذه العقيدة أنَّ قولنا لموسى كليمُ الله ليس لأنه يسمع الكلام الذاتيَّ إنما معناه سمع صوتًا دالًّا على كلام الله تعالى بغير واسطة ملك أو غيره لذلك يسُمى كليمَ الله اهـ. وهذا غير مستحسن، وذكرَ أنه لا يجوز أن يُسمع ما ليس بصوتٍ اهـ. والصَّحيحُ أنَّ سماعَ ما ليس بحرفٍ ولا صوتٍ جائزٌ ممكنٌ فكما أنه يصح أن يُسمع الحرف والصوت كذلك يصح سماع الكلام الذي ليس بحرفٍ ولا صوتٍ إذا أزال اللهُ المانعَ للعبدِ منه. وقد حقَّقَ البيهقِيُّ رحمه الله هذه المسألةَ في الأسماء والصفاتِ فلْيُراجَعْ.
قال المؤلف رحمه الله: [وهوَ مَكتوبٌ في مصَاحِفِنا محفوظٌ في قلوبِنَا مَقروءٌ بألسِنَتِنا مسموعٌ بآذانِنا غيرُ حالٍّ فيها].
(الشرحُ): أنَّ القرءانَ يُقال فيه إنه مكتوبٌ في مصاحفنا أيْ بأشكالِ الكتابةِ أيْ بالحروف الدالَّةِ عليه، محفوظٌ في قلوبنا أي بالألفاظ المُتخَيَّلَةِ، مقروءٌ بألسنتنا أي بالحروف الملفوظةِ المسموعة، مسموعٌ بآذاننا غيرُ حالٍّ فيها أيْ أن الكلام الذاتيَّ ليس حالًّا في المصاحف ولا في القلوبِ والألسنةِ ولا هو المسموعُ بآذاننا إنما أشكال الحروف المكتوبةُ والألفاظُ المحفوظةُ في القلوب والمقروءةُ بالألسن والمسموعةُ بالآذان هِيَ اللفظُ المُنَزَّلُ لا عينُ الصِّفَةِ القديمةِ فإنها أي الصِّفَةَ معنًى قائمٌ بذات الله. وتقريبُ ذلك أنْ يُقالَ النَّارُ جوهرٌ مُحْرِقٌ يُذْكَرُ باللفظ ويُكْتَبُ بالقلم ولا يَلزم منه أنْ تكون حقيقةُ النار صوتًا وحرفًا، ويُقال في تقريب ذلك أيضًا أنَّ للشيْءِ وجودًا في الأعيان ووجودًا في الأذهان ووجودًا في العبارة ووجودًا في الكتابة، فالكتابة تدل على العبارة وهِيَ على ما في الأذهان وهو على ما في الأعيان فحيثُ يُوصَفُ القرءانُ بما هو من لوازم القديم كما في قولنا القرءان غير مخلوق فالمراد به حقيقتُهُ القائمةُ بذاتِ اللهِ تعالى، وحيث يُوصف بما هو من لوازم المخلوقات يُراد به الألفاظُ المنطوقةُ المسموعةُ كما في قولنا قرأتُ نصفَ القرءان، أو الألفاظُ المتخيَّلَةُ كما في قولنا حفظت القرءان، أو الأشكال المنقوشة كما في قولنا يحرم على المحدِث مسُّ القرءان.
قال الإمام أبو حنيفة في القفه الأكبر والقرءان كلام الله تعالى، في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروءٌ وعلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم منزّلٌ، ولفظُنا بالقرءان مخلوق وكتابتنا له مخلوقة وقراءتنا له مخلوقة والقرءان غير مخلوق اهـ. وقال رحمه اللهُ في الوصية نُقِرُّ بأن القرءانَ كلامُ الله تعالى ووحيُه وتنزيلُه وصفتُهُ مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظٌ في الصدور غيرُ حالٍّ فيها اهـ.
(مسألةٌ): من الأدلة الظاهرة على أن اللفظ المنزل يُطلق عليه أنه كلام الله قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] لأن كلام الله هنا هو المسموع الذي يُسمع مِنَ التَّالِي إن كان الذي يُتْلُو الرسولَ صلى الله عليه وسلم أو غيرَه، وصفاتُ الله تعالى لا تَسَلُّطَ للخَلْقِ عليها فَتَعَيَّنَ أن يكونَ المرادُ بكلامِ اللهِ هنا اللفظَ المنزلَ وهذا اللفظ هو الذي يمكن أن يُغَيِّرُوهُ وهو الذي أراد الكفار أن يبدلوه.
وكل أهل الحق متفقون على أن الصفة الأزلية التي ليست بحرفٍ وصوتٍ هي الكلام القائم بذات الله وهو غير مخلوق، وأما اللفظ المنزّل فهو قائم بالمخلوق وهو محدَثٌ، فما قام بالخالق فليس بمخلوق وما قام بالمخلوق فهو مخلوق.
([1]) قوله: (غير العلم وغير الإرادة) أيْ ليس هو العلمَ ولا الإرادةَ ولم يردِ المصنِّفُ رحمه اللهُ بالغيريةِ هنا الغيريَّةَ التِي تُطلَقُ في حقِّ الاثنينِ المختلفينِ اللَّذَيْنِ يصحُّ عقلًا وجودُ أحدهما من غير وجودِ الآخرِ كما تقولُ السماءُ غيرُ الأرضِ الزُّرْقَةُ غيرُ السماءِ والبياضُ غيرُ اللَّبَنِ والجريانُ غيرُ الماءِ. سمير.