الثلاثاء يوليو 8, 2025

#5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.

 

(41) السُّؤَالُ الأَوَّلُ وَالأَرْبَعِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

   الْقِيَامَةُ أَوَّلُهَا مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى اسْتِقْرَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِى النَّارِ وَمِقْدَارُ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا نَعُدُّ قَالَ تَعَالَى ﴿فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾.

الشَّرْحُ: الْقِيَامَةُ هِىَ قِيَامُ الْمَوْتَى لِلْحِسَابِ وَأَوَّلُهَا مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى اسْتِقْرَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِى النَّارِ. وَمِقْدَارُ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْمَعَارِجِ ﴿فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ وَالتَّقِىُّ لا يُحِسُّ بِطُولِ الْوَقْتِ لِأَنَّ اللَّهَ مَلَأَ قَلْبَهُ سُرُورًا، اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ هَذَا الْيَوْمَ الطَّوِيلَ لِلتَّقِىِّ كَتَدَلِّى الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ قَدْرَ سَاعَةٍ تَقْرِيبًا. وَقِسْمٌ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا يُسْأَلُ أَحَدٌ فِيهِ عَنْ ذَنْبِهِ يَكُونُونَ وُقُوفًا بِلا كَلامٍ حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُمْ وَهَذَا الْوَقْتُ الَّذِى لا يُسْأَلُ فِيهِ أَحَدٌ قَدْرُ أَلْفِ سَنَةٍ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الرَّحْمٰنِ ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ﴾.  

   وَوَجْبَةُ الْقِيَامَةِ أَىْ وَقْتُ وُقُوعِهَا لا يَعْلَمُهُ عَلَى التَّحْدِيدِ إِلَّا اللَّهُ. وَالْقِيَامَةُ تَقُومُ عَلَى الْكُفَّارِ وَقَبْلَ ذَلِكَ بِمِائَةِ عَامٍ تَأْتِى رِيحٌ وَتَدْخُلُ تَحْتَ إِبْطِ كُلِّ مُسْلِمٍ فَيَمُوتُ الْمُسْلِمُونَ وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فَتَقُومُ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ يَنْفُخُ الْملَكُ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِى الصُّورِ أَىْ فِى الْبُوقِ فَتَتَقَطَّعُ قُلُوبُ الْكُفَّارِ فَيَمُوتُونَ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ الْكُفَّارُ يَمُوتُونَ تِلْكَ السَّاعَةَ فَلا يَبْقَى بَشَرٌ وَلا جِنٌّ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ. ثُمَّ بَعْدَ مَوْتِ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ يَمُوتُ الْمَلائِكَةُ وَءَاخِرُهُمْ مَوْتًا مَلَكُ الْمَوْتِ عَزْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْيِى اللَّهُ إِسْرَافِيلَ فَيَنْفُخُ مَرَّةً ثَانِيَةً فَيَقُومُ الأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِلسُّؤَالِ وَالْحِسَابِ.

   وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تُدَكُّ هَذِهِ الأَرْضُ دَكًّا أَىْ تَتَحَطَّمُ هَذِهِ الأَرْضُ جِبَالُهَا وَأَشْجَارُهَا وَالأَبْنِيَةُ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهَا، الْجِبَالُ تَصِيرُ غُبَارًا نَاعِمًا إِلَّا مَا كَانَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فَإِنَّهُ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَسَاجِدُ أَيْضًا تُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَدْ وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تُزَفُّ إِلَى الْجَنَّةِ كَمَا تُزَفُّ الْعَرُوسُ، وَالسَّمَوَاتُ تَتَشَقَّقُ وَتُوضَعُ فِى الْجَنَّةِ وَالْبِحَارُ تَشْتَعِلُ نَارًا.

   وَالْكُفَّارُ فِى حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَخْتِمُ اللَّهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ أَىْ يَمْنَعُ أَفْوَاهَهُمْ مِنَ الْكَلامِ لِأَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ فَيُنْكِرُونَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ وَجُلُودُهُمْ فَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنْطَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾. وَالأَرْضُ الَّتِى فَعَلَ عَلَيْهَا الإِنْسَانُ مِنْ حَسَنَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا، اللَّهُ تَعَالَى يُعِيدُهَا فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ تَنْطِقُ وَتَقُولُ فُلانٌ فَعَلَ عَلَىَّ كَذَا وَكَذَا فِى وَقْتِ كَذَا وَكَذَا.

 

(42) السُّؤَالُ الثَّانِي وَالأَرْبَعِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ الْحِسَابِ.

   الْحِسَابُ هُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ وَتَوْقِيفُهُمْ عَلَيْهَا بَعْدَ أَخْذِهِمْ كُتُبَهُمْ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ. وَهَذَا الْكِتَابُ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِى كَتَبَهُ الْمَلَكَانِ رَقِيبٌ وَعَتِيدٌ فِى الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾.

الشَّرْحُ: الْحِسَابُ هُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ أَىْ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ مَا عَمِلُوا فِى الدُّنْيَا فَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ كِتَابَ عَمَلِهِ. الْمُؤْمِنُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَالْكَافِرُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ وَهَذَا الْكِتَابُ هُوَ الَّذِى كَتَبَهُ الْمَلَكَانِ رَقِيبٌ وَعَتِيدٌ فِى الدُّنْيَا.

   وَيَكُونُ الْحِسَابُ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ جَمِيعِهِمْ كَمَا وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِى رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِرْمِذِىُّ مَا مِنْكِمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَلِّمُ كُلَّ إِنْسَانٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَسْمَعُ الْعَبْدُ كَلامَ اللَّهِ الأَزَلِىَّ الَّذِى لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً فَيَفْهَمُ الْعَبْدُ مِنْ كَلامِ اللَّهِ السُّؤَالَ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَاعْتِقَادَاتِهِ فَيُسَرُّ الْمُؤْمِنُ التَّقِىُّ وَلا يُسَرُّ الْكَافِرُ بَلْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ وَالْقَلَقُ وَيَنْتَهِى حِسَابُهُمْ فِى وَقْتٍ قَصِيرٍ. فَلَوْ كَانَ حِسَابُ اللَّهِ لِخَلْقِهِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ مَا كَانَ يَنْتَهِى حِسَابُهُمْ فِى مِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ لِأَنَّ الْخَلْقَ كَثِيرٌ وَحِسَابُ الْعِبَادِ لَيْسَ عَلَى الْقَوْلِ فَقَطْ بَلْ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ فَلَوْ كَانَ حِسَابُهُمْ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَاسْتَغْرَقَ حِسَابُهُمْ زَمَانًا طَوِيلًا جِدًّا وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ أَسْرَعَ الْحَاسِبِينَ بَلْ لَكَانَ أَبْطَأَ الْحَاسِبِينَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْرَعُ مِنْ كُلِّ حَاسِبٍ.  

 

(43) السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالأَرْبَعِينَ: مَا مَعْنَى الثَّوَابِ وَالْعَذَابِ.

الثَّوَابُ هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِى يُجَازَاهُ الْمُؤْمِنُ فِى الآخِرَةِ مِمَّا يَسُرُّهُ وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ ذَلِكَ الْيَوْم مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ.

الشَّرْحُ: الثَّوَابُ هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِى يُجَازَاهُ الْمُؤْمِنُ فِى الآخِرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا يَسُرُّهُ. وَالثَّوَابُ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ وَلا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُثِيبَ الطَّائِعِينَ لَكِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ وَوَعْدُهُ حَقٌّ وَلا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ. وَأَمَّا الْعَذَابُ فهُو الْجَزَاءُ الَّذِى يُجَازَاهُ الْعَبْدُ فِى الآخِرَةِ مِمَّا يَسُوؤُهُ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ سَيِّئَاتٍ كَأَذَى حَرِّ الشَّمْسِ فَإِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو مِنَ الأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى تَكُونَ بِمِقْدَارِ مِيلٍ أَىْ أَلْفَىْ ذِرَاعٍ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ تَدْنُو الشَّمْسُ مِنَ الأَرْضِ فَيَعْرَقُ النَّاسُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ عَرَقُهُ كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى الْعَجُزِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى الْخَاصِرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ عُنُقَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ وَسَطَ فِيهِ (أَىْ فَمِهِ) وَمِنْهُمْ يُغَطِّيهِ عَرَقُهُ. فَمَنْ عَاقَبَهُ اللَّهُ فَبِعَدْلِهِ وَلا يَظْلِمُ اللَّهُ أَحَدًا لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الْحَقِيقِىُّ لِكُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يَفْعَلُ فِى مِلْكِهِ مَا يَشَاءُ فَلا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الظُّلْمُ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لَهُ ءَامِرٌ وَنَاهٍ كَالْعِبَادِ إِذِ الظُّلْمُ هُوَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ وَنَهْىِ مَنْ لَهُ الأَمْرُ وَالنَّهْىُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ءَامِرٌ وَلا نَاهٍ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ فُصِّلَتْ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾.

(44) السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالأَرْبَعِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ الْمِيزَانِ.

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْمِيزَانِ وَهُوَ جِرْمٌ كَبِيرٌ لَهُ قَصَبَةٌ وَكَفَّتَانِ يُوزَنُ عَلَيْهِ الأَعْمَالُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾. فَالْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا تُوضَعُ سَيِّئَاتُهُ فِى كَفَّةٍ مِنَ الْكَفَّتَيْنِ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتُوضَعُ حَسَنَاتُهُ فِى كَفَّةٍ وَسَيِّئَاتُهُ فِى الْكَفَّةِ الأُخْرَى فَإِنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ وَإِنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْمِيزَانِ الَّذِى تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالَّذِى يَتَوَلَّى وَزْنَهَا الْمَلَكَانِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَالَّذِى يُوزَنُ هُوَ الصَّحَائِفُ الَّتِى كُتِبَ عَلَيْهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ. وَالْمِيزَانُ مِنْ حَيْثُ التَّرْكِيبُ كَمِيزَانِ الدُّنْيَا لَكِنَّهُ أَكْبَرُ حَجْمًا لَهُ قَصَبَةٌ وَعَمُودٌ وَكَفَّتَانِ كَفَّةٌ لِلْحَسَنَاتِ وَكَفَّةٌ لِلسَّيِّئَاتِ فَتُوضَعُ صَحَائِفُ الْحَسَنَاتِ فِى كَفَّةٍ وَصَحَائِفُ السَّيِّئَاتِ فِى الْكَفَّةِ الأُخْرَى فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ وَمَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّجَاةِ أَيْضًا لَكِنْ يَكُونُ أَقَلَّ مَرْتَبَةً. وَمَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ مُدَّةً فِى النَّارِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ عَذَابٍ.

   وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتُوضَعُ سِيِّئَاتُهُ فِى كَفَّةٍ مِنَ الْكَفَّتَيْنِ فَتَرْجَحُ كَفَّةُ سَيِّئَاتِهِ لِأَنَّهُ لا حَسَنَاتَ لَهُ فِى الآخِرَةِ فَالْكَافِرُ يُجَازَى فِى هَذِهِ الدُّنْيَا بِالرِّزْقِ وَصِحَّةِ الْجِسْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى أَعْمَالِهِ الْحَسَنَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِهِ فِى الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا نَصِيبٌ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

(45) السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالأَرْبَعِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ النَّارِ.

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِالنَّارِ أَىْ جَهَنَّمَ وَبِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ قَالَ تَعَالَى ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ وَهِىَ أَقْوَى وَأَشَدُّ نَارٍ خَلَقَهَا اللَّهُ وَمَرْكَزُهَا تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ وَهِىَ بَاقِيَةٌ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالنَّارِ أَىْ جَهَنَّمَ وَهِىَ دَارُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ لِلْكَافِرِينَ وَيُعَذَّبُ فِيهَا بَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَيُدْخَلُونَ الْجَنَّةَ وَمَكَانُهَا تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ وَهِىَ مَوْجُودَةٌ الآنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ لا تَفْنَى وَلا يَفْنَى أَهْلُهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ وَمَنْ قَالَ بِفَنَاءِ النَّارِ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَكَفَرَ. وَلا يُخَفَّفُ الْعَذَابُ عَنِ الْكُفَّارِ كَأَبِى لَهَبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾.

   وَيَزِيدُ اللَّهُ فِى حَجْمِ الْكَافِرِ فِى النَّارِ لِيَزْدَادَ عَذَابًا حَتَّى يَكُونَ ضِرْسُهُ كَجَبَلِ أُحُدٍ وَمَا بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَغِلْظُ جِلْدِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا تَأْكُلُهُ النَّارُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ فَلَوْ كَانَتْ خِلْقَتُهُ كَمَا هِىَ فِى الدُّنْيَا لَذَابَ بِلَحْظَةٍ وَلا يَمُوتُ الْكُفَّارُ فِى النَّارِ فَيَرْتَاحُونَ مِنَ الْعَذَابِ وَلا يَحْيَوْنَ حَيَاةً هَنِيئَةً طَيِّبَةً بَلْ هُمْ دَائِمًا فِى نَكَدٍ وَعَذَابٍ.

   وَنَارُ جَهَنَّمَ تَأْكُلُ اللَّحْمَ وَتَكْسِرُ الْعَظْمَ ثُمَّ تَسْتَوْلِى عَلَى الْقُلُوبِ فَلا يُوجَدُ شَىْءٌ أَكْثَرُ وَأَشَدُّ تَأَلُّمًا مِنَ الْقَلْبِ إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ نَارُ جَهَنَّمَ قَالَ تَعَالَى ﴿الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾.

   وَطَعَامُ الْكُفَّارِ فِى جَهَنَّمَ مِنْ ضَرِيعٍ وَهُوَ شَجَرٌ كَرِيهُ الْمَنْظَرِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ قَالَ تَعَالَى ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ وَكَذَلِكَ يَأْكُلُ أَهْلُ النَّارِ مِنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ﴾ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ مَنْظَرُهَا قَبِيحٌ جِدًّا وَرَائِحَتُهَا كَرِيهَةٌ جِدًّا لا تُطَاقُ.

   وَأَمَّا شَرَابُ أَهْلِ النَّارِ فَهُوَ الْمَاءُ الْمُتَنَاهِى فِى الْحَرَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا﴾ أَىْ أَنَّ الْكُفَّارَ فِى جَهَنَّمَ لا يَذُوقُونَ الشَّرَابَ الْبَارِدَ الْمُسْتَلَذَّ ﴿إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا﴾ وَالْحَمِيمُ هُوَ الْمَاءُ الْمُتَنَاهِى فِى الْحَرَارَةِ وَالْغَسَّاقُ هُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ يَسْقُونَهُمْ مِنْهُ فَتَتَقَطَّعُ أَمْعَاؤُهُمْ. وَثِيَابُ الْكُفَّارِ مِنْ نَارٍ قَالَ تَعَالَى ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّنْ نَّارٍ﴾. وَيُوجَدُ فِى جَهَنَّمَ حَيَّاتٌ الْحَيَّةُ الْوَاحِدَةُ كَالْوَادِى وَعَقَارِبُ كَالْبِغَالِ لا تَتَأَثَّرُ بِالنَّارِ تَلْسَعُ الْكُفَّارَ وَتُعَذِّبُهُمْ فَوْقَ عَذَابِهِمْ بِالنَّارِ. اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ.

   وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّ النَّارَ بَاقِيَةٌ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ نَقَلَ الإِجْمَاعَ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ تَقِىُّ الدِّينِ السُّبْكِىُّ فِى رِسَالَتِهِ الِاعْتِبَارُ بِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُ كَافِرٌ بِالإِجْمَاعِ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ الآنَ وَلا تَفْنَيَانِ أَبَدًا. وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ وَخَالَفَ فِى ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فَقَالَ إِنَّ النَّار تَفْنَى لا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ وَتَبِعَهُ فِى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الْفَاسِدَةِ الْوَهَّابِيَّةُ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِى كِتَابِهِمُ الْمُسَمَّى الْقَوْلَ الْمُخْتَارَ لِفَنَاءِ النَّارِ لِعَبْدِ الْكَرِيمِ الْحُمَيْدِ وَقَوْلُهُمْ هَذَا تَكْذِيبٌ لِلْقُرْءَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَحْزَابِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ فَلَوْ كَانَتِ النَّارُ تَفْنَى وَالْكُفَّارُ يَخْرُجُونَ مِنْهَا فَأَيْنَ يَذْهَبُونَ بِزَعْمِهِمْ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذْ لا يُوجَدُ فِى الآخِرَةِ إِلَّا مَنْزِلَتَانِ إِمَّا جَنَّةٌ وَإِمَّا نَارٌ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ مَحْرُومٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ فِى الآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ﴾ أَىْ أَهْلُ النَّارِ يُنَادُونَ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِمَّا يَرَوْنَهُمْ عِيَانًا مَعَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِى وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ وَإِمَّا يَسْمَعُونَ صَوْتَهُمْ فَيَطْلُبُونَ مِنَ الضِّيقِ الَّذِى هُمْ فِيهِ ﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ أَىْ حَرَّمَ عَلَى الْكَافِرِينَ الرِّزْقَ النَّافِعَ وَالْمَاءَ الْمُرْوِىَ فِى الآخِرَةِ فَلا يَجِدُونَ مَاءً بَارِدًا مُرْوِيًا إِنَّمَا يَشْرَبُونَ الْحَمِيمَ وَهُوَ الْمَاءُ الْمُتَنَاهِى فِى الْحَرَارَةِ وَمَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَفَرُوا وَقَصَدُوا الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَذَابًا لا يَنْقَطِعُ.

   وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَعْرَافِ ﴿وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ﴾ أَىْ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ وَسِعَتْ فِى الدُّنْيَا كُلَّ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أَىْ أَخُصُّهَا فِى الآخِرَةِ لِلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ الشِّرْكَ وَسَائِرَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ.

   وَلا يُخَفَّفُ الْعَذَابُ عَنِ الْكُفَّارِ فِى جَهَنَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ﴾ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ فَاطِرٍ ﴿وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا﴾ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْكُفَّارَ فِى جَهَنَّمَ يَسْتَغِيثُونَ بِمَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ فَيُجِيبُهُمْ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ إِذْلالًا لَهُمْ وَاسْتِغَاثَتُهُمْ بِهِ لَيْسَتْ لِلْخُرُوجِ بَلْ يَطْلُبُونَ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ﴾.  

 

(46) السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالأَرْبَعِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ الصِّرَاطِ.

   الصِّرَاطُ هُوَ جِسْرٌ يُمَدُّ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ يَرِدُهُ النَّاسُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِى الْجَنَّةَ بَعْدَ النَّارِ فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيمَا يُحَاذِى الصِّرَاطَ. وَالْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ قِسْمٌ مِنْهُمْ لا يَدُوسُونَ الصِّرَاطَ إِنَّمَا يَمُرُّونَ فِى هَوَائِهِ طَائِرِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدُوسُونَهُ ثُمَّ هَؤُلاءِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُوقَعُونَ فِيهَا وَقِسْمٌ يُنْجِيهِمُ اللَّهُ فَيَخْلَصُونَ مِنْهَا وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكُلُّهُمْ يَتَسَاقَطُونَ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ وَالْوُرُودُ نَوْعَانِ وُرُودُ مُرُورٍ فِى هَوَائِهَا وَوُرُودُ دُخُولٍ.

 

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ عَرِيضٌ يُمَدُّ فَوْقَ جَهَنَّمَ فَيَرِدُهُ النَّاسُ جَمِيعًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْجُو وَمِنْهُمْ مَنْ يَقَعُ فِيهَا فَالْكُفَّارُ يَقَعُونَ مِنْهُ فِى ابْتِدَاءِ وُرُودِهِمْ وَبَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهِ مَسَافَةً ثُمَّ يَقَعُونَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ الْكَلالِيبُ الْمَوْجُودَةُ عَلَى جَانِبَيْهِ فَيَكَادُ يَقَعُ ثُمَّ تُفْلِتُهُ فَيَمُرُّ عَلَى الصِّرَاطِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُرُ الصِّرَاطَ مَشْيًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَرِدُهُ وُرُودَ مُرُورٍ فِى هَوَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمَسَّهُ قَدَمُهُ وَهَؤُلاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَـمُرُّ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَـمُرُّ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ.

   وَالأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالأَتْقِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالأَطْفَالُ لا يَدْخُلُونَ النَّارَ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾.

   وَالصِّرَاطُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِى الْجَنَّةَ بَعْدَ النَّارِ أَىْ قَبْلَ الْجَنَّةِ وَبَعْدَ النَّارِ وَقَدْ وَرَدَ فِى صِفَةِ الصِّرَاطِ أَنَّهُ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ أَىْ أَمْلَسُ تَزِلُّ مِنْهُ الأَقْدَامُ أَمَّا مَا وَرَدَ أَنَّهُ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ فَلَيْسَ الْمُرَادُ ظَاهِرَهُ بَلْ هُوَ عَرِيضٌ وَإِنَّـمَا الْمُرَادُ أَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ فَإِنَّ يُسْرَ الْعُبُورِ عَلَيْهِ وَعُسْرَهُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِى فَقَدْ وَرَدَ فِى صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ.

 

(47) السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالأَرْبَعِينَ: تكَلَّمْ عَنِ الْحَوْضِ.

   الْحَوْضُ هُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ وَلِكُلِّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ حَوْضٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أُمَّتُهُ وَأَكْبَرُ الأَحْوَاضِ هُوَ حَوْضُ نَبِيِّنَا ﷺ وَعَلَيْهِ أَكْوَابٌ بِعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَيَنْصَبُّ فِيهِ مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْحَوْضِ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ وَقَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَبُ تَلَذُّذًا وَهُمُ الأَتْقِيَاءُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْرَبُ عَطَشًا وَهُمُ الْعُصَاةُ وَلِكُلِّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ حَوْضٌ تَشْرَبُ مِنْهُ أُمَّتُهُ وَأَكْبَرُ الأَحْوَاضِ حَوْضُ نَبِيِّنَا ﷺ طُولُهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ وَعَرْضُهُ كَذَلِكَ وَعَلَيْهِ أَكْوَابٌ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَيَنْصَبُّ فِيهِ مِنْ مَاءِ الْجَنَّةِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَوْضِى مَسِيرَةُ شَهْرٍ مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لا يَظْمَأُ أَبَدًا.

 

(48) السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالأَرْبَعِينَ:  تَكَلَّمْ عَنِ الشَّفَاعَةِ.

   الشَّفَاعَةُ هِىَ طَلَبُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَطْ فَالأَنْبِيَاءُ يَشْفَعُونَ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالْمَلائِكَةُ قَالَ ﷺ «شَفَاعَتِى لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى» رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، فَلا شَفَاعَةَ لِلْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالشَّفَاعَةِ وَهِىَ طَلَبُ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنْ بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَشْفَعُ الأَنْبِيَاءُ وَالْمَلائِكَةُ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَيَشْفَعُ نَبِيُّنَا ﷺ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ شَفَاعَتِى لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِى رَوَاهُ الْحَاكِمُ. وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ قَبْلَ دُخُولِهِمُ النَّارَ وَلِبَعْضٍ بَعْدَ دُخُولِهِمْ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تَمْضِىَ الْمُدَّةُ الَّتِى يَسْتَحِقُّونَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ يَخْرُجُ نَاسٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ بَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ النَّارَ فَلا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِنَجَاةِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ.

   أَمَّا الأَتْقِيَاءُ وَالَّذِينَ مَاتُوا تَائِبِينَ فَلا يَحْتَاجُونَ لِلشَّفَاعَةِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلا شَفَاعَةَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ أَىْ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى الإِسْلامَ دِينًا أَىْ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ مَاتَ عَلَى الإِيمَانِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِى مَا شِئْتِ مِنْ مَالِى لا أُغْنِى عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ مَعْنَاهُ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنْقِذَكِ مِنَ النَّارِ إِنْ لَمْ تُؤْمِنِى أَمَّا فِى الدُّنْيَا فَأَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفَعَكِ بِمَالِى.

   وَلِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى وَهِىَ عَامَّةٌ لا تَخْتَصُّ بِأُمَّتِهِ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهَا غَيْرُ أُمَّتِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَهِىَ لِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ النَّاسَ فِى ذَلِكَ الْمَوْقِفِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعَالَوْا لِنَذْهَبَ إِلَى أَبِينَا ءَادَمَ لِيَشْفَعَ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ إِلَى ءَادَمَ وَيَقُولُونَ يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ (أَىْ بِعِنَايَةٍ مِنْهُ) وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا (أَىْ أَنَا لَسْتُ صَاحِبَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ) اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ فَيَقُولُ ايِتُوا إِبْرَاهِيمَ فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ ايِتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَ النَّبِىَّ ﷺ فَيَسْجُدُ النَّبِىُّ لِرَبِّهِ فَيُقَالُ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ.

 

(49) السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالأَرْبَعِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ الْجَنَّةِ.

   هِىَ دَارُ السَّلامِ وَهِىَ مَخْلُوقَةٌ الآنَ قَالَ تَعَالَى ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ وَهِىَ بَاقِيَةٌ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾. وَأَكْثَرُ أَهْلِهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمُ «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاء…» الْحَدِيثَ. وَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ فِيهَا مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ قَالَ ﷺ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِىَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَهِىَ دَارُ النَّعِيمِ الدَّائِمِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَكَانُهَا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَهِىَ مَوْجُودَةٌ الآنَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ لا تَفْنَى وَلا يَفْنَى أَهْلُهَا.

   وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ قِسْمَانِ نَعِيمٌ عَامٌّ لِكُلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمٌ خَاصٌّ لا يَنَالُهُ إِلَّا الأَتْقِيَاءُ أَمَّا النَّعِيمُ الْعَامُّ فَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ أَحْيَاءٌ لا يَمُوتُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ فِى صِحَّةٍ لا يَمْرَضُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ شَبَابٌ لا يَهْرَمُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ فِى نَعِيمٍ لا يَبْأَسُونَ أَبَدًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلا تَمُوتُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلا تَسْقَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلا تَهْرَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلا تَبْأَسُوا أَبَدًا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

   وَأَمَّا النَّعِيمُ الْخَاصُّ فَهُوَ الَّذِى أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الْقُدْسِىِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْدَدْتُ لِعِبَادِىَ الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.

   وَالْجَنَّةُ هِىَ الدَّارُ الْمُطَهَّرَةُ مِنَ الأَقْذَارِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْبُصَاقِ وَالْمَنِىِّ. فَطَعَامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَشَرَابُهُمْ لا يَتَحَوَّلُ إِلَى بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ إِنَّمَا يَفِيضُ مِنْ جِسْمِهِمْ عَرَقًا كَالْمِسْكِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلا يَتْفِلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَتَمَخَّطُونَ قَالُوا فَمَا بَالُ الطَّعَامِ قَالَ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ.

   وَأَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ ءَادَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا طُولًا فِى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا وَقَدْ وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ فِى عُمُرِ ثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ عَامًا، أَىْ لا شَعَرَ عَلَى أَجْسَادِهِمْ إِلَّا شَعَرُ الرَّأْسِ وَالأَجْفَانِ وَالْحَاجِبَيْنِ كَأَنَّهُمْ فِى عُمُرِ ثَلاثَةٍ وَثَلاثِينَ عَامًا. وَالزِّيَارَاتُ فِى الْجَنَّةِ سَهْلَةٌ فَأَحْيَانًا سَرِيرُ الشَّخْصِ يَطِيرُ بِهِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ وَأَحْيَانًا يَرْكَبُ خُيُولًا لَهَا أَجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِهِ. ثُمَّ أَعْيُنُ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَوِيَّةٌ تَرَى الشَّخْصَ مِنْ مَسَافَةِ أَلْفِ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ.

   قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا ثُمَّ قَالَ فِى وَصْفِهَا هِىَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ وَفَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِى مُقَامٍ أَبَدِىٍّ فِى حَبْرَةٍ وَنَضْرَةٍ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

   وَقَوْلُهُ ﷺ هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ أَىْ هَلْ مِنْ مُجْتَهِدٍ فِى طَاعَةِ اللَّهِ وَمُسْتَعِدٍّ لِلْجَنَّةِ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا خَطَرَ لَهَا أَىْ لا مِثْلَ لَهَا هِىَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ أَىْ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ عَلَى أَنَّهَا نُورٌ يَتَلَأْلَأُ أَىْ أَنَّهَا مُنَوَّرةٌ لا يُوجَدُ فِيهَا ظَلامٌ فَلا تَحْتَاجُ الْجَنَّةُ إِلَى شَمْسٍ وَلا قَمَرٍ، إِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ كَمَا وَصَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ بِحَيْثُ لَوِ اطَّلَعَتْ عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ فِيهَا ظَلامٌ.

   وَوَصَفَ الرَّسُولُ الْجَنَّةَ بِأَنَّهَا رَيْحَانَهٌ تَهْتَزُّ أَىْ ذَاتُ خُضْرَةٍ كَثِيرَةٍ مُعْجِبَةِ الْمَنْظَرِ. وَكُلُّ شَجَرَةٍ فِى الْجَنَّةِ سَاقُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَأَشْجَارُ الْجَنَّةِ عِنْدَمَا تَتَحَرَّكُ يَصْدُرُ لَهَا صَوْتٌ جَمِيلٌ جِدًّا تَمِيلُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ. وَوَصَفَ الرَّسُولُ الْجَنَّةَ بِأَنَّهَا قَصْرٌ مَشِيدٌ أَىْ فِيهَا قُصُورٌ عَالِيَةٌ مُرْتَفِعَةٌ.

   أَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ أَىْ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ جَارِيَةٌ فَالْجَنَّةُ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ أَىْ حَلِيبٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَفَاكِهَةٌ نَضِيجَةٌ أَىْ فِيهَا مِنَ الْفَوَاكِهِ كُلُّ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَاكِهِ نَضِيجٌ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ أَىْ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَزْوَاجٌ حِسَانٌ جَمِيلاتٌ.

   وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فِى مُقَامٍ أَبَدِىٍّ أَىْ فِى حَيَاةٍ دَائِمَةٍ لا نِهَايَةَ لَهَا وَقَوْلُهُ فِى حَبْرَةٍ أَىْ سُرُورٍ دَائِمٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ نَضْرَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوهَ أَهْلِهَا جَمِيلَةٌ.

   وَفِى نِهَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الصَّحَابَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ قُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا الْجَنَّةَ.

 

 (50) السُّؤَالُ الخَمْسُونَ: تَكَلَّمْ عَنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِى الآخِرَةِ.

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِى الآخِرَةِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُؤُوسِهِمْ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ قَالَ تَعَالَى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ وَقَالَ ﷺ «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تُضَامُونَ فِى رُؤْيَتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَالنَّبِىُّ ﷺ شَبَّهَ رُؤْيَتَنَا لِلَّهِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ. قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ «وَاللَّهُ تَعَالَى يُرَى فِى الآخِرَةِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُءُوسِهِمْ بِلا تَشْبِيهٍ وَلا كَيْفِيَّةٍ وَلا كَمِيَّةٍ وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ».

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِى الآخِرَةِ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْقِيَامَةِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أَىْ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَرَوْنَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ، لا يَرَوْنَهُ حَجْمًا لَطِيفًا كَالنُّورِ وَلا حَجْمًا كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَلا يَرَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا حَالًّا فِى الْجَنَّةِ وَلا خَارِجَهَا وَلا يَرَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فَلا يَرَوْنَهُ مُتَحَيِّزًا عَنْ يَمِينِهِمْ وَلا عَنْ يَسَارِهِمْ وَلا فِى جِهَةِ فَوْقٍ وَلا فِى جِهَةِ تَحْتٍ وَلا فِى جِهَةِ أَمَامٍ وَلا فِى جِهَةٍ خَلْفٍ يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَجْمٌ وَكَمِيَّةٌ وَمِقْدَارٌ وَمِسَاحَةٌ وَحَدٌّ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ وَلَيْسَ لَهُ أَعْضَاءٌ يَرَوْنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ وَسَمْكٌ وَلَوْنٌ وَشَكْلٌ وَهَيْئَةٌ وَكَيْفِيَّةٌ يرَوْنَهُ بِلا وَصْفِ قِيَامٍ وَقُعُودٍ وَاتِّكَاءٍ وَتَعَلُّقٍ وَاتِّصَالٍ وَانْفِصَالٍ وَسَاكِنٍ وَمُتَحَرِّكٍ وَمُمَاسٍّ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ.

   رُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ فِى الآخِرَةِ لَيْسَ اجْتِمَاعًا بِاللَّهِ كَاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ بِإِمَامِهِمْ فِى الْمَسْجِدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ السُّكْنَى فِى مَكَانٍ.

   وَرُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ فِى الآخِرَةِ جَائِزَةٌ عَقْلًا بِدَلِيلِ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ الرُّؤْيَةَ بِقَوْلِهِ ﴿رَبِّ أَرِنِى أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾، فَلَوْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ مُسْتَحِيلَةً لَمْ يَسْأَلْ مُوسَى رَبَّهُ أَنْ يَرَاهُ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى لِمُوسَى ﴿لَنْ تَرَانِى﴾ أَىْ فِى الدُّنْيَا وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ أُوحِىَ إِلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ لا يُرَى بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ فِى الدُّنْيَا.

   قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تَضَامُّونَ فِى رُؤْيَتِهِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ. شَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ بِالْقَمَرِ أَىْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً لا شَكَّ فِيهَا لا يَشُكُّونَ هَلِ الَّذِى رَأَوْهُ هُوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُهُ كَمَا أَنَّ مُبْصِرَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ يَرَاهُ رُؤْيَةً لا شَكَّ فِيهَا. لا تَضَامُّونَ فِى رُؤْيَتِهِ أَىْ لا تَتَزَاحَمُونَ فِى رُؤْيَتِهِ وَهَذَا شَأْنُ مَنْ لا مَكَانَ لَهُ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا أَرَادُوا رُؤْيَةَ مَنْ فِى مَكَانٍ يَتَزَاحَمُونَ وَيَتَدَافَعُونَ لِيَرَوْهُ فَيَرَاهُ الأَقْرَبُونَ مِنْهُ وَلا يَرَاهُ الأَبْعَدُونَ فَيَتَدَافَعُونَ.

 

(51) السُّؤَالُ الأَوَّلُ وَالخَمْسِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ الإِيمَانِ بِالْمَلائِكَةِ.

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْمَلائِكَةِ أَىْ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَنَامُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُأْمَرُونَ قَالَ تَعَالَى ﴿عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾. وَالَّذِى يَقُولُ إِنَّ الْمَلائِكَةَ إِنَاثٌ حُكْمُهُ التَّكْفِيرُ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى﴾ وَقَدْ يَتَشَكَّلُونَ بِصُوَرِ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ ءَالَةِ الذُّكُورِيَّةِ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْمَلائِكَةِ أَىْ بِوُجُودِهِمْ وَهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ لا تُجَسُّ بِالْيَدِ خَلَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ نُورٍ لَهُمْ أَرْوَاحٌ وَعُقُولٌ وَإِرَادَةٌ. لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَنَامُونَ وَلا يَتْعَبُونَ وَلا يَتَنَاكَحُونَ وَلا يَتَوَالَدُونَ وَهُمْ مُسْلِمُونَ مُكَلَّفُونَ وَعِبَادٌ لِلَّهِ طَائِعُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا. أَعْطَاهُمُ اللَّهُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّشَكُّلِ بِصُوَرِ الرِّجَالِ مِنْ بَنِى ءَادَمَ مِنْ غَيْرِ ءَالَةِ الذُّكُورِيَّةِ لَكِنَّهُمْ لا يَتَشَكَّلُونَ بِأَشْكَالِ الإِنَاثِ وَلا بِأَشْكَالِ الْبَهَائِمِ الْبَشِعَةِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.

   وَكُلُّ مَلَكٍ لَهُ جَنَاحَانِ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعَدَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ فَاطِرٍ ﴿أُولِى أَجْنِحَةٍ﴾ فَسَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ وَقَدْ رَءَاهُ الرَّسُولُ ﷺ بِمَكَّةَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ أَجْيَادُ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ اطْلُبْ مِنْ رَبِّكَ أَنْ تَرَانِى عَلَى صُورَتِى الأَصْلِيَّةِ فَطَلَبَ الرَّسُولُ ذَلِكَ فَظَهَرَ لَهُ مِنَ الْمَشْرِقِ فَسَدَّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَصَعِقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَىْ غُشِىَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَدْ تَحَوَّلَ إِلَى الصُّورَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَا جِبْرِيلُ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَحَدًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَنِى عَلَى سِتِّمِائَةِ جَنَاحٍ وَمَا نَشَرْتُ مِنْهَا إِلَّا جَنَاحَيْنِ وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِسْرَافِيلَ عَلَى سِتِّمِائَةِ جَنَاحٍ الْجَنَاحُ الْوَاحِدُ مِنْهَا مِثْلُ كُلِّ أَجْنِحَتِى. وَيُوجَدُ فِى الْمَلائِكَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ خِلْقَةً كَحَمَلَةِ الْعَرْشِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُذِنَ لِى أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، أَىْ بِخَفَقَانِ الطَّيْرِ الْمُسْرِعِ وَهَذَا الْمَلَكُ كَتِفُهُ عِنْدَ الْعَرْشِ وَرِجْلُهُ فِى الأَرْضِ السَّابِعَةِ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِنَّ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ لا يَرَاهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى هَيْئَتِهِمُ الأَصْلِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾ لَكِنْ يَجِبُ الإِيمَانُ بِوُجُودِهِمْ لِأَنَّ وُجُودَهُمْ ثَابِتٌ بِالْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ فَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُمْ كَفَرَ. اللَّهُ تَعَالَى أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَخَلَقَ فِيهِمْ شَهْوَةَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَاكَحُونَ وَيَتَوَالَدُونَ وَلا يَنَامُونَ. وَالْجِنِّىُّ أَوَّلَ مَا يُولَدُ يُولَدُ مُكَلَّفًا.

   وَإِبْلِيسُ هُوَ أَبُو الْجِنِّ خُلِقَ قَبْلَ ءَادَمَ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ لَهِيبِ النَّارِ الصَّافِى لِقَوْلِهِ ﷺ خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ ءَادَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ، أَىْ مِنْ تُرَابِ هَذِهِ الأَرْضِ، رواه مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا. فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ وَالْجِنَّ لَيْسُوا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِبْلِيسُ لَيْسَ مَلَكًا وَلا طَاوُوسًا لِلْمَلائِكَةِ فَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ طَاوُوسَ الْمَلائِكَةِ أَوْ رَئِيسَهُمْ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْجُهَّالِ بَلْ هُوَ كَافِرٌ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾.

   وَالْجِنُّ فِيهِمُ التَّقِىُّ وَالْفَاسِقُ وَالْكَافِرُ وَلَيْسَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءُ إِنَّمَا أَنْبِيَاءُ الْبَشَرِ هُمْ أَنْبِيَاءُ الْجِنِّ. أَمَّا الشَّيَاطِينُ فَهُمُ الْكُفَّارُ مِنَ الْجِنِّ مِنْهُمُ الْقَرِينُ الَّذِى يُوَكَّلُ بِالشَّخْصِ بَعْدَ وِلادَتِهِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِى صَدْرِ غَيْرِ النَّبِىِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ وَيُوَسْوِسُ لَهُ وَيَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ. الْوَسْوَسَةُ تَكُونُ فِى الصَّدْرِ وَلَيْسَ فِى الأُذُنِ، الشَّيْطَانُ لَهُ حَدِيثٌ بِكَلامٍ خَفِىٍّ مَعَ نَفْسِ الإِنْسَانِ فِى الصَّدْرِ، الأُذُنُ لا تَسْمَعُهُ هُوَ يُحَدِّثُ النَّفْسَ فَتَفْهَمُ عَنْهُ لَكِنَّهُ لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا يَعْلَمُ بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ الشَّخْصُ نَفْسَهُ.

   وَالْقَرِينُ يُلازِمُ الْعَبْدَ إِلَى وَفَاتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا فَإِذَا بَاتَ الْعَبْدُ بَاتَ الْقَرِينُ عَلَى خَيْشُومِهِ الَّذِى هُوَ مُنْتَهَى الأَنْفِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ الْعَبْدُ يَقْفِزُ الْقَرِينُ إِلَى جِهَةِ الصَّدْرِ لِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ إِذَا تَوَضَّأَ الشَّخْصُ أَنْ يُبَالِغَ فِى الِاسْتِنْشَاقِ لِإِزَالَةِ أَثَرِ مَبِيتِ الْقَرِينِ هُنَاكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا.

   أَمَّا الْقَرِينُ الَّذِى مَعَ الأَنْبِيَاءِ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَ فِى أَجْسَادِهِمْ وَلا يَبِيتُ عِنْدَ خَيَاشِيمِهِمْ إِنَّمَا يَدُورُ حَوْلَهُمْ وَيُوَسْوِسُ لَهُمْ مِنَ الْخَارِجِ وَالشَّيْطَانُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَلا عَلَى الأَوْلِيَاءِ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغْرِقَهُمْ فِى الْمَعَاصِى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قُرَنَاءَ الأَنْبِيَاءِ سِوَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَانُوا شَيَاطِينَ كُفَّارًا أَمَّا قَرِينُ النَّبِىِّ ﷺ فَقَدْ أَسْلَمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِى عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلا يَأْمُرُنِى إِلَّا بِخَيْرٍ.

   وَيُوجَدُ غَيْرُ الْقَرِينِ مِنَ الشَّيَاطِينِ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِى الصَّلاةِ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبُ فَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبِى الْعَاصِ الثَّقَفِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ حَالَ بَيْنِى وَبَيْنَ صَلاتِى وَقِرَاءَتِى قَالَ ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبُ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهِ وَاتْفُلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاثًا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أُبَىِّ بنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِىِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ.

   وَيَنْبَغِى أَنْ لا يَسْتَرْسِلَ الإِنْسَانُ مَعَ الْوَسْوَاسِ بَلْ يَنْبَغِى أَنْ يَلْجَأَ إِلَى اللَّهِ فِى دَفْعِهِ وَأَنْ يُعْرِضَ عَنْهُ وَأَنْ يُبَادِرَ إِلَى قَطْعِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ حَتَّى لا تَتَنَكَّدَ عِيْشَتُهُ وَيَنْبَغِى أَنْ لا يَقْعُدَ وَحْدَهُ بَلْ يَقْعُدُ مَعَ الصَّالِحِينَ.

 

(52) السُّؤَالُ الثَّانِي وَالخَمْسِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ الإِيمَانِ بِالرُّسُلِ.

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ أَىْ أَنْبِيَائِهِ مَنْ كَانَ رَسُولًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا وَأَوَّلُهُمْ ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَءَاخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ قَالَ تَعَالَى ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْ رُّسُلِهِ﴾.

الشَّرْحُ: اعْلَمْ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ لِلدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ الإِسْلامِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِى رَضِيَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَءَاخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ وَبَيْنَهُمَا جَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِى الْقُرْءَانِ وَهُمْ ءَادَمُ وَإِدْرِيسُ وَنُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَيُوسُفُ وَمُوسَى وَهَارُونُ وَيُونُسُ وَأَيَّوبُ وَذُو الْكِفْلِ وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ وَدَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ إِخْوَانِهِ الأَنْبِيَاءِ وَسَلَّمَ.

   وَالأَنْبِيَاءُ هُمْ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَفْضَلُهُمْ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ نَبِيًّا رَسُولًا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا وَالنَّبِىُّ الرَّسُولُ هُوَ مَنْ أُوحِىَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أَمَّا النَّبِىُّ غَيْرُ الرَّسُولِ فَهُوَ مَنْ أُوحِىَ إِلَيْهِ بِاتِّبَاعِ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِى قَبْلَهُ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ.

   وَالنَّبِىُّ لا يَكُونُ إِلَّا رَجُلًا مِنْ الْبَشَرِ فَلا نَبِىَّ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَلا مِنَ الْجِنِّ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِى إِلَيْهِم﴾.

   جَمَّلَهُمُ اللَّهُ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ وَأَخْلاقٍ حَسَنَةٍ وَنَزَّهَهُمْ عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ فَلا يَكْذِبُونَ وَلا يَغُشُّونَ وَلا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ رَذِيلٌ يَخْتَلِسُ النَّظَرَ إِلَى النِّسَاءِ الأَجْنَبِيَّاتِ بِشَهْوَةٍ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ يَتَصَرَّفُ بِخِلافِ الْحِكْمَةِ أَوْ يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً تَسْتَقْبِحُهَا النَّفْسُ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ جَبَانٌ ضَعِيفُ الْقَلْبِ أَوْ ضَعِيفُ الْفَهْمِ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْ سَبْقِ اللِّسَانِ فِى أُمُورِ الدِّينِ وَغَيْرِهَا فَلا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلامٍ لا يُرِيدُونَ قَوْلَهُ.

   وَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ سَيِّدَنَا ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ أَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أَىِ اخْتَارَ ءَادَمَ وَنُوحًا لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ نُوحٍ ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ فَنُوحٌ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ رَسُولٌ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا﴾ أَنَّ اصْطِفَاءَ ءَادَمَ هُوَ مِنْ نَفْسِ جِنْسِ اصْطِفَاءِ نُوحٍ الَّذِى هُوَ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَيَشْهَدُ لِنُبُوَّتِهِ حَدِيثُ التِّرْمِذِىِّ ءَادَمُ فَمَنْ سِوَاهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِالإِجْمَاعِ كَمَا فِى كِتَابِ مَرَاتِبِ الإِجْمَاعِ.

   وَسَيِّدُنَا ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ هُوَ أَوَّلُ الْبَشَرِ وَأَوَّلُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ لَمْ يَكُنْ قِرْدًا ثُمَّ تَطَوَّرَ وَلا شَبِيهًا بِالْقِرْدِ بَلْ كَانَ جَمِيلَ الشَّكْلِ حَسَنَ الصَّوْتِ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ وَلَمْ يَكُنْ كَالْبَهَائِمِ الَّتِى تَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَانَ طُولُ ءَادَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا طُولًا فِى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ.

   أَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُلْحِدِينَ إِنَّ أَوَّلَ الْبَشَرِ كَانَ عَلَى صُورَةِ الْقِرْدِ فَإِنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلْقُرْءَانِ قَالَ تَعَالَى فى سُورَةِ التِّينِ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ أَىْ فِى أَحْسَنِ صُورَةٍ أَىْ أَنَّهُ حَسَنُ التَّرْكِيبِ مُنْتَصِبٌ يَمْشِى بِرِجْلَيْهِ وَيَأْكُلُ بَيَدَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ أَىْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الإِنْسَانَ وَكَرَّمَهُ وَجَعَلَ خِلْقَتَهُ أَحْسَنَ مِنْ خِلْقَةِ غَيْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّنْ طِينٍ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ ءَادَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ، أَىْ مِنْ تُرَابِ هَذِهِ الأَرْضِ.

   ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ ءَادَمُ نَبِيًّا وَيَكُونُ قِرْدًا هَذَا يُنَفِّرُ النَّاسَ مِنْهُ وَمِنْ دَعْوَتِهِ فَلَوْ كَانَ قِرْدًا بِزَعْمِهِمْ لَكَانَ هَذَا بَابًا لِلطَّعْنِ فِيهِ وَانْتِقَاصِهِ وَهَذَا لا يَلِيقُ بِالأَنْبِيَاءِ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ دِينَ الأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ هُوَ الإِسْلامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ أَىْ أَنَّ الدِّينَ الصَّحِيحَ الْمَقْبُولَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ الإِسْلامُ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وَقَالَ سَيِّدُنَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ﴾ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. شَبَّهَ الرَّسُولُ الأَنْبِيَاءَ بِالإِخْوَةِ لِعَلَّاتٍ أَىْ كَمَا أَنَّ الإِخْوَةَ لِعَلَّاتٍ أَبُوهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ مُخْتَلِفَاتٌ كَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ فِى الدِّينِ دِينُهُمْ وَاحِدٌ أَىْ عَقِيدَتُهُمْ وَاحِدَةٌ وَشَرَائِعُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ لِلدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ الإِسْلامِ وَأَيَّدَهُ بِمُعْجِزَاتٍ عَظِيمَةٍ وَأَعْظَمُ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ هِىَ مُعْجِزَةُ الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ فَهِىَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ دَعْوَاهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لِأَنَّهُ تَحَدَّى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِى زَمَنِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلاغَةِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿قُلْ لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ وَتَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ أَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ فَعَجَزُوا قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِّنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ مَعْنَاهُ إِذَا كُنْتُمْ لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ وَلا مُنَاصِرُوكُمْ وَمُعَاوِنُوكُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَكَيْفَ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلامِكُمْ وَكَيْفَ يَلْحَقُكُمْ فِى ذَلِكَ ارْتِيَابٌ وَشَكٌّ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ عَلَى الإِسْلامِ. قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ أَىْ أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ ﴿ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وَالْحَوَارِيُّونَ هُمْ تَلامِيذُ عِيسَى فَقَدْ كَانُوا عَلَى الإِسْلامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ ﴿وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ عَلَى الإِسْلامِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِى عَلَّمَهُمْ هَذَا الدِّينَ. ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ عِيسَى عَلَى دِينٍ ءَاخَرَ غَيْرِ الإِسْلامِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين﴾ فَإِذًا عَلَى زَعْمِهِمْ عِيسَى النَّبِىُّ الْمُرْسَلُ يَكُونُ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ لَكِنَّ اللَّهَ يَقُولُ ﴿وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أَىْ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ.

   أَمَّا تَسْمِيَةُ عِيسَى بِالْمَسِيحِ فَقَدْ قِيلَ لِكَثْرَةِ سِيَاحَتِهِ أَىْ تَنَقُّلِهِ فِى الأَرْضِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَ اللَّهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَقِيلَ سُمِّىَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ عَلَى الأَبْرَصِ وَالأَكْمَهِ أَىِ الَّذِى يُولَدُ أَعْمَى فَيُشْفَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ عَلَى غَيْرِ الإِسْلامِ.

   ويَجِبُ أَيْضًا اعْتِقَادُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا بَلْ كَانَ عَلَى الإِسْلامِ كَغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ السَّحَرَةَ لَمَّا ءَامَنُوا بِمُوسَى وَأَسْلَمُوا دَعَوُا اللَّهَ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ فَقَالُوا ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/GrpxgJuvfNE

 

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/bahja-5

 

الْمَوْقِعُ الرَّسْمِيُّ لِلشَّيْخِ جِيل صَادِق: https://shaykhgillessadek.com