الجمعة يوليو 18, 2025

#3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.

 

(24) السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالعِشْرِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ النَّقَائِصِ.

   اللَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ فِى حَقِّهِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ أَىْ مَا لا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى كَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ وَالْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَاللَّوْنِ وَالْحَدِّ قَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 322هـ «تَعَالَى أَىِ اللَّهُ عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالأَرْكَانِ وَالأَعْضَاءِ وَالأَدَوَاتِ لا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَاتِ» وَمَعْنَاهُ لا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فَإِذًا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْجُلُوسِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ» ذَكَرَهُ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ فِى كِتَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَدِّ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْجُودٌ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ وَالْحَدُّ مَعْنَاهُ الْكَمِيَّةُ أَىْ مِقْدَارُ الْحَجْمِ فَإِذَا قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ فَمَعْنَاهُ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا لَهُ كَمِيَّةٌ لِأَنَّ كُلَّ شَىْءٍ لَهُ كَمِيَّةٌ مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْعَرْشِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ أَوْجَدَهُ عَلَى هَذِهِ الْكَمِيَّةِ، الشَّمْسُ لَهَا كَمِيَّةٌ لَهَا حَدٌّ وَمِقْدَارٌ تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ جَعَلَهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ وَلا يَصِحُّ فِى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ هِىَ أَوْجَدَتْ نَفْسَهَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ الَّذِى هِىَ عَلَيْهِ، الْعَقْلُ لا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ الشَّىْءَ لا يَخْلُقُ نَفْسَهُ وَلَمَّا كَانَتِ الشَّمْسُ مَعَ عُظْمِ نَفْعِهَا لا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ إِلَهًا لِلْعَالَمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَالِقُهَا لا كَمِيَّةَ لَهُ لَيْسَ شَيْئًا لَهُ كَمِيَّةٌ، الْعَرْشُ الْكَرِيمُ لَهُ كَمِيَّةٌ أَعْظَمُ كَمِيَّةٍ فِى الْمَخْلُوقَاتِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ أَوْجَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِى هُوَ عَلَيْهِ وَلا يَصِحُّ فِى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ هُوَ خَلَقَ نَفْسَهُ وَكَذَلِكَ مَا بَيْنَ الذَّرَّةِ وَالْعَرْشِ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ أَوْجَدَهُ عَلَى الْكَمِيَّةِ الَّتِى هُوَ عَلَيْهَا فَمُوجِدُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ يَجِبُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ لَيْسَ شَيْئًا لَهُ كَمِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ كَمِيَّةٌ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى هَذِهِ الْكَمِيَّةِ وَهَذَا لا يَرْتَابُ أَىْ لا يَشُكُّ فِيهِ ذُو عَقْلٍ صَحِيحٍ.

   أَمَّا هَؤُلاءِ الْمُجَسِّمَةُ الْوَهَّابِيَّةُ وَأَشْبَاهُهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ جِرْمٌ أَىْ جِسْمٌ لَهُ كَمِيَّةٌ بِقَدْرِ الْعَرْشِ لا أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ هَؤُلاءِ مَا عَرَفُوا اللَّهَ.

   اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ لَهُ كَمِيَّةٌ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ وَأَوْجَدَهُ عَلَى تِلْكَ الْكَمِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْعَرْشَ مُحْتَاجٌ لِمَنْ جَعَلَهُ عَلَى الْكَمِيَّةِ وَالْحَدِّ الَّذِى هُوَ عَلَيْهِ وَهَذَا شَىْءٌ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَدٌّ وَكَمِيَّةٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى لَكَانَ الإِنْسَانُ مِثْلًا لَهُ وَالشَّمْسُ لَكَانَتْ مِثْلًا لَهُ وَالْعَرْشُ لَكَانَ مِثْلًا لَهُ فَلِذَلِكَ عَمَلًا بِهَذِهِ الآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَوُقُوفًا عِنْدَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِىِّ وَجَبَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْحَدِّ وَالْكَمِيَّةِ وَهَذَا شَىْءٌ ثَبَتَ فِى عِبَارَاتِ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلاثَةِ الأُولَى قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَقَرْنِ التَّابِعِينَ وَقَرْنِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَنَا مَحْدُودٌ فَقَدْ جَهِلَ الْخَالِقَ الْمَعْبُودَ، رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِى الْحِلْيَةِ.

   هَذَا هُوَ كَلامُ السَّلَفِ أَمَّا الْوَهَّابِيَّةُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ زُورًا وَكَذِبًا أَنَّهُمْ سَلَفِيَّةٌ فَلَيْسُوا عَلَى عَقِيدَةِ السَّلَفِ فَقَدْ قَالَ إِمَامُهُمْ ابْنُ بَازٍ فِى تَعْلِيقِهِ عَلَى الْعَقِيدَةِ الطَّحَاوِيَّةِ إِنَّ اللَّهَ لَهُ حَدٌّ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَكَلامُهُ هَذَا فِيهِ تَكْذِيبٌ لِلْقُرْءَانِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ. وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ سَلَفُهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ بِأَنَّ اللَّهَ مَحْدُودٌ وَلا يَعْلَمُ حَدَّهُ إِلَّا هُوَ وَقَدْ صَرَّحَ فِى بَعْضِ كُتُبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِقَدْرِ الْعَرْشِ لا أَكْبَرَ مِنْهُ وَلا أَصْغَرَ.

   عَجَبًا كَيْفَ يَعْتَقِدُ ابْنُ تَيْمِيَةَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ مُسْتَقِرٌّ فَوْقَ الْعَرْشِ بِقَدْرِ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ بِذَاتِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الأُولَى وَقَدْ ثَبَتَ فِى الْحَدِيثِ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِى أَرْضٍ فَلاةٍ أَىْ كَحَبَّةٍ صَغِيرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَحْرَاءَ كَبِيرَةٍ فَعَلَى مُقْتَضَى كَلامِهِ أَنَّ اللَّهَ يَتَصَاغَرُ حَتَّى تَسَعَهُ السَّمَاءُ الأُولَى وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَهَّابِيَّةَ مُشَبِّهَةٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ فِى جِهَةٍ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ ذَكَرَ هَذَا الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ ابْنُ الْعُثَيْمِينَ فِى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى فَتَاوَى الْعَقِيدَةِ وَابْنُ بَازٍ فِى مَجَلَّةِ الْحَجِّ فَكَذَّبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ.

   قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْعَلَقِ ﴿كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِى أَنَّ السَّاجِدَ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ وَلا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الظَّاهِرِ أَىْ بِإِثْبَاتِ الْمَسَافَةِ لِلَّهِ بِالْحُلُولِ عَلَى الْعَرْشِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ الْوَاقِفُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنَ السَّاجِدِ. وَالْقُرْبُ الْمَذْكُورُ فِى هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ الْقُرْبُ الْمَعْنَوِىُّ أَىِ السَّاجِدُ أَقْرَبُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَأَقْرَبُ إِلَى اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ أَمَّا عَلَى اعْتِقَادِ الْوَهَّابِيَّةِ يَكُونُ الْقَائِمُ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ مِنَ السَّاجِدِ وَهَذَا خِلافُ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ فِى نَقْضِ عَقِيدَتِهِمْ لِأَنَّ الْفَضْلَ عِنْدَ الْوَهَّابِيَّةِ لِلْجِهَةِ فَعَلَى مُوجَبِ قَوْلِهِمْ مَا كَانَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَرْشِ أَفْضَلُ مِمَّا سِوَاهُ فَيَكُونُ الْمُسَافِرُونَ بِالطَّائِرَةِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ السَّاجِدِينَ لِلَّهِ فِى بُيُوتِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِالْقَرِيبِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ لَكَانَ بَعِيدًا وَلَمْ يَكُنْ قَرِيبًا.

   ثُمَّ الْمَكَانُ هُوَ مَا يَشْغَلُهُ الْحَجْمُ مِنَ الْفَرَاغِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ فِى مَكَانٍ لَكَانَ حَجْمًا وَلَوْ كَانَ حَجْمًا لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْحَجْمِ وَالْمُحْتَاجُ لا يَكُونُ إِلَهًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ حَجْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.

   قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِىِّ النَّابُلُسِىُّ فِى الْفَتْحِ الرَّبَّانِىِّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ (جِسْمٌ) مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ الْمُجَسِّمُ كَافِرٌ وَنَقَلَ صَاحِبُ الْخِصَالِ الْحَنْبَلِىُّ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ قَالَ اللَّهُ جِسْمٌ لا كَالأَجْسَامِ كَفَرَ.

   فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَهَّابِىَّ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقِيمَ الْحُجَّةَ عَلَى عَابِدِ الشَّمْسِ الَّذِى لا يُؤْمِنُ بِالْقُرْءَانِ بِأَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ مُتَحَيِّزٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَعَابِدُ الشَّمْسِ كَذَلِكَ يَعْبُدُ جِسْمًا مُتَحَيِّزًا فِى الْفَضَاءِ. وقَوْلُ الْوَهَّابِيَّةِ اللَّهُ قَاعِدٌ عَلَى الْعَرْشِ شَتْمٌ لِلَّهِ لِأَنَّ الْقُعُودَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْبَشَرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ وَلا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنْ لَهُ جُزْءٌ أَعْلَى وَجُزْءٌ أَسْفَلُ وَمَقْعَدَةٌ يُلامِسُ بِهَا مَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ وَكُلُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ إِذَا وُصِفَ اللَّهُ بِهَا فَهُوَ شَتْمٌ لَهُ.

   قَالَ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ مُحَمَّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِىُّ فِى شَرْحِ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ مَنْ جَعَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ كَفَرَ، أَىْ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ ذَا كَمِيَّةٍ وَحَجْمٍ وَالْحَجْمُ وَالْكَمِيَّةُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْحُدُوثِ أَىْ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهِمَا حَادِثٌ أَىْ مَخْلُوقٌ، وَهَلْ عَرَفْنَا أَنَّ الشَّمْسَ حَادِثَةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ إِلَّا لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا فَلَوْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى حَجْمٌ لَكَانَ مِثْلًا لِلشَّمْسِ فِى الْحَجْمِيَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ كَمَا أَنَّ الشَّمْسَ لا تَسْتَحِقُّ الأُلُوهِيَّةَ.

   وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ طَه ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ فقد فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْقَهْرِ لَكِنْ لا يُقْطَعُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الْقَهْرُ إِنَّمَا يُظَنُّ ظَنًّا رَاجِحًا وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ ﷺ اعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ. وَءَامِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ أَىْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَعَانِيَهُ مِنْ صِفَاتِ الأَجْسَامِ فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِىُّ فِى كِتَابِ الْمُعْتَقَدِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الأَوْزَاعِىِّ وَمَالِكٍ وَسُفْيَانَ وَاللَّيْثِ بنِ سَعْدٍ أَنَّهُمْ سُئِلُوا عَنِ الآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ فَقَالُوا أَمِّرُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلا كَيْفِيَّةٍ، أَىْ ءَامِنُوا بِهَا وَلا تُفَسِّرُوهَا تَفْسِيرًا فَاسِدًا بِنِسْبَةِ الْكَيْفِيَّةِ أَىْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى اللَّهِ.

   فَمَعْنَى ﴿الرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ قَهَرَ وَحَفِظَ وَأَبْقَى وَلا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ بِالْجُلُوسِ أَوِ الِاسْتِقْرَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ أَمَّا مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جَالِسٌ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ أَوْ مُحَاذٍ لَهُ بِوُجُودِ فَرَاغٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ. فَتُحْمَلُ الآيَةُ عَلَى الْقَهْرِ أَوْ يُقَالُ اسْتَوَى اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِهِ أَوِ اسْتَوَى بِلا كَيْفٍ. وَالْكَيْفُ الْمَنْفِىُّ عَنِ اللَّهِ هُوَ الْجُلُوسُ وَالِاسْتِقْرَارُ وَالْمُحَاذَاةُ أَىْ كَوْنُ الشَّىْءِ فِى مُقَابِلِ شَىْءٍ وَالتَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ وَكُلُّ الْهَيْئَاتِ مِنْ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ وَانْتِقَالٍ.

   وَمَعْنَى قَهْرِ اللَّهِ لِلْعَرْشِ الَّذِى هُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّ الْعَرْشَ تَحْتَ تَصَرُّفِ اللَّهِ هُوَ أَوْجَدَهُ وَحَفِظَهُ وَأَبْقَاهُ، حَفِظَهُ مِنَ الْهُوِىِّ وَالسُّقُوطِ وَلَوْلا حِفْظُ اللَّهِ لَهُ لَهَوَى وَتَحَطَّمَ.

   وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِى لُغَةِ الْعَرَبِ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعْنًى مِنْهَا مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ كَالْجُلُوسِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَمِنْهَا مَا يَلِيقُ بِاللَّهِ كَالْقَهْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾.

   وَيَكْفِى فِى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَكَانٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ وَأَبْعَادٌ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحْدَثًا أَىْ مَخْلُوقًا. وَرَوَى الْبُخَارِىُّ وَابْنُ الْجَارُودِ وَالْبَيْهَقِىُّ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ، أَىْ كَانَ اللَّهُ مَوْجُودًا فِى الأَزَلِ أَىْ فِى مَا لا بِدَايَةَ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ لا أَرْضٌ وَلا سَمَاءٌ وَلا كُرْسِىٌّ وَلا عَرْشٌ وَلا مَكَانٌ وَلا جِهَاتٌ فَهُوَ تَعَالَى مَوْجُودٌ قَبْلَ الْمَكَانِ بِلا مَكَانٍ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الْمَكَانَ فَلا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. وَلَيْسَ مِحْوَرُ الِاعْتِقَادِ عَلَى الْوَهْمِ أَىْ أَنَّ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ لا يُبْنَى عَلَى الْوَهْمِ بَلْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ السَّلِيمُ الَّذِى هُوَ شَاهِدٌ لِلشَّرْعِ أَىْ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَحْدُودَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ حَدَّهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ أَىْ أَنَّ كُلَّ مَا لَهُ حَجْمٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْحَجْمِ فَلا يَكُونُ إِلَهًا فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَلا كَمِيَّةٌ وَلا يَتَحَيَّزُ فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فَكَمَا صَحَّ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ قَبْلَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ وُجُودُهُ تَعَالَى بَعْدَ خَلْقِ الأَمَاكِنِ وَالْجِهَاتِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَاعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ لا يَكُونُ نَفْيًا لِوُجُودِ اللَّهِ كَمَا زَعَمَتِ الْمُشَبِّهَةُ وَمِنْهُمُ الْوَهَّابِيَّةُ فَالتَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ هُوَ أَخْذُ مِقْدَارٍ مِنَ الْفَرَاغِ فَاللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا كَثِيفًا وَلا لَطِيفًا لا يَجُوزُ فِى حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرًا مِنَ الْفَرَاغِ وَالتَّحَيُّزُ فِى الْمَكَانِ نَقْصٌ فِى حَقِّ اللَّهِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ التَّحَيُّزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ أَىْ حَجْمٌ وَمِقْدَارٌ وَلَوْ كَانَ ذَا حَدٍّ وَمِقْدَارٍ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ وَالْمُحْتَاجُ لا يَكُونُ إِلَهًا.

   اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ جِسْمًا كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَالْحَجَرِ وَلا جِسْمًا لَطِيفًا كَالنُّورِ وَالظَّلامِ فَلا يَجُوزُ فِى حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرًا مِنَ الْفَرَاغِ فَلا يَتَحَيَّزُ رَبُّنَا فِى جِهَةٍ أَوْ مَكَانٍ وَلا فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ لا يَجُوزُ أَنْ يَمْلَأَ جَمِيعَ الأَمْكِنَةِ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِىِّ النَّابُلُسِىُّ فِى كِتَابِهِ الْفَتْحِ الرَّبَانِىِّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ (جِسْمٌ) مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَوْ أَنَّهُ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ.

   أَمَّا قَوْلُ “اللَّهُ فِى كُلِّ مَكَانٍ” فَلَيْسَ مِنْ كَلامِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ شَخْصٍ كَافِرٍ يُسَمَّى جَهْمَ بنَ صَفْوَانَ الَّذِى كَانَ يَقُولُ عَنِ اللَّهِ هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ وَعَلَى كُلِّ شَىْءٍ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقُتِلَ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ وَتَبِعَهُ فِى ذَلِكَ سَيِّدُ قُطُبٍ فَقَالَ فِى كِتَابِهِ الْمُسَمَّى فِى ظِلالِ الْقُرْءَانِ فِى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ مَا نَصُّهُ وَهِىَ كَلِمَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ لا عَلَى الْكِنَايَةِ وَالْمَجَازِ وَاللَّهُ تَعَالَى مَعَ كُلِّ شَىْءٍ وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ فِى كُلِّ وَقْتٍ وَفِى كُلِّ مَكَانٍ. وَكَلامُهُ هَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ لا شَكَّ فِيهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ مُنْتَشِرًا فِى الْعَالَمِ أَمَّا الآيَةُ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ فَمَعْنَاهَا الإِحَاطَةُ بِالْعِلْمِ لا بِالْجِهَةِ أَىْ عَالِمٌ بِكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ.

   أَمَّا مَنْ يَقُولُ اللَّهُ فِى كُلِّ مَكَانٍ وَيَظُنُّ أَنَّهَا تَعْنِى أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ فَلا يَكْفُرُ لَكِنْ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْهَا، بِخِلافِ مَا إِذَا قَالَ اللَّهُ مَوْجُودٌ فِى كُلِّ مَكَانٍ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ لَفْظٌ صَرِيحٌ فِى إِثْبَاتِ الْمَكَانِ لِلَّهِ. قَالَ الإِمَامُ ابْنُ فُورَكٍ فِى كِتَابِ مُشْكِلِ الْحَدِيثِ اعْلَمْ أَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِى مَكَانٍ أَوْ فِى كُلِّ مَكَانٍ وَقَالَ الإِمَامُ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشَّعْرَانِىُّ فِى كِتَابِهِ الْيَوَاقِيتُ وَالْجَوَاهِرُ قَالَ عَلِىٌّ الْخَوَّاصُ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ إِنَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ مَكَانٍ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالَ مِثْلَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِىُّ فِى أُصُولِ الدِّينِ. فَالَّذِى يَعْتَقِدُ فِى اللَّهِ التَّحَيُّزَ فِى كُلِّ مَكَانٍ جَعَلَ اللَّهَ مُنْتَشِرًا فِى الأَمَاكِنِ النَّظِيفَةِ وَالأَمَاكِنِ الْقَذِرَةِ وَلا يَقُولُ بِذَلِكَ مُسْلِمٌ قَطُّ فَمَنْ نَسَبَ لِلَّهِ الْمَكَانَ جَعَلَهُ حَجْمًا فَلا يَكُونُ مُسْلِمًا. أَمَّا الْمُسْلِمُونَ أَهْلُ التَّنْزِيهِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَجْمًا فَالْمَكَانُ هُوَ مَا يَمْلَأُهُ الْحَجْمُ مِنَ الْفَرَاغِ فَأَنَا حَجْمٌ أَمْلَأُ فَرَاغًا فَأَنَا فِى مَكَانٍ وَهَذِهِ الْغُرْفَةُ حَجْمٌ تَمْلَأُ فَرَاغًا فَهِىَ فِى مَكَانٍ وَالشَّمْسُ حَجْمٌ تَمْلَأُ فَرَاغًا فَهِىَ فِى مَكَانٍ أَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ حَجْمًا يَمْلَأُ فَرَاغًا فَهُوَ مَوْجُودٌ بِلا مَكَانٍ.

   وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ أَىِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ كَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَصْعَدُ إِلَى مَحَلِّ كَرَامَتِهِ أَىْ إِلَى الْمَكَانِ الْمُشَرَّفِ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ السَّمَاءُ، ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ أَىْ أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ أَىْ أَنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ هِىَ الأَصْلُ وَالأَسَاسُ لِرَفْعِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ أَىْ لِقَبُولِهَا وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُنْطَبِقٌ وَمُنْسَجِمٌ مَعَ الآيَةِ الْمُحْكَمَةِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾

    وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ﴾ فَمَعْنَاهُ إِحَاطَةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ أَىْ أَنَّهُ لا يَخْرُجُ شَىْءٌ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ كَإِحَاطَةِ الْحُقَّةِ بِمَا فِيهَا وَالْحُقَّةُ شَىْءٌ مُسْتَدِيرٌ تُوضَعُ فِيهِ الأَشْيَاءُ الثَّمِينَةُ.

   وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّنْ فَوْقِهِمْ﴾ فَوْقِيَّةُ الْقَهْرِ وَلَيْسَ فَوْقِيَّةَ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ.

   وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ جَاءَتْ قُدْرَتُهُ أَىْ ءَاثَارُ الْقُدْرَةِ مِنَ الأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِى تَظْهَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَجَرِّ الْمَلائِكَةِ لِجُزْءٍ كَبِيرٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى الْمَوْقِفِ حَتَّى يَرَاهُ الْكُفَّارُ فَيَفْزَعُوا وَشَهَادَةِ الأَيْدِى وَالأَرْجُلِ بِمَا كَسَبَهُ الْكُفَّارُ مَعَ الْخَتْمِ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَجِىءَ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَإِفْرَاغِ مَكَانٍ وَمَلْءِ ءَاخَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ وَمَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ يَكْفُرُ فَاللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَكُلَّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَرَكَةِ وَلا بِالسُّكُونِ فَالْحَرَكَةُ هِىَ انْتِقَالُ الْحَجْمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَالسُّكُونُ هُوَ ثُبُوتُ الْحَجْمِ فِى مَكَانٍ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ إِنَّمَا جَاءَتْ قُدْرَتُهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى مَنَاقِبِ أَحْمَدَ بِالإِسْنَادِ الصَّحِيحِ. وأَمَّا مَجِىءُ الْمَلائِكَةِ فَهُوَ الْمَجِىءُ الْمَحْسُوسُ الَّذِى هُوَ حَرَكَةٌ وَانْتِقَالٌ.

   وَنَرْفَعُ الأَيْدِىَ فِى الدُّعَاءِ لِلسَّمَاءِ لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ وَمَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَالْبَرَكَاتِ أَىْ تَنْزِلُ عَلَيْنَا الْبَرَكَةُ وَالرَّحْمَةُ مِنْهَا وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ فِى السَّمَاءِ كَمَا أَنَّنَا نَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ فِى الصَّلاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِذَلِكَ فَهِىَ قِبْلَةُ الصَّلاةِ وَلَيْسَ لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا. وَيَكْفُرُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يَتَحَيَّزُ فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ شَىْءٌ كَالْهَوَاءِ أَوْ كَالنُّورِ يَمْلَأُ مَكَانًا أَوْ غُرْفَةً أَوْ مَسْجِدًا. وَنُسَمِّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتَ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ مُعَدَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لا لِأَنَّ اللَّهَ يَسْكُنُهَا فَالإِضَافَةُ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْمَعَابِدِ الدِّينِيَّةِ لِلْكُفَّارِ بُيُوتَ اللَّهِ لِأَنَّهَا أَمَاكِنُ بُنِيَتْ لِلشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فَلا تَكُونُ مُعَظَّمَةً عِنْدَ اللَّهِ.

  وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُوصَفُ بِالْكِبَرِ حَجْمًا وَلا بِالصِّغَرِ وَلا بِالطُّولِ وَلا بِالْقِصَرِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَوَادِثِ أَىْ لا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ سَبَإٍ ﴿وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ﴾ فَمَعْنَاهُ كَبِيرُ الْقَدْرِ فَيَجِبُ طَرْدُ كُلِّ الْخَوَاطِرِ الَّتِى تُفْضِى إِلَى وَصْفِ اللَّهِ بِالْمِقْدَارِ وَالشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا فِكْرَةَ فِى الرَّبِّ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الأَنْصَارِىُّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُدْرِكُهُ الْوَهْمُ.

  وَاعْلَمْ أَنَّ النُّورَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ بِمَعْنَى الْهَادِى فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَادِى أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لِنُورِ الإِيمَانِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ فِى الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَى الإِيمَانَ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَهُمُ الْمَلائِكَةُ وَلِمَنْ شَاءَ لَهُ الإِيمَانَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ مِنَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقَالَ قَتَادَةُ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أَىْ مُنِيرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذَكَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِىِّ فِى تَفْسِيرِهِ. وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ نُورٌ بِمَعْنَى الضَّوْءِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا لِأَنَّ الضَّوْءَ مَخْلُوقٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَمَّا إِذَا قَالَ قَائِلٌ اللَّهُ نُورٌ بِمَعْنَى الْهَادِى فَلا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بِهَذَا الِاسْمِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ النُّورِ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وَوَرَدَ هَذَا الِاسْمُ فِى تَعْدَادِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى عِنْدَ الْبَيْهَقِىِّ وَغَيْرِهِ.

 

(25) السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالعِشْرِينَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾.

   مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنَ اللَّطَائِفِ وَالْكَثَائِفِ وَالْعُلْوِيَّاتِ وَالسُّفْلِيَّاتِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ أَىْ لا نَظِيرَ لِلَّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ قَالَ الإِمَامُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِىُّ وَالإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ «مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ» وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ فِى عَقِيدَتِهِ «وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِى الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ».

الشَّرْحُ: اللَّهُ تَعَالَى لا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَيْسَ جِسْمًا وَلا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الأَجْسَامِ قَالَ الإِمَامُ ذُو النُّونِ الْمِصْرِىُّ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مَهْمَا تَصَوَّرْتَ بِبَالِكَ فَاللَّهُ بِخِلافِ ذَلِكَ، أَىْ لا يُشْبِهُ ذَلِكَ. أَمَّا مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ كَأَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ فَهُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ لِـلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَعْنًى وَلَوْ قَالَهَا لَفْظًا لِأَنَّهُ نَسَبَ الأُلُوهِيَّةَ إِلَى هَذَا الْجِسْمِ الَّذِى تَصَوَّرَهُ وَهُوَ لَيْسَ اللَّهَ فَلا يَكُونُ أَقَرَّ بِأُلُوهِيَّةِ اللَّهِ وَلا عَبَدَهُ بَلْ عَبَدَ شَيْئًا تَخَيَّلَهُ وَتَوَهَّمَهُ.

   وَالْمِثْلِيَّةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنِ اللَّهِ هِىَ الْمِثْلِيَّةُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَقَوْلُهُ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ أَىْ لا يُوجَدُ شَىْءٌ يُمَاثِلُهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَلا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَ جِسْمًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُشْبِهُهُ شَىءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ شَىْءٍ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ وَالنَّكِرَةُ إِذَا جَاءَتْ فِى سِيَاقِ النَّفْىِ فَهِىَ لِلشُّمُولِ فَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ نَفْسِهِ مُشَابَهَةَ كُلِّ أَفْرَادِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يُقَيِّدْ نَفْىَ الشَّبَهِ عَنْهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ قَالَ تَعَالَى ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ أَىْ مِثْلًا أَىْ لَيْسَ لَهُ مَثِيلٌ وَلا شَبِيهٌ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ أَنَّى يُشْبِهُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ، أَىْ لا يُشْبِهُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ وَيَشْمَلُ نَفْىُ مُشَابَهَةِ اللَّهِ لِخَلْقِهِ تَنْزِيهَهُ تَعَالَى عَنِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالتَّنْزِيهُ هُوَ نَفْىُ مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ. وَالْكَمِيَّةُ هِىَ مِقْدَارُ الْحَجْمِ وَأَمَّا الْكَيْفِيَّةُ فَهِىَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ. أَمَّا الِاتِّفَاقُ بِاللَّفْظِ كَأَنْ يُقَالَ عَنِ اللَّهِ حَىٌّ وَعَنِ الْمَخْلُوقِ حَىٌّ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُمَاثَلَةً لِأَنَّ حَيَاةَ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَجَسَدٍ وَإِذَا قِيلَ عَنِ اللَّهِ مَوْجُودٌ وَعَنِ الْمَخْلُوقِ مَوْجُودٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ مُمَاثَلَةً لِأَنَّ وُجُودَ اللَّهِ أَزَلِىٌّ وَوُجُودَ الْمَخْلُوقِ حَادِثٌ.

 

(26) السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالعِشْرِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ صِفَتَىِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِلَّهِ تَعَالَى.

   قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فَاللَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، نَفَى أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ مُشَابِهًا لِلْحَوَادِثِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَمْعَ اللَّهِ لا يُشْبِهُ سَمْعَ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَصَرَهُ لا يُشْبِهُ بَصَرَ الْمَخْلُوقَاتِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ صِفَاتِ اللَّهِ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ خَلْقِهِ فَاللَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أُذُنٍ أَوْ ءَالَةٍ أُخْرَى وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَرَى كُلَّ الْمُبْصَرَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَدَقَةٍ وَلا إِلَى شُعَاعِ ضَوْءٍ.

الشَّرْحُ: اللَّهُ مَوْصُوفٌ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْمَعُ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أُذُنٍ أَوْ ءَالَةٍ أُخْرَى وَيَرَى كُلَّ الْمَرْئِيَّاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَدَقَةٍ أَوْ شُعَاعِ ضَوْءٍ وَالْحَدَقَةُ هِىَ الْعَيْنُ بِمَعْنَى الْجِسْمِ.

 

(27) السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالعِشْرِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ فَهُوَ الْقَدِيمُ وَمَا سِوَاهُ حَادِثٌ وَهُوَ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ.

   يَجِبُ الِاعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ الْقَدِيمُ الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ حَادِثٌ فَكُلُّ حَادِثٍ دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنَ الأَعْيَانِ وَالأَعْمَالِ مِنَ الذَّرَّةِ إِلَى الْعَرْشِ وَمِنْ كُلِّ حَرَكَةٍ لِلْعِبَادِ وَسُكُونٍ وَالنَّوَايَا وَالْخَوَاطِرِ هُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ سِوى اللَّهِ لا طَبِيعَةٌ وَلا عِلَّةٌ بَلْ دُخُولُهُ فِى الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِتَقْدِيرِهِ وَعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾. قَالَ الإِمَامُ النَّسَفِىُّ «فَإِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ زُجَاجًا بِحَجَرٍ فَكَسَرَهُ فَالضَّرْبُ وَالْكَسْرُ وَالِانْكِسَارُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى».

الشَّرْحُ: مَعْنَى قَوْلِ الْعُلَمَاءِ اللَّهُ قَدِيمٌ وَمَا سِوَاهُ حَادِثٌ، أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَزَلِىٌّ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ بِدَايَةٌ أَىْ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَمَا سُئِلَ عَنْ بَدْءِ الأَمْرِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ أَىْ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ وَلا أَزَلِىَّ سِوَاهُ وَالسَّائِلُ هُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَحَلُوا إِلَيْهِ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ فَبَدَأَ الرَّسُولُ ﷺ بِذِكْرِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ جَوَابِ سُؤَالِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْجُودٌ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ حادِثٌ لَهُ بِدَايَةٌ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ فَقَالَ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ أَىْ وُجِدَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ أَىْ أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ قَبْلَ الْعَرْشِ وَبِوُجُودِ الْمَاءِ وُجِدَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ أَىْ أَمَرَ اللَّهُ الْقَلَمَ أَنْ يَكُتْبَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، أَىْ خَلَقَهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ ق ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُّغُوبٍ﴾ أَىْ تَعَبٍ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ قَدْرُ أَلْفِ سَنَةٍ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحَجِّ ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّون﴾. 

(28) السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالعِشْرِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ صِفَةِ الْكَلامِ لِلَّهِ تَعَالَى.

   قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى كِتَابِهِ الْفِقْهِ الأَبْسَطِ «وَيَتَكَلَّمُ لا كَكَلامِنَا نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ مِنَ الْمَخَارِجِ وَالْحُرُوفِ وَاللَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِلا ءَالَةٍ وَلا حَرْفٍ». فَاللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لا يُشْبِهُ كَلامَنَا لَيْسَ لِكَلامِهِ ابْتِدَاءٌ وَلَيْسَ لَهُ انْتِهَاءٌ لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لَهُ تَعَالَى لا يُشْبِهُ كَلامَ الْمَخْلُوقِينَ قَالَ تَعَالَى ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾.

 

الشَّرْحُ: قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لا يُشْبِهُ كَلامَنَا لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَلَيْسَ لَهُ انْتِهَاءٌ لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِالآلاتِ وَالْحُرُوفِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِلا ءَالَةٍ وَلا حُرُوفٍ وَالْحُرُوفُ مَخْلُوقَةٌ وَكَلامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَالآلاتُ هِىَ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ.

   أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ يَس ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بِسُرْعَةٍ بِدُونِ تَعَبٍ وَلا مَشَقَّةٍ وَبِدُونِ مُمَانَعَةِ أَحَدٍ لَهُ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يَنْطِقُ بِلَفْظِ كُنْ بِعَدَدِ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَخْلُقُ فِى اللَّحْظَةِ الْوَاحِدَةِ مَا لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ فَالآيَةُ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ تَدُلُّ عَلَى سُرْعَةِ الإِيجَادِ.

   وَيُطْلَقُ كَلامُ اللَّهِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ الَّذِى نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَأَخَذَهُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلامِ اللَّهِ الذَّاتِىِّ وَلَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ مَلَكٍ وَلا تَصْنِيفِ بَشَرٍ.

   وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ الْحَقِّ عَلَى أَنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ صَوْتًا وَلا حُرُوفًا مُتَعَاقِبَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الأَنْعَامِ ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ وَبِقَوْلِهِ ﷺ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. فَاللَّهُ تَعَالَى يُكَلِّمُ كُلَّ إِنْسَانٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَفْهَمُ الْعَبْدُ مِنْ كَلامِ اللَّهِ السُّؤَالَ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَاعْتِقَادَاتِهِ. فَلَوْ كَانَ حِسَابُ اللَّهِ لِخَلْقِهِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ مَا كَانَ يَنْتَهِى حِسَابُهُمْ فِى مِائَةِ أَلْفِ سَنَةٍ لِأَنَّ الْخَلْقَ كَثِيرٌ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَحْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ كَوَاحِدٍ مِنْ مِائَةٍ وَفِى رِوَايَةٍ كَوَاحِدٍ مِنْ أَلْفٍ وَمِنَ الإِنْسِ مَنْ عَاشَ أَلْفَىْ سَنَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاشَ أَلْفًا وَزِيَادَةً وَمِنْهُمْ مَنْ عَاشَ مِئَاتٍ مِنَ السِّنِينَ وَبَعْضُ الْجِنِّ يَعِيشُونَ ءَالافًا مِنَ السِّنِينَ وَحِسَابُ الْعِبَادِ لَيْسَ عَلَى الْقَوْلِ فَقَطْ بَلْ عَلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ فَلَوْ كَانَ اللَّهُ يُكَلِّمُهُمْ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ لَاسْتَغْرَقَ حِسَابُهُمْ زَمَانًا طَوِيلًا جِدًّا وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ أَسْرَعَ الْحَاسِبِينَ بَلْ لَكَانَ أَبْطَأَ الْحَاسِبِينَ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ ﴿وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْرَعُ مِنْ كُلِّ حَاسِبٍ.

   وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يُقَالُ عَنِ الْقُرْءَانِ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ إِنَّهُ كَلامُ اللَّهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّوْبَةِ ﴿وإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ أَىْ إِنْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَأْمَنَكَ أَىْ طَلَبَ مِنْكَ الأَمَانَ لِيَسْمَعَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْقُرْءَانِ فَأَمِّنْهُ أَىْ أَعْطِهِ الأَمَانَ ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ أَىْ حَتَّى يَسْمَعَ اللَّفْظَ الْمُنَزَّلَ وَيَتَدَبَّرَهُ. فَالْقُرْءَانُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ يُقَالُ لَهُ كَلامُ اللَّهِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَلامِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ وَلأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ مَلَكٍ وَلا بَشَرٍ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ نَطَقَ بِهِ بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ كَمَا نَحْنُ نَقْرَؤُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ أَىْ أَنَّ الْقُرْءَانَ هُوَ مَقْرُوءُ جِبْرِيلَ.

   اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَى الْقَلَمَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ إِمْسَاكٍ لِأَنَّ اللَّهَ لا يَمَسُّ وَلا يُمَسُّ لا يَصِحُّ أَنْ يَمَسَّ وَلا أَنْ يُمَسَّ لِأَنَّ الْمَسَّ لا يَحْصُلُ إِلَّا بِاتِّصَالِ جِسْمٍ بِجِسْمٍ فَكَتَبَ فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الْقُرْءَانَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ الأَنْبِيَاءَ أَنْ يَأْخُذَ هَذِهِ الْكُتُبَ وَأَنْ يُنْزِلَهَا عَلَى أَنْبِيَائِهِ.

 

(29) السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالعِشْرِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ.

   اللَّهُ تَعَالَى مُبَايِنٌ أَىْ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِى الذَّاتِ أَىْ ذَاتُهُ لا يُشْبِهُ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالصِّفَاتِ أَىْ صِفَاتُهُ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالأَفْعَالِ أَىْ أَفْعَالُهُ لا تُشْبِهُ أَفْعَالَ الْمَخْلُوقَاتِ لِأَنَّ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ وَالْمَفْعُولَ حَادِثٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَللَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ أَىِ الْوَصْفُ الَّذِى لا يُشْبِهُ وَصْفَ غَيْرِهِ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْبُخَارِىُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى «فِعْلُهُ تَعَالَى صِفَةٌ لَهُ فِى الأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ حَادِثٌ».

الشَّرْحُ: اللَّهُ مُبَايِنٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ أَىْ غَيْرُ مُشَابِهٍ لَهَا فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ جِسْمًا وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّحْلِ ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ أَىْ لِلَّهِ صِفَاتٌ لا تُشْبِهُ صِفَاتِ غَيْرِهِ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِعْلُهُ تَعَالَى (أَىْ تَخْلِيقُهُ) صِفَةٌ لَهُ فِى الأَزَلِ وَالْمَفْعُولُ (أَىِ الْمَخْلُوقُ) حَادِثٌ.

 

(30) السُّؤَالُ الثَّلَاثُونَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

   مَعْنَى سُبْحَانَهُ تَنْزِيهًا أَىْ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى تَعَالَى تَنَزَّهَ وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَعَالٍ أَىْ مُتَنَزِّهٌ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ أَىِ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْلَى الظُّلْمِ وَأَكْبَرُهُ وَأَشَدُّهُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

الشَّرْحُ: أَىْ تَنَزَّهَ اللَّهُ تَنَزُّهًا كَامِلًا عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ فِى حَقِهِ سبحانه مِمَّا لا يَلِيقُ بِهِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ. وَتَنْزِيهُ اللهِ مَعْنَاهُ نَفْىُ النَّقْصِ عَنِ اللهِ تَعَالَى. وَأَكْبَرُ الظُّلْمِ هُوَ ظُلْمُ الْكَافِرِينَ فَالْكَافِرُونَ بَلَغُوا الْغَايَةَ فِى الظُّلْمِ وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ أَكْبَرَ الظُّلْمِ وَأَشَدَّهُ أَطْلَقَ اللَّهُ فِى الْقُرْءَانِ الظَّالِمِينَ وَأَرَادَ بِهِ الْكَافِرِينَ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.

 

(31) السُّؤَالُ الأَوَّلُ وَالثَّلَاثِينَ: قَالَ الْعُلَمَاءُ بِوُجُوبِ مَعْرِفَةِ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى، مَا هِىَ هَذِهِ الصِّفَاتُ.

   يَجِبُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا مَعْرِفَةُ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِى الْقُرْءَانِ إِمَّا لَفْظًا وَإِمَّا مَعْنًى كَثِيرًا وَهِيَ الْوُجُودُ وَالْوَحْدَانِيَّةُ وَالْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ وَالْبَقَاءُ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ وَالْقُدْرَةُ وَالإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْحَيَاةُ وَالْكَلامُ وَتَنَزُّهُهُ عَنِ الْمُشَابَهَةِ لِلْحَادِثِ.

الشَّرْحُ: هُنَاكَ صِفَاتٌ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِى الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ كَثِيرًا. الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ كَانَ يُكَلّـِمُ النَّاسَ عَنْهَا كَثِيرًا إِمَّا بِالنَّصِّ وَإِمَّا بِالْمَعْنَى. وَمِنْ هُنَا أَخَذَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الصّـِفَاتِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْرِفَهَا. وَهِىَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ صِفَةً. 

   وَالصّـِفَةُ الأُولَى مِنْ هَذِهِ الصّـِفَاتِ هِىَ الْوُجُودُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ لا شَكَّ فِى وُجُودِهِ وَوُجُودُهُ تَعَالَى لَيْسَ بِإِيجَادِ مُوجِدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ ﴿أَفِى اللَّهِ شَكٌّ﴾ أَىْ لا شَكَّ فِى وُجُودِهِ.

   الصّـِفَةُ الثَّانِيَةُ الْوَحْدَانِيَّةُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ وَلَيْسَ جِسْمًا مُؤَلَّفًا مِنْ أَجْزَاءٍ. فَاللَّهُ تَعَالَى لا شَرِيكَ لَهُ فِى ذَاتِهِ وَلا فِى صِفَاتِهِ وَلا فِى فِعْلِهِ فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَحْدَانِيَّةَ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَهُ أَجْزَاءٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَاللَّهُ وَاحِدٌ لا مِنْ طَرِيقِ الْعَدَدِ وَلَكِنْ مِنْ طَرِيقِ أَنَّهُ لا شَرِيكَ لَهُ.

   الصّـِفَةُ الثَّالِثَةُ الْقِدَمُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْحَدِيدِ ﴿هُوَ الأَوَّلُ﴾ أَىْ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ الأَوَّلُ الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَشَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الآيَةَ بِقَوْلِهِ كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ، أَىْ أَنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ وَلا أَزَلِىَّ سِوَاهُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ حادِثٌ أَىْ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَلَيْسَ مَعْنَى الْقَدِيمِ فِى حَقِّ اللَّهِ أَنَّهُ مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ طَوِيلٌ قَالَ الإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ فِى عَقِيدَتِهِ قَدِيمٌ بِلا ابْتِدَاءٍ. فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ قَدِيمًا لَكَانَ حَادِثًا أَىْ مَخْلُوقًا وَالْحَادِثُ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ أَوْجَدَهُ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا. وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ يَقُولُ إِذَا أَرَادَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَالْحَدِيثُ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ إِطْلاقِ الْقَدِيمِ عَلَى سُلْطانِ اللَّهِ الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ جَاَزَ إِطْلاقُهُ عَلَى الذَّاتِ. فَيَدُلُّ قِدَمُ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَرْشِ وَالسَّمَوَاتِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَاللَّهُ لا يَتَغَيَّرُ فَلَمْ يَزَلْ كَمَا كَانَ فِى الأَزَلِ مَوْجُودًا بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ.

   الصّـِفَةُ الرَّابِعَةُ الْبَقَاءُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ لَكَانَ مَخْلُوقًا وَلَمْ يَكُنْ أَزَلِيًّا لَكِنَّ اللَّهَ أَزَلِىٌّ أَىْ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَلا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الرَّحْمٰنِ ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أَىْ ذَاتُ رَبِّكَ أَىْ يَبْقَى اللَّهُ. وَبَقَاءُ اللَّهِ بَقَاءٌ ذَاتِىٌّ أَىْ لَيْسَ بِإِبْقَاءِ غَيْرِهِ لَهُ أَمَّا بَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَهُوَ لَيْسَ بَقَاءً ذَاتِيًّا بَلْ هُمَا بَاقِيَتَانِ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا فَلا شَرِيكَ لِلَّهِ تَعَالَى فِى صِفَةِ الْبَقَاءِ.

   الصّـِفَةُ الْخَامِسَةُ الْقِيَامُ بِالنَّفْسِ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَلا يَنْتَفِعُ رَبُّنَا بِطَاعَةِ الطَّائِعِينَ وَلا يَنْضَرُّ بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ وَكُلُّ شَىْءٍ سِوَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لا يَسْتَغْنِى عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ءَالِ عِمْرَانَ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ فَاطِرٍ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ﴾.

   الصّـِفَةُ السَّادِسَةُ الْقُدْرَةُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾. وَاللَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ نَقْصٌ وَالنَّقْصُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ. وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالْقُوَّةِ أَوِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّ الْقُوَّةَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ صِفَةٌ لِلَّهِ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ صِفَةً.

   الصّـِفَةُ السَّابِعَةُ الإِرَادَةُ: الإِرَادَةُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ صِفَةٌ لِلَّهِ يُخَصِّصُ بِهَا الْمُمْكِنَ الْعَقْلِىَّ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ. وَالإِرَادَةُ شَامِلَةٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ الْخَيْرِ مِنْهَا وَالشَّرِّ فَكُلُّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَبِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَعَ وَحَصَلَ وَلَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْحَسَنَاتِ بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ وَكَذَلِكَ الْكُفْرِيَّاتُ وَالْمَعَاصِى لَوْلا تَخْصِيصُ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا بِالْوُجُودِ مَا وُجِدَتْ. وَلا يُقَاسُ الْخَالِقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ فَفِعْلُ الْعَبْدِ لِلشَّرِّ قَبِيحٌ مِنَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَنْهِىٌ عَنْ فِعْلِهِ أَمَّا خَلْقُ اللَّهِ لِلشَّرِّ فَلَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ إِرَادَةُ اللَّهِ لِوُجُودِ الْقَبِيحِ لَيْسَ قَبِيحًا مِنَ اللَّهِ إِنَّمَا الْقَبِيحُ فِعْلُهُ وَإِرَادَتُهُ مِنَ الْعِبَادِ. فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الآمِرُ النَّاهِى الَّذِى لا ءَامِرَ لَهُ وَلا نَاهٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مَحْكُومِيَّةٌ لِأَحَدٍ قَالَ تَعَالَى ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ فَاللَّهُ مَالِكُ كُلِّ شَىْءٍ وَلَهُ التَّصَرُّفُ بِمَا يَمْلِكُ كَمَا يَشَاءُ وَلا يُوصَفُ بِالظُّلْمِ.

   الصّـِفَةُ الثَّامِنَةُ الْعِلْمُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ فَهُوَ عَالِمٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَكَانَ جَاهِلًا وَالْجَهْلُ نَقْصٌ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الطَّلاقِ ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًا﴾ وَلا يَقْبَلُ عِلْمُهُ الزِّيَادَةَ وَلا النُّقْصَانَ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ كَانَ عِلْمُهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ لَكَانَ مِثْلَ خَلْقِهِ.

   الصّـِفَةُ التَّاسِعَةُ السَّمْعُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِىِّ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَسْمَعُ كَلامَهُ الأَزَلِىَّ وَكَلامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَصْوَاتَهُمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أُذُنٍ أَوْ ءَالَةٍ أُخْرَى قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الشُّورَى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.

   الصّـِفَةُ العَاشِرَةُ البَصَرُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ يَرَى بِرُؤْيَتِهِ الأَزَلِيَّةِ كُلَّ الْمَرْئِيَّاتِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَرَى ذَاتَهُ الأَزَلِىَّ وَيَرَى جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَدَقَةٍ أَوْ شُعَاعِ ضَوْءٍ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ كَانَ لَهُ عَيْنٌ بِمَعْنَى الْجِسْمِ لَكَانَ مِثْلًا لَنَا وَلَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْنَا مِنَ الْمَوْتِ وَالْفَنَاءِ وَالتَّغَيُّرِ.  

   الصّـِفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الْحَيَاةُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ حَىٌّ بِحَيَاةٍ لا تُشْبِهُ حَيَاتَنَا لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَجَسَدٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ﴾ فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ حَيًّا لَمْ يُوجَدْ شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ مَنْ لَيْسَ حَيًّا لا يَتَّصِفُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ وَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ لا يَكُونُ خَالِقًا.

   الصّـِفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْكَلاَمُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِلا لِسَانٍ وَلا شَفَتَيْنِ وَكَلامُهُ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَلَيْسَ لَهُ انْتِهَاءٌ لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾. وَلا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ بِالنَّاطِقِ بَلْ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا لِأَنَّ النُّطْقَ لا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَرْفِ وَالصَّوْتِ.

   الصّـِفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ التَّنَزُّهُ عَنِ الْمُشَابَهَةِ لِلْحَادِثِ: أَىْ عَدَمُ مُشَابَهَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَاللَّهُ تَعَالَى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَيْسَ حَجْمًا وَلا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الأَحْجَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ فَلا يُشْبِهُ رَبُّنَا ذَوِى الأَرْوَاحِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ وَغَيْرِهِمْ وَلا يُشْبِهُ الْجَمَادَاتِ مِنَ الأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ وَلا يَتَّصِفُ بِصِفَاتِهَا.

 

(32) السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ أَزَلِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

   لَمَّا ثَبَتَتِ الأَزَلِيَّةُ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ صِفَاتُهُ حَادِثَةً فَذَاتُهُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى الْفِقْهِ الأَبْسَطِ «فَصِفَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَلا مُحْدَثَةٍ وَالتَّغَيُّرُ وَالِاخْتِلافُ فِى الأَحْوَالِ يَحْدُثُ فِى الْمَخْلُوقِينَ وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ أَوْ مَخْلُوقَةٌ أَوْ تَوَقَّفَ فِيهَا أَوْ شَكَّ فِيهَا فَهُوَ كَافِرٌ».

الشَّرْحُ: لَمَّا كَانَ ذَاتُ اللَّهِ أَزَلِيًّا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ أَزَلِيَّةً لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَحْدُثُ فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى حَوَادِثُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ حَادِثًا لِأَنَّ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِذَاتِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْمُتَغَيِّرُ لا يَكُونُ إِلَهًا.

   الَّذِي يَتَغَيَّرُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنَ الْحَالَيْنِ فَلا يَتَرَجَّحُ اتِّصَافُهُ بِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِتَرْجِيحِ مُرَجِّحٍ رَجَّحَ اتِّصَافَهُ بِحَالٍ مِنْهُمَا دُونَ الآخَرِ فَاتِّصَافُهُ بِأَحَدِ الْحَالَيْنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ خَصَّصَهُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَغَيِّرِ أَيْ عَلَى كَوْنِهِ مَخْلُوقًا، لِذَلِكَ قَالُوا التَّغَيُّرُ أَكْبَرُ عَلامَاتِ الْحُدُوثِ.

   فَلَمَّا ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ قِدَمُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَزَلِيَّتُهُ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً. الذَّاتُ الْمُتَّصِفُ بِالصِّفَاتِ الْحَادِثَةِ الْمَخْلُوقَةِ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا مَخْلُوقًا، فَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الصِّفَةِ حَادِثَةً أَنْ يَكُونَ الذَّاتُ حَادِثًا لِأَنَّ الَّذِي تَحْدُثُ فِي ذَاتِهِ صِفَاتٌ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا، مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الِاتِّصَافُ بِهَا وَيَجُوزُ عَلَيْهِ عَدَمُ الِاتِّصَافِ بِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَا ثُمَّ اتَّصَفَ بِهَا فَاحْتَاجَ إِلَى مُرَجِّحٍ رَجَّحَ اتِّصَافَهُ بِهَا عَلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِ بِهَا وَاحْتِيَاجُهُ إِلَى الْمُرَجِّحِ دَلِيلُ حُدُوثِهِ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ خَصَّصَهُ بِالِاتِّصَافِ بِهَا بَدَلَ عَدَمِ الِاتِّصَافِ بِهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَخْلُوقًا مُحْتَاجًا إِذِ التَّغَيُّرُ دَلِيلُ الِاحْتِيَاجِ وَالِاحْتِيَاجُ دَلِيلُ الْعَجْزِ وَالْعَجْزُ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ. قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الأَكْبَرِ وَصِفَاتُهُ فِي الأَزَلِ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ وَلا مَخْلُوقَةٍ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ أَوْ مَخْلُوقَةٌ أَوْ وَقَفَ أَوْ شَكَّ فِيهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ تَعَالَى اﻫ.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/ZfgbRUDwc20

 

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/bahja-3

 

الْمَوْقِعُ الرَّسْمِيُّ لِلشَّيْخِ جِيل صَادِق: https://shaykhgillessadek.com