الأحد نوفمبر 9, 2025

الدَّرسُ الثّاني

شَرحُ بعضِ عِباراتِ العقيدةِ الطَّحاوِيّةِ

الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ وصَلَّى اللهُ على سيدنا محمَّد وعلى ءاله الطيبين الطّاهرين، قال المؤلف رحمه الله وهو أبو جعفرٍ الطّحاويُّ المتوفى سنة 321 هـ : ويملِكُ كلَّ شىء ولا يَمْلِكُهُ شىءٌ قال الله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ  120 سورة المائدة . ولأنّ المالكيّةَ قادِرِيَّة ، والمملوكيّةَ مقدُورِيّةٌ، ولمّا ثبَتَ لهُ سبحانَه وتعالى صفةُ القَادريّةِ انتفَى عنه صفةُ المقدُوريّة لما بَينَهُما منَ التَّضَادّ ولا غِنى عن اللهِ طَرفَةَ عَين.

قُدرَةُ الله تعالى شامِلةٌ لكلِّ مقدُور ومعنى المقدورِ ما يصِحُّ في العقل دخولُه في الوجود أمّا ما لا يصِحُّ في العقل دخولُه في الوجود فلا وظيفةَ لقُدرة الله تعالى فيه لأنّه طلَبُ المحال، فلا يُقالُ الله تعالى قادِرٌ أن يخلُقَ مثلَه ولا يقالُ ما أشبَه ذلك كقولِ بعضِ الملحدين: اللهُ تعالى قادرٌ أن يجعَل نفسَه ضِمنَ قِشرِ بَيضَةٍ، هذا طلَبُ المحَال، فالجوابُ لهؤلاء أن يُقالَ لهم: لا يقالُ الله قادرٌ على هذا ولا يُقالُ عَاجزٌ عنه لأنّ القُدرةَ وظيفتُها التّأثيرُ في الممكناتِ العقليّةِ، أمّا ما يُحِيلُ العقلُ وجودَه أي دخُولَه في الوجُود فلا يصِحُّ في العَقلِ تعَلُّقُ قُدرَةِ اللهِ تعالى بإيجادِه ، وذلكَ لأنّه يؤدّي إلى المحَال وهو كونُ القَديم حادثًا والحادثِ قَديمًا ، واللهُ مِن شأنه أن يكونَ أزليًّا لا يَطرأ عليهِ تغيُّرٌ وتحَوُّلٌ مِن حالٍ إلى حَال، فهذا عكسُ ذلك إذًا هذا عَكسُ مُقتَضَياتِ العقلِ وهوَ مُحالٌ فإذًا هذا السؤالُ سؤالُ المحَال. يُقال لهُ: أنتَ بقَولِك هَذا تَخرُج عن دائرةِ العَقلِ لأنّ العقلَ لا يَقبَلُ أن يكونَ الأزليُّ القديمُ الذي لم يَسبِقْه عدَمٌ حَادثًا ولا يَقبَلُ أنْ يَكونَ الحادثُ أزليًّا، فقَولُك هل اللهُ قادرٌ على أن يَخلُقَ مِثلَه يتَضمَّنُ أنّكَ تَجعَلُ الأزليَّ حادثًا والحادثَ قديمًا أزليًّا وهذا جمعٌ بَينَ مُتَنافِيَين وذلكَ خرُوجٌ عن العقل.

(4) فقَولُ اللهِ تعالى {وهوَ على كُلّ شَىءٍ قَدير}  ليسَ معناه شَاملًا لمِثْلِ هذه المحَالاتِ، ليسَ معناه أنّه يَستَطِيع أنْ يَخلُقَ مِثلَه أو أكبَرَ مِنه. اللهُ تعالى لو كانَ لهُ مِثلٌ لكانَ ذلكَ المثلُ أزليًّا لا يكونُ حادثًا ولا يصِحُّ في العَقلِ أن يكونَ له مِثْلٌ، لأنّهُ لا يصِحُّ في العقلِ وجُودُ حَادثٍ بإيجادِ شَيئَينِ مَوجُودَين أي أن يكونَ هذا مُدخِلًا هذا الشّىءَ في الوجودِ وهَذا مُدخِلًا لهُ في الوجُودِ، العَقلُ لا يَقبَلُه.

فلَو كانَ للعَالَم إلهانِ أزليّانِ أبَديّانِ مُتَمَاثِلانِ لم يَصِحَّ وجودُ هذه العوَالِم لأنّه لا يَصِحُّ في العقلِ إلهٌ لا يَخلُق هوَ بل غَيرُه يَخلُقُ، لا يَقبَلُه العَقلُ، كذلكَ لا يصِحُّ في العقلِ أن يَكونَ إلهانِ مِثْلانِ أزليّانِ أبَديّان كلٌّ منهُما خَالقًا لهذا العالَم، لا يصِحُّ في العَقلِ  لإمكَانِ اختِلافِهِما، فلَو أمكَنَ اختِلافُهُما لم يَستقرَّ أَمرُ العالَم فوجَبَ أن يكونَ معنى أنّ اللهَ قادِرٌ على كلّ شَىءٍ أي أنَّهُ يَصِحُّ منهُ إدخَالُ الشّىءِ المعدُوم إلى الوجودِ مِمّا مِن شَأنه أنّه يَقبَلُ الوجودَ، أمّا الشّىءُ الذي مِن شَأنِه لا يَقبَلُ عَقلًا الوجودَ فهذا لا تتَعلّقُ بهِ قُدرَةُ اللهِ وليسَ ذلكَ عَجزًا في حقّ اللهِ تَعالى إنّما العَجزُ هو فيمَا هوَ قابلٌ للوجُودِ عَقلًا، أمّا مَا لا يَقبَلُ عَقلًا الوجودَ كوجودِ شَريكٍ لله تعالى هذا لا يُقَالُ فيهِ إنّ اللهَ قادرٌ عليهِ ولا يُقالُ عَاجِزٌ عنه. فالمستَحِيلاتُ العقليّةُ لا تَدخُل تحتَ القُدرةِ ليسَت مِن وظِيفَةِ القُدرةِ الإلهيّة، لأنّ قَلْبَ الحقائقِ العقليّةِ مُحَالٌ فالحادِثُ لا يكونُ أزليًّا لأنّ فيهِ جَمعًا بينَ مُتنَافِيَين لأنّ معنى الحادِثِ ما سبَقَه العدَمُ ثمّ دخَل في الوجُود ومعنى الأزليّ ما لم يَسبِقْه العدَمُ فكيفَ يكونُ الذي هو حادثٌ أزليًّا؟! هذا فيهِ جمعٌ بينَ مُتنَافِيَينِ والعَقلُ يُحِيلُ ذلكَ لا يَقبَلُه.

ذكر الأُستاذُ أبو إسحاقَ الإسفَرايِني في كتابِه ” التّرتيبُ في أُصُول الفِقه ” إنّ أوّلَ مَن أُخِذ مِنهُ مَعنى المحَالِ وتَحقِيقه إدريسُ صَلَواتُ اللهِ علَيه حيثُ جَاءه إبليسُ في صُورَة إنسَانٍ وهوَ كانَ يَخِيطُ في كُلّ دَخْلَةٍ وخَرْجَةٍ يَقولُ سُبحانَ اللهِ والحَمدُ لله. فجاءَه بقِشرَةٍ وقال: اللهُ تَعالى يَقدِرُ أنْ يَجعَل الدُّنيا في هذه القِشرَة؟ فقال: اللهُ تعالى قادِرٌ أنْ يَجعَلَ الدُّنيا في سَمّ هَذه الإبرَة، ونَخَسَ بالإبرَةِ في إحْدَى عَينَيهِ وجَعلَه أَعْوَرَ. قال: وهذَا وإنْ لم يَرِد عن رسول الله ﷺ، فقَد انتشَر وظهَر ظُهورًا لا يُرَدُّ. قال: وقَد أخَذَ الأشعريُّ مِن جوابِ إدريسَ أجوبَةً في مسَائلَ كَثِيرةٍ منْ هذا الجنسِ، وأوضَحَ هَذا الجواب فقال: إنْ أرادَ السّائلُ بقَولِه: إنّ اللهَ يَقدِرُ أن يجعَلَ الدُّنيا في قِشرَة، أنّ الدُّنيا على ما هيَ علَيه، والقِشرةَ على مَا هيَ علَيه فلَم يَقُل مَا يُعقَل، فإنّ هَذه الأجسَامَ الكَثِيرَةَ يَستَحِيلُ أنْ تَكُونَ في هَذه القِشرَة ، وإنْ أرادَ أنّه يُصَوِّرُ الدُّنيا قَدْرَ القِشرَةِ ويَجعَلَها فيها، أو يُكَبّرَ القِشرَةَ قَدْرَ الدُّنيا أو أكبَر فيَجعلَها في القِشرَةِ  فلَعَمري اللهُ قَادرٌ على ذلكَ وعلى أكثرَ مِنه. قلتُ وإنّما لم يُفصّل لهُ إدريسُ فكَانَ الجوابُ هَكذا لأنَّهُ مُعَانِدٌ، فلِهَذا عَاقبَه على هذا السّؤال بنَخْسِ العَين، وهو عقُوبَةُ كُلِّ سَائلٍ مِثلِه.

(5)قال المؤلف رحمه الله: “ولا غِنى عن اللهِ طَرفَةَ عَينٍ ومَن استَغنى عن اللهِ طَرفَةَ عَينٍ فقد كَفرَ وصَارَ مِن أهلِ الحَيْن” يعني أنّ اللهَ تعالى لا يَستَغني عنه أحدٌ سواهُ لأنّ أصلَ وجودِه به، وجودُ كلُّ شىءٍ بالله تعالى، هو أدخَل في الوجودِ كلَّ العالَم، كانَ لا شَىءَ ثم صارَ شيئًا بفِعل الله وتَخليقِه وقُدرتِه وتكوينِه وعِلمِه وإرادتِه، فهذه الموجوداتُ أصلُ وجُودِها بالله تعالى فهي لا تَستَغني عنه طرفةَ عَين، هذه الأرضُ هو أدخلَها في الوجودِ بعدَ أن لم تكن وهذه السّماواتُ كذلك، فإذًا استِمرارُ وجودِهما أيضًا بقُدرتِه وعِلمِه ومَشيئتِه وإرادتِه وتَقديره، ولا شىءَ يُمسِكُهما للاستمرارِ في الوجودِ سِوى الله ، وهي أي الأرضُ والسّماواتُ لا يصِحُّ في العقلِ أن تكونَ هيَ تَحفَظُ استمرارَ وجُودِها عليها بل الذي كان أصلُ وجودِها به هو الذي يحفَظُ وجودَها عليها.

وأما قولُ المؤلف: “ومَن استَغنى عن اللهِ طَرفَة عَينٍ فقد كفَر وصارَ مِن أهلِ الحَيْن” معناه مَن زعَم أنّه يَستَغني عن الله طرفةَ عَين فإنّه كافرٌ وهوَ مِن أهلِ الحَيْن أي الهَلاك، هالكٌ خاسِرٌ لا بُدّ، فمَن زعَم أنّه هو يَخلُق وليسَ للهِ تصَرُّف فيهِ هوَ يخلُق ويعمَل أعمالَه مستَقِلا فهوَ كافرٌ، ومَن اعتقدَ أنّه بعدَ أن أعطاهُ اللهُ القُدرةَ هو يَخلُق ويتَصرَّفُ فليسَ لله تصَرُّف اللهُ تعالى صار عاجزًا عن خَلق مقدوراتِ هذا العبدِ حَركاتِه وسكنَاتِه فهو أيضًا كافر. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}  15سورة فاطر. ولأنّ الاستغناءَ صفةُ الرُّبوبيّةِ، الاستغناءُ عن كلّ شىءٍ مِن صفاتِ الله تبارك وتعالى.

والحَيْنُ بفَتح الحاء الهلاكُ لأنّ الكافرَ هالِكٌ بمعنى أنّه مخَلَّد في النّار مُعَذَّبٌ فيها أبدًا، هذا هَلاكُ الكافر، ليسَ معناه أنّه في الدّنيا هذه لا بُدَّ أن يَعطِبَه اللهُ تعالى بعَذابٍ ينَزِّلُه به.

الرَّسولُ ﷺ شَبَّه المؤمنَ بالخَامَةِ منَ الزَّرعِ مَرَّةً الرِّيحُ تُمِيلُها ومرّةً تَعدِلُها تَتركُها قائمةً مستَقيمةً، معناه المؤمنُ في الدُّنيا يُصابُ بمصَائب، هذه سِيرةُ الأنبياءِ مَن تَتبّعَها يجِدُ كُلَّ واحِدٍ منهُم قَد ابتُلِي ببَلاءٍ عظِيم،

وشَبَّه الكافرَ بالأرزةِ شَجَرِ الأَرْز، شبَّهَ الكافرَ بالأرزة لأنّ الأرزةَ لا يُميلُها شىءٌ هيَ ثابتةٌ كالجبَل ثمّ يكونُ انجِعَافُها مرَّةً واحدة، عطَبُها مرَّةً واحِدَة، ليسَت كالخامَةِ منَ الزّرْع مَرَّةً الرّيحُ تُميلُها يَمنَةً ومَرَّةً يَسْرَةً وَمَرَّةً تَعدِلُها.

قال عليه الصلاة والسلام: «مثَلُ المؤمنِ كالخَامَةِ(1) مِنَ الزّرْع تُفَيِّئُها([1]) الرّيحُ مَرّةً وتَعدِلُها([2]) مَرّةً ومَثَلُ المُنافِق كالأرزة لا تزَالُ([3]) حتى يكونَ انجِعافُه([4]) مرّةً واحِدَة»([5])

(6)- فرعَونُ عاش أربعَمائةِ سنةٍ لا يَصدَعُ له رأس ولا يَضرب له عِرقٌ بسخُونَة بحُمَّى حتى قال مِن شِدَّة اغترارِه : أنا ربُّكُم الأعلى، ثم لما دخَل البحرَ ليَلحَق موسى وقَوْمَه، فكانَ مِنَ المغرَقِين.

 قال المؤلف رحمه الله : “واللهُ تَعالى يَغضَبُ ويَرضَى لا كأحدٍ مِنَ الوَرَى”: اللهُ تَعالى يُوصَفُ بالغَضَب والرّضَى، وغَضَبُه ليسَ كغَضبِنا ليسَ انفِعالًا، ورِضاهُ ليسَ كرضَانا ليسَ انفِعالًا، إذًا هما صِفَتانِ أزليّتانِ قائِمَتانِ بذَاتِه تَعالى بلا كَيف.

“واللهُ تَعالى يَغضَبُ ويَرضَى لا كأحَدٍ مِنَ الوَرَى” فمِمّا ورَدَ في القرءانِ أو الحديثِ ممّا يُوهِمُ أنّ لهُ صِفةَ غَضَبٍ تَطرأ على ذاتِه وأنّه له صفةَ رضى تَطرأ على ذاتِه بَعدَ أن لم تَكن فذلكَ الظّاهرُ غَيرُ مُرَاد إنّما المرادُ أنّ لهُ صِفةَ غَضَب وأنّ لهُ صفةَ رضًى أزليّتَين، ليسَتا كغَضب غَيرِه ورضى غَيرِه، كما نَطَقَ به القرءانُ في قولِه تعالى{رضيَ اللهُ عَنهُم} وفي حَقّ الكُفَّار {وغضب الله عليهم ولعنهم} 6 سورة الفتح. أي بما أنّه جاءَ في القرءانِ الكريم ذِكرُ صِفَةِ الغَضب وصِفَةِ الرّضَى للهِ تَبارك وتعالى يجبُ علَينا أن نعتقدَ أنّ للهِ غَضبًا وأنّ للهِ رضًى بمعنى أنّهما صِفَتانِ أزليّتانِ أبَدِيّتان لا بمعنى أنّهما انفِعالان كغضَب المخلوقينَ ورضَاهم، رضانا انفِعالٌ حادثٌ يَحدُث فِينا بعدَ أن لم يكن،  وغضَبُنا انفِعالٌ يَحدُثُ فينا ثم يَزُول.

الأصلُ أنّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُوصَفُ بما وصَفَ بهِ نَفسَه في كتابه العزيزِ وبما صَحَّ أنّ الرَّسولَ ﷺ وصفَه بهِ مِن غَيرِ أن يكونَ لأحَدٍ شِركةٌ مع اللهِ تعالى لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه ، هذه القاعدةُ التي يَعتقدُها أهلُ الإيمان أهلُ الحقّ.

اللهُ تعالى وَصَف نَفسَه بالعلم والمشيئةِ أي الإرادةِ والقُدرَة والحياةِ ووَصَفَ نفسَه بأَنَه غنيٌّ بأنّهُ حَميدٌ وبأنّه متَكلّم وبأنّهُ حَيٌّ سميعٌ بَصيرٌ وبأنّه خَالِقٌ فلا يجُوز لنا أن نعتقدَ أن شيئًا مِن هذه الصّفاتِ كصفاتِ غَيرِه، بل يجبُ أن نعتقدَ أن لهُ حَياةً ليسَت كحياةِ غَيرِه وأنّ لهُ عِلمًا ليس كعِلم غَيره وأنّ لهُ قُدرةً ليسَت كقُدرَةِ غَيره وأن له سَمعًا وبصرًا ليسَا كسَمع غيرِه وبصَرِ غَيرِه وأنّ لهُ كلامًا أي تكلُّمًا صفةٌ ذاتيّةٌ ليسَ ككلام غيرِه وأنّ لهُ إرادةً أي مشيئةً ليسَت كإرادةِ غَيرِه. فمَن قالَ : ليسَ للهِ عِلمٌ بل هو عالمٌ بذاتِه ليسَ للهِ مَشيئَةٌ بل هوَ شاءٍ مُريدٌ بذاتِه لا بصِفَةٍ فقَدْ ضَلَّ وهَلَكَ.

ثمّ الغضَبُ بالنّسبَةِ للمَخلُوقِ تَغَيُّرٌ يَحصُل عندَ غَلَيانِ الدَّم بإرادةِ إيصَالِ الضّررِ إلى المغضُوبِ علَيه، فالتّغيُّر مُبتَدأ وإيصَالُ الضّرَر نهايةٌ، فإذا وُصِفَ اللهُ تَعالى بالغَضب لم يوصَفْ إلا باعتبارِ النّهايةِ ، وإذا وُصفَ المخلُوقُ بهِ يُوصَف بالْمَبدَإ هَذا معنى قولِ أبي جَعفَرٍ الطحاويّ رحمه اللهُ “*لا كأحَدٍ مِنَ الوَرَى*” معناه نُثبت له غضَبًا لا كأحَدٍ منَ الخلق ونُثبِت لهُ رضًى لا كرضى أحَدٍ مِنَ الخلق. الرّضى عبارةٌ عن إرادةِ إنعامِه على عبادِه أو عن نَفسِ إنعَامِه علَيهِم وهَذا هوَ مَعنى الرّحمةِ أيضًا، إذا قيلَ:  اللهُ رَحيمٌ اللهُ رَحمنٌ، ليسَ معناه الرّحمةَ التي هيَ صِفةُ العباد وهيَ رِقَّةُ القَلب، اللهُ مُنزَّه عن القَلب وعن جميع الأعضاءِ وعن الرّقةِ وما أشبهها من الصّفاتِ الحادثة والانفعالاتِ، الله تعالى أزليُّ الذّاتِ والصّفات.

اللهُ تعالى يَرى المَرئيّاتِ برؤيتهِ الأزليّة، فنَحنُ نُثبِتُ للهِ ما أثبَتَ لنَفسِه مِنَ الصّفاتِ كالوجود والقِدَم والبَقاء والمخالفَةِ للحَوادث والوحدانيةِ والقُدرةِ والعِلم والإرادةِ والحياةِ والسَّمْع والبصَرِ والكلام والتَّكْوينِ الذي هوَ يُعرَف مِنَ القُدرَة، هذه الصّفاتُ الثّلاثَ عَشْرَةَ يجب مَعرفَتُها تَفصيلًا على كلِّ مكلَّف بالِغٍ عَاقلٍ مِن ذكَرٍ وأُنثَى.

اللهُ تَعالى وجُودُه أزليٌّ، أمّا وجُودُ غيرِه حَادثٌ أحدثَه اللهُ تَعالى ولولا إحدَاثُ الله تعالى لهذه الأشياءِ التي هيَ مَوجُودةٌ ما صارَ لها وجودٌ، لذلكَ يقولُ بعضُ الصُّوفيّةِ: “لا مَوجُودَ بذَاتِه إلّا الله”، مَعناه أنَّ اللهَ تعالى وجُودُه أزليٌّ ولا شىءَ مِنَ العالَم كذَلكَ، بل وجُودُ الحادثاتِ بغَيرها أي بإحداثِ اللهِ تعالى.

صِفَاتُ اللهُ قِسمَان: صِفَاتٌ يجبُ مَعرفَتُها على كلّ مُكَلَّف أي على كُلّ بالغٍ عاقلٍ تَفصِيلًا، وصِفاتٌ لا يجبُ مَعرفتُها تفصِيلًا على كلّ بالغٍ عاقِلٍ بل يجبُ مَعرفتُها وجوبًا كِفَائِيًّا، أي إنّ مَعرفتَها واجبَةٌ مِن حيثُ الجُمْلَةُ، ثم هذه الصّفاتُ كُلُّها مَذكُورةٌ في القرءان إمّا باللّفظِ الذي يُعبِّر به علماءُ التّوحِيد أو بالمعنى.

قَولُهم: “يجبُ للهِ تعالى الوجودُ” الله تعالى أثبتَه في القرءان. ليسَ في القُرءانِ لفظُ اللهُ مَوجُودٌ لكنّ المعنى موجودٌ ، أليسَ قال:{الحمدُ للهِ رَبّ العَالَمِين} أليس قال:{أَفي اللهِ شَكٌّ} (10) سورة إبراهيم. هذا كأنّهُ قالَ اللهُ مَوجودٌ. وَاللهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى أَعْلَم.

كالخامةِ منَ الزَّرع أي اللّيّنةِ من الزّرع

([1])  أي تُميلُها.

([2])  أي ترفعُها.

([3])  أي قائمةً لا تَلِين.

([4])  أي انقِلاعُه.

([5])  رواه البخاريّ ومسلِمٌ عن كعب بن مالك، وأحمدُ، وأخرجه الطبرانيُّ أيضًا.