شرح قولِ سَهلِ بنِ مُحمَّدٍ: «أعمَالُنا أعلامُ الثَّوابِ والعِقَابِ»
الحمدُ للهِ ربّ العَالمين لهُ النّعمةُ ولهُ الفَضلُ ولهُ الثّناءُ الحسَن صلَواتُ اللهِ البَرّ الرّحيم والملائكةِ المقَربينَ على سيّدنا محمدٍ أشرفِ المرسَلينَ وعلى جميع إخوانِه الأنبياءِ والمرسَلِينَ وسلامُه علَيهِم أجمَعِينَ، أمّا بعدُ فقَد رُوّينا بالإسنادِ المتّصِل في «كتابِ القدَر» للبَيهقيّ رحمَه اللهُ تَعالى أنّهُ قالَ مِن طَريق الشّريف العُثمَانيّ قال: سمعتُ الإمامَ أبا الطّيّبِ سَهلَ بنَ محمّدٍ يقولُ: أعمَالُنا أعلامُ الثّوابِ والعِقَاب، هذا الإمامُ سهلُ بنُ محمّد أبو الطّيّبِ، الحاكمُ ذكَر في مُستَدركه أنّه هوَ مجَدّدُ القَرنِ الرابع. فقالَ الحاكمُ بعدَ أن ذكَر أنّ مجَدّدَ القرنِ الأوّلِ عمرُ بنُ عبد العزيز لأنّه كانَ على رأس المائةِ الأولى، ومجَدّدُ القَرنِ لا بُدّ أن يكونَ حيًّا على رأس المائةِ، ثم ذكَرَ أن مجَدّدَ القَرنِ الثاني كانَ الإمامَ الشّافعيَّ محمدَ بنَ إدريسَ، وأنّ مجدّدَ القَرنِ الثّالثِ الإمامُ الفَقيهُ الشّافعيُّ ابنُ سُرَيج رضيَ الله عن الجَميع، ثم قال في الإمام أبي الطيّب سَهلِ بنِ محمّد بنِ سلَيمانَ:
والرّابعُ المشهورُ سَهلُ محمَّدِ أَضْحَى إمامًا عندَ كُلِّ مُوحّدِ
كانَ رضي الله عنه سهلُ بنُ محمّدٍ منَ الأشعريّة، الأشعريّةُ هم والماتريديّةُ أهلُ السّنّة والجماعَة، لا يَتجَاوزُ الحقُّ في المعتقَداتِ هَاتَينِ الفِرقَتَين، لأنّ هذَين الإمامَين اعتَنَيا بتَلخِيص مَا كانَ علَيهِ السّلَفُ منَ المعتقَد، كانَ منَ الأشاعرة كمَا أنّ كثيرا منَ الأعلام في الحديثِ والفِقه والتّقوى والوَرع كانوا منَ الأشاعرَة، فمَن يَعرِفُ الحقيقةَ يَعرفُ ذلكَ ومَن يَجهَلُها جهِلَ ذَلك، همُ المشبّهَةُ يُعادُونَ الأشعريّةَ قَديمًا وحَديثًا لأنّ مَشرَبَهم بعِيدٌ عن مَشرَب الأشعريّةِ، الأشعريّةُ يُنزّهونَ اللهَ عن مُشَابهةِ الخَلق بوجْهٍ منَ الوجُوه، أمّا المشبّهةُ فأُشرِبُوا حُبَّ التّشبِيهِ يَقرؤونَ قولَه تعالى: “ليسَ كمِثْلِه شيء} 0لَفظًا ويُخَالِفُونَه مَعنًى، إنّما ءامَنَ بهذه الآيةِ مَن نَزّه اللهَ عن مشَابَهةِ الخَلق بكُلّ الوجُوه، كما قال أبو جَعفَر الطّحاويُّ: “ومَن وصَفَ اللهَ بمعنى مِن مَعاني البشَر فقَد كفَر،”هؤلاء ءامَنوا بقَولِ اللهِ تعالى: “ليسَ كمِثْلِه شىء“، أمّا الذينَ يقولونَ إنّ اللهَ في جِهةِ كذا ويَعتقدونَ مُقتَضى ذلك فهؤلاءِ مَا ءامنوا بها ، كذلكَ الذينَ يقُولونَ إنّ اللهَ استَوى على عَرشِه بمعنى جلَسَ ثم يُتبِعُونَ ذلكَ بكَلمَةِ لا كجُلوسِنا هؤلاءِ لا يَنفَعُهم قولهم لا كجلُوسِنا شَيئًا ، همْ شبَّهُوا بقَولهم إنّ اللهَ جَلَس على العرش، هذا عَينُ التّشبِيه، فبَعْدَ هذا لا يَنفَعُهُم قولُهم لكنْ لا كجُلُوسِنا، لأنّ الجلوسَ في اللّغة العَربيةِ مَعروفٌ مَعلُومٌ ما هوَ على اختِلافِ كَيفيّاتِه، فالجلُوسُ معنًى مِن معاني البشر على أيّ كيفيّةٍ كانَ، ومَن اعتقَدَ في الله ذلكَ فقَد شبّهَه ،ويَنطَبِقُ عليه قولُ أبي جعفر: «ومَن وصَف اللهَ بمعنى مِن مَعاني البشَر فقَد كفر»، أمّا الذينَ يقولونَ: “لله يَدٌ لا كأيدينا” فيَعنُونَ بهذا الكلام أنّ للهِ يَدًا بمعنى الصّفةِ لا بمعنى الجِسم والجَارحة، هذا كلامٌ صَحِيحٌ لأنّ الله تعالى أضَافَ لنَفسِه اليدَ والعَينَ والوَجْه، فمَن اعتقدَ في ذلكَ أنّ اللهَ تَبارك وتعالى منزّهٌ عن الصّورة والشَّكْل والأعضاءِ فقال بناءً على هذا الاعتقادِ للهِ يَدٌ لا كأيْدِيْنا للهِ عَينٌ لا كأعيُنِنا للهِ وَجْهٌ لا كوجُوهِنا فهو على الصّواب.
أمّا الرِّجْلُ ما ورَدَ على أنّهُ صِفةٌ للهِ بل ورَدَ على معنًى ءاخَرَ وهوَ جُزءٌ مِن خَلقِه، يُقال في لغةِ العَربِ رِجْلٌ مِن جَرَادٍ أي فَوجٌ مِن جَراد، فالحديثُ الذي ورَد فيه ذِكْرُ الرِجْلِ مُضَافًا إلى الله هو حَديثُ أنّ اللهَ تَبارك وتعالى يَملأ يومَ القيامةِ جهَنّمَ بفَوج مِن خَلقِه كانوا مِن أهلِها في عِلم اللهِ تعالى، كانُوا مِن أهلِ النّار في عِلم الله، ليسَ أهلُ النّار يَدخُلون النّارَ دَفعَةً واحِدةً كلُّهم، لا، بل يَدخلُ فَوجٌ ثم بعدَ ذلكَ فَوجٌ ثم بعدَ ذلك فَوجٌ، فالفَوجُ الأخيرُ هو الذي وَردَ في الحديث: «فيَضَعُ رِجْلَه فيها» رِجْلَه معناهُ الفَوجُ الأخيرُ مِن خَلقِه الذينَ هم حِصّةُ جَهنّمَ، عن هَذا عبّرَ رسولُ الله ﷺ في قوله: «يُقالُ لجَهنّمَ هل امتَلأتِ فتَقُولُ هَل مِن مَزِيدٍ فيَضعُ الجَبّارُ رِجْلَه فيها فيَنزَوِي بَعضُها إلى بَعضٍ فتَقُولُ قَطٍ قَطٍ» رواه البخاري ومسلم وغيرُهما أي اكتَفَيتُ اكتفَيتُ، معناهُ وجَدْتُ مِلْئي وجَدْتُ مَا يَملؤني.
“رِجْلَه” معناهُ الفَوجُ الأخيرُ الذينَ يُقَدّمُهم للنّار، تَقُولُ العَربُ رِجْلٌ مِن جَرادٍ أي فَوجٌ مِن جَراد، أمّا مَن تَوهَّم مِن هذا الحديثِ أنّ للهِ رِجْلًا بمعنى عُضْوٍ فهوَ كَافِرٌ مُشبّهٌ للهِ بخَلْقِه لا يَنفَعُه انتسابُه إلى الإسلام، لأنّ مَن لم يَعرف اللهَ لا تصِحّ عبادتُه، كذلكَ روايةُ القَدَم: «فيَضَعُ فيها قَدمَهُ» رواه الدارَقُطني. مَعناهُ الشّىءُ الذي يُقدّمُه اللهُ لجَهنّمَ ، كذلك أئمةُ اللّغةِ قالوا القَدَمُ ما يُقدّمُهُ اللهُ تَعالى للنّار ليسَ بمعنى أنّ لهُ عُضوًا فيقَدّمُ هذا العُضوَ للنّار أي يُدخِلُه فيها، تَنَزّه ربُّنا عن أن يَكونَ لهُ عُضوٌ.
وقولُ أهلِ الحقّ للهِ عَينٌ ليسَت كأعيُنِنا معنَاه أنها صِفَةٌ، عَينُ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفاتِه كما يقالُ عِلمُ الله قُدرَةُ اللهِ ليسَ بمعنى العُضْو والجارحَةِ، مَن حمَلَه على معنى الجارحَةِ فقَد شبّهَ اللهَ بخَلقِه، ومِن تَمويْهِ هؤلاء أنّهم يقُولُونَ لفظًا للهِ أعيُنٌ لا كأعيُنِنا ويَدٌ لا كأيدِيْنا ووَجْهٌ لا كوجُوهنا ويَعتقدونَ الجوارحَ والعُضوَ في الله، فهؤلاء خالَفَ كلامُهُم مُعتقدَهم فلا يَنفعُهم قولُهم هذا فلا يكونُونَ منزّهينَ للهِ بل هُم مشَبّهُونَ لهُ، فيَدخُلونَ تحتَ هذه الجُملةِ التي نقلَها أبو جعفرٍ الطّحاويُّ رحمه الله مِن أهلِ السُّنة والجماعةِ الذينَ مِنهُم أبو حنيفةَ وصاحِبَاه أبو يوسفَ القاضي يعقوبُ بنُ إبراهيمَ الأنصاريُّ ومحمدُ بنُ الحسَنِ الشّيبانيُّ.
فالأشعريّةُ معتَقدُهم معتقَدُ السَّلَف أنّ اللهَ منزَّهٌ عن الجَوارح والأعضَاءِ والحُدودِ والغَاياتِ والأركانِ، وقَد حَدَث في عَصرنا هذا مؤلَّفاتٌ والعياذُ بالله تَسُوقُ الناسَ إلى اعتقادِ الحَدّ للهِ تعالى، بالعبارةِ الصَّريحةِ تَنطِق بأنّ للهِ تعالى حَدّا فمَن لا يؤمِنُ لهُ بحَدٍّ فلَيس مسلِمًا، إلى هذا الحدِّ تَوصَّلوا، والحدُّ عن اللهِ مَنفِيٌّ على لسانِ السَّلَف كما أنّهُ مَنفِيّ بقولِ اللهِ تعالى: “ليسَ كمِثْلِه شىء} لأنّ كلَّ شَىءٍ مِنَ الأجرام لهُ حَدٌّ فاللهُ تعالى لو كانَ لهُ حَدّ لكَانَ لهُ أمثالٌ لا تُحصَر.
المشَبّهَةُ قاسُوا الخالقَ على المخلوقِ فجَعَلُوا للهِ حَدًّا وهُم في ذلكَ اقتَدَوا بأسلافِهم كابنِ تَيميةَ ومَن كانَ على شاكِلَتِه وهو ابنُ تيميةَ اقتَدى بمَن قَبلَه منَ المجَسّمَةِ المنتسِبَةِ للإمام أحمدَ بنِ حنبل، والإمامُ أحمدُ نفسُه نقَلَ عنه أبو الفَضْل التّمِيميُّ الذي هو رئيسُ الحنابلةِ ببَغدادَ نَقَلَ عنه أنّه يقولُ عن اللهِ تَعالى بلا حَدّ، عبارةٌ صَريحةٌ في نَفْي الحدّ عن الله، هذا أبو الفَضل التّمِيميُّ قبلَ ابنِ تَيمِية بزمَانٍ وهوَ مِن رؤوس الحنابلةِ مِن كِبارِهم، لكنْ في عَصر أبي الفَضل التّميميّ وقَبلَه بقليلٍ وبَعدَه كانَ أُناسٌ يَنتَسِبُونَ إلى الإمام أحمدَ ويخالِفُونَه في المعتقَدِ يُثبِتُونَ للهِ الحَدَّ وابنُ تيميةَ لحِقَ هؤلاء، لم يَلْحَق بأحمدَ ولا بالذينَ كانوا على طَريقَتِه، انتسَب انتسَابًا مِن غيرِ مُوافقَةٍ له في المعتقَد، بل وفي الأعمالِ خَالفَه في أشياءَ كثيرةٍ في نحوِ سِتّةٍ وثلاثينَ مسئلةً، مِن جُملَتِها إنكارُ التّوسُّلِ برسولِ الله بعدَ مَوتِه بل وفي حالِ حيَاتِه إلا أن يكونَ بحَضرتِه، عندَه التّوسُّل بالرّسول لا يجوزُ إلا أن يتَوسَّل الشّخصُ بهِ في وجْهِه في حيَاتِه، بل يَعتَبرُ ذلكَ شِركًا فخَالَف بهذا السَّلَفَ والخَلف.
الإمامُ أحمد بنُ حَنبل ثبَت عنه أنّهُ قالَ عندَ القَحط وعندَ انقِطاع المطَر يَتَوسَّلُ الدّاعِي الذي يُصَلّي صلاةَ الاستسقاء يّتَوسَّلُ بالرسولِ، هذا نَصُّ أحمدَ، أحمدُ يَراهُ حَسَنًا وابنُ تيميةَ يَراهُ حَرامًا أو شِركًا، انظُرُوا إلى البُعْدِ الذي بينَ الرّجُلَين، ومع هذا يقولُ عنهُ مِن باب الاعتِزاز بهِ لأنّهُ مَعرُوفٌ بالعِلم والوَرع والزّهدِ والحديثِ يقولُ عنهُ إمامُ هُدى عن أحمدَ بنِ حَنبَل، وهو حقًّا إمامُ هُدى لكن هوَ لم يَتْبعْه إنّما انتَسَب إليهِ انتسابًا. الإمامُ أحمَد يقولُ مطلُوبٌ شَرعًا عندَ القَحْط أن يتَوسّلَ الدّاعِي المستَسقِي أي الذي يَطلُب منَ اللهِ المطَرَ بالرّسول، هَكذا كلامُ أحمدَ ثم جاء ابنُ تيميةَ بَعدَه بقُرونٍ فخَالفَه وهو ينتَسبُ إليهِ انتِسابًا ويَعتزُّ بهِ يَقُول إمَامُنا.
ومِن تَمويهاتِ ابنِ تَيميةَ أنّهُ يقولُ عن أحمدَ بنِ حَنبلٍ إمامُنا، إنْ كانَ أحمدُ بن حنبلٍ إمامَه وهو تابِعٌ له لماذا يُحرّمُ أو يجعَلُه شِركًا أمرًا اعتبرَه أحمدُ بنُ حَنبلٍ سُنّةً. كذلكَ أحمدُ بنُ حَنبلٍ يَعتَبر مَن حلَف برسول اللهِ فحنِث أنّ عليهِ كفّارةً كما أنّ الذي يحلِف بالله ثم يحنِثُ علَيه كفّارةٌ، ابنُ تَيميةَ يجعَلُ الحلِف بغَير اللهِ شِركًا مُطلَقا كالذي يحلِف بغَير الله وهو يُعظّمُه كتَعظِيم الله الذي هو شِركٌ، وهوَ المرادُ بحديث: «مَن حلَف بغَيرِ الله فقَد أشرَك» رواه أحمد والبيهقي وأبو داود والترمذي وابن حبّان. أي مَن حلَف بغَير الله معَظّمًا لهُ كتعظِيم اللهِ فقَد أشْرَك، هذا الذي يَصْدُق عليهِ حَديثُ التّرمذي: «مَن حَلَف بغَير اللهِ فقَد أشرَكَ»، أمّا الذي يَحلِفُ بغيرِ اللهِ على غيرِ ذلكَ الوجهِ فلَيسَ حَرامًا فَضْلًا عن أنْ يكونَ إشرَاكًا هذا مع أنّ المعروفَ في مَذهَب الإمامِ أحمَدَ أنّ الحلِفَ بغَيرِ اللهِ حَرامٌ، لكنّهُ معَ ذلكَ جَعَلَ الحلِفَ بالرّسُولِ مُثْبِتًا للكَفّارَةِ عندَ الحِنْثِ. أمّا أبو حَنيفةَ رضي الله عنهُ فهوَ كانَ يَكرَهُ أن يُقالَ: “أسأَلُكَ بحَقّ فُلانٍ”، يقولُ: “اللهُ تَعالى ليسَ عليهِ على أحَدٍ حَقٌّ” أي أمرٌ يَلزَمُه وهو مجبُورٌ علَيه، والأمرُ كذلكَ، اللهُ تعالى ليسَ عليهِ لأحَدٍ مِن خَلقِه دَيْن ولا حَقٌّ يَلزَمُه يكونُ هو إن تَركَه ظَالمًا، اللهُ مُنزّه عن ذلك، إنّمَا اللهُ تبَارك وتعالى تفَضَّلَ على عبادِه المؤمنِينَ بأنْ يُكرِمَهُم إنْ هُم أدَّوا ما علَيهِم، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 47 سورة الرُّوم. أي أنّنا نتَفضَّلُ ونتَكرّمُ علَيهم ليسَ المعنى أنّهُ فَرضٌ على الله، لا شىءَ واجِبٌ على اللهِ فَرضٌ. فإذًا يَرجع كلامُ أبي حنيفةَ في كراهيَتِه لقَولِ الرّجلِ أسألكَ بحقّ فلانٍ أنّ هذه العبارةَ تُوهِم أنّ على اللهِ حقًّا لازمًا لغَيره، ثم غيرُ أبي حنيفةَ يرَى أنّ هذه العبارةَ لا تُوهِم ذلك، إنّما معناهُ أسألُكَ بما لفُلانٍ عندَكَ منَ الفَضْلِ والكَرامةِ أنْ تُعطِيَنا كَذا وكذا.
فالقَولُ الصّحيحُ الرّاجحُ هوَ أنّه لا بأسَ بأن يقولَ المسلمُ اللّهمَّ إني أسألُكَ بحَقّ محمّدٍ أو بحَقّ إبراهيمَ أو بحَقّ موسَى أو بحَقّ عليّ بنِ أبي طالِب أو بحقّ أبي بكرٍ أو نحوِ ذلكَ، هذا القولُ الصّحيحُ الرّاجحُ، أمّا أبو حنيفةَ فرَأيُه أنّ قولَ اللّهمُّ إني أسألُك بحَقّ فلانٍ يُوهِم أنّ على اللهِ حقًّا لازمًا لهُ لغَيره مِن عبادِه، مِن هنا كانَ يتَحاشَى هذه العبارةَ ويَكرَهُها لكنّها في الحقيقةِ ليسَت كذلكَ لأنّه لا يُفهَم منها عندَ المسلمينَ في أدعيَتِهم ذلكَ المعنى الذي حَذِرَه أبو حنيفةَ إنما يُفهَمُ منها أنّ هذا سؤالٌ للهِ تبارك وتعالى بما لفُلانٍ مِن عبادِه الصّالحينَ عندَه مِن الكرامةِ والدّرجَةِ ولم يكن بينَ المسلمِينَ إنكارٌ للتّوسُلِ بالرّسولِ في حضُورِه وفي غيرِ حُضُورِه في حَياتِه وبعدَ وفَاتِه، المسلمُونَ مجمعُونَ على جَواز ذلكَ وعلى هذا كانَ أصحَابُ رسولِ الله.
كانَ الرّسولُ ذاتَ يوم جالسًا مع جمعٍ مِن أصحابِه فجاءه رجُل أعمى فقال يا رسولَ الله ادعُ اللهَ ليْ أنْ يَكشِفَ عن بصَري قال: «إنْ شِئتَ صَبَرتَ وإن شِئتَ دعَوتُ لكَ» قال إنّهُ شقَّ علَيَّ ذهَابُ بصَري وليسَ ليْ قَائدٌ قالَ له: «ائْتِ المِيضَأة» أي محَلَّ الوضُوءِ: «فتَوضّأ وصَلّ ركعتَينِ ثم قل اللهمّ إنّي أسأَلُكَ وأتَوَجَّهُ إلَيكَ بنَبِيّكَ محَمّدٍ نَبِيّ الرّحمَةِ يا محَمّدُ إنّي أتوَجَّهُ بكَ إلى ربّي في حَاجَتِي هَذه لتَقضِيَها»، فذهَبَ الرّجُل ففعَل ذلكَ أي خرجَ مِن عندِ الرّسول ﷺ فتَوضّأ وصلّى ركعتَين ثم قالَ هذه الكلماتِ مِنَ التّوسّل بالرّسولِ مِن سؤالِ اللهِ تعالى برسُولِه محمّدٍ ثم فُتِحَ بصَرُه، فعَادَ إلى الرّسولِ والرّسولُ لم يُفارِق مجلِسَه، يقولُ رَاوي الحديثِ عثمانُ بنُ حُنَيف الذي كانَ مع الرّسولِ ﷺ عندَما سأَل هذا الأعمى قالَ: فوَاللهِ ما افتَرقنا ولا طالَ بنا الحَديثُ حتى دخَلَ علَينَا الرّجُلُ وقَدْ أَبْصَرَ” رواه الطبراني، المعنى ظَاهرٌ أنّ هذا الرّجُلَ مَا قالَ هَذه الكلِمَاتِ في وجْهِ رَسُولِ الله بل تَغَيّب عنه فتَوضّأ ثم صلّى ركعتَينِ ثم قالَ ثم دخَلَ، وهذا يَنقُضُ كَلامَ ابنِ تيميَةَ لا يجوزُ التّوسُّلُ إلا بالحيّ الحَاضِر.
ثم هذا الصّحَابيُّ عثمَانُ بنُ حُنَيف بعدَ وفاةِ الرّسولِ عَلَّم رَجُلًا كانَت لهُ حَاجَةٌ عندَ عثمَانَ بنِ عفّانَ أنْ يتَوسّلَ بهذا التّوسّل ففَعَل الرّجُل فقَضَى لهُ عثمَانُ حاجتَه، قَبلَ أن يفعَل هذا كانَ عُثمانُ مِن شِدّة شُغْل بالِه ما كانَ يلتَفِتُ إليهِ لكنْ ببَركةِ هَذا التّوسّلِ بالرّسولِ حرّكَ اللهُ قَلبَ عثمانَ بنِ عفّانَ فقَضى لهُ حاجتَه، اعتنَى به، اللهُ تعالى جعَلَ قلبَه يَعطِفُ على هذا الرّجُل فقَضَى لهُ حاجَتَه، ثم هذا الحديثُ صحِيحٌ عندَ أهلِ الحديثِ لكن مُناصِري ابنِ تَيميةَ في عَمًى عن هذا الفَهم.
نَعُودُ إلى قولِ الإمام أبي الطّيب سهلِ بنِ محمّدٍ رضيَ اللهُ عنه: «أعمَالُنا أعلامُ الثّوابِ والعقَاب» يعني أنّ أعمَالَنا التي نعمَلُها مِن حسَناتٍ وسَيّئاتٍ مِن طاعاتٍ وقُرُباتٍ للهِ تعالى والمعاصي بما فيها مِنَ الكُفرِ أعلامٌ أي علامَاتٌ للثّوابِ والعِقابِ ، وذلكَ بما أنّه ثبَتَ عندَ أهلِ الحقّ أنّ اللهَ تبارك وتعالى شاءَ وعلِمَ وقَدّرَ ما يَفعَلُ العبادُ، فمَن علِم اللهُ تعالى وشاءَ أن يكونَ طَائعًا لهُ فَلا بُدّ أنْ يكونَ كذلكَ، ومَنْ علِمَ اللهُ وشاءَ أن يكونَ عَاصيًا لهُ فلا بُدَّ أن يكونَ كذلكَ، فإذًا الأعمالُ أي الطّاعاتُ التي نَفعَلُها والمعاصي التي يَفعَلُها العبادُ عَلاماتٌ على أنّ هذا يُثابُ بالنَّعيم المقيم وهذا يُجازَى بالعذابِ المقيم وأنّ ذلكَ أي أنّ ثوابَه لبَعضِ عبادِه همُ الذينَ كانوا طائعِينَ وعِقابَه لبَعضٍ ءاخَر أي العَاصِين، فالثّوابُ فَضلٌ مِنَ اللهِ والعقابُ عَدلٌ منهُ ليسَ ظُلمًا، وإنّما قُلنَا إنّ هذهِ عَلاماتٌ لأنّ أعمالَ العِبادِ هَذه ليسَت بخَلقِهم بل بخَلق اللهِ هوَ اللهُ يَخلقُها فيهم.
اللهُ تعالى هو الذي ألهم الطّائعِينَ الطّاعاتِ فعمِلُوها، فإذًا ليسُوا هُم مستَوجِبِينَ على اللهِ تعالى مِن بابِ الإيجابِ اللّزُوميِّ أنْ يُعطيَهم ذلكَ الثّوابَ بل هو متَفضّلٌ علَيهم بالثّوابِ كمَا أنّه متَفَضّلٌ علَيهِم في الدُّنيا بخَلق تلكَ الحسنَاتِ فيهِم، فلَهُ الفَضلُ على عبادِه في الدّنيا والآخِرة، هؤلاءِ المؤمنُونَ اللهُ تعالى له الفَضلُ عليهِم، في الدُّنيا وفَّقَهُم وألهمَهُم بهذه الطّاعاتِ وخَلَقها فيهم، وفي الآخِرة ءاتاهُم فَضلا منهُ الثّوابَ الجزيلَ، النّعيمَ المقِيمَ الذي لا يَنفَدُ ولا ينقَطِعُ، كُلٌّ فَضْلٌ منهُ علَيهِم وهو ليسَ مُلزَمًا، كَيفَ يكونُ مُلزَمًا على أنْ يُعطيَهُم الثَّوابَ على عمَلٍ هوَ خلَقَه فيهِم، وكذلكَ إذا عاقَبَ أولئكَ على تلكَ الأعمالِ مِنْ كُفرٍ وما دُونَه في الآخِرةِ لا يكونُ ظَالما لهم، لا يُقالُ جَارَ علَيهمُ اللهُ لأنّ اللهَ تَبارك وتَعالى تَصرّفَ في خَلقِه الذي هو مِلكُه. فهذا معنى قولِ أبي الطّيبِ سَهلِ بنِ محمّدٍ: “أعمَالُنا أعلامُ الثّوابِ والعِقاب” أعلامُ جمعُ عَلَمٍ أي عَلامَةٍ. الإِمَارةُ هيَ مِنَ الإمْرِ وهيَ الرئاسَةُ، أمّا الأَمارَةُ بفَتح الهمزة فهيَ العَلامَةُ.
ورَوى البيهقيُّ رحمَه اللهُ ذِكْرَ البَيانِ أنّ أفعالَ الخَلقِ كُلَّها تَقَعُ بمشيئةِ اللهِ جَلّ ثناؤه وإرادَتِه قالَ اللهُ عزّ وجَل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 29 سورة التكوير. هذهِ الآيةُ صَريحَةٌ بأنّ أفعالَ العبادِ كلِّهِم القَلبيّةَ والظّاهرَةَ لا تَكُونُ إلا بمشِيئَةِ اللهِ الأزليّةِ، إذا كانت مشِيئَةُ العبدِ لا تَحصُلُ إلا بمشِيئَةِ اللهِ فكَيفَ سَائرُ أعمالِ الجَوارحِ، وكيفَ تَكُونُ أعمَالُ اليَدِ وكيفَ تكونُ أعمالُ الرِّجْلِ وأعمالُ اللّسَانِ وأعمالُ العَين.
إذا كانت مشِيئَةُ العبادِ لا تَكونُ إلا بمشيئةِ اللهِ فبِالأَولى أن تكونَ أعمالُ جوَارحهِم بمشِيئةِ الله، لا تكونُ إلا بمشيئةِ اللهِ الأزليّةِ، وقال: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 111 سورة الأنعام. هذه الآيةُ أيضًا دليلٌ على أنّ حسَناتِ العبادِ مِنْ إيمانٍ أي ومَا يَتبَعُه لا يَكونُ إلا بمشِيئَةِ اللهِ ومشِيئَةُ اللهِ أزليّةٌ سابِقةٌ على وجُودِ العالَم، ليسَت بعدَ مشيئَةِ العبدِ، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 13 سورة السَّجْدَة. وهذا أيضًا دليلٌ على أنّ الذينَ اهتَدَوا اهتدَوا بمشيئةِ اللهِ والذينَ لم يَهتَدُوا لم يَهتَدُوا لأنّ اللهَ لم يشأ لهم، وقال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} ﭐ 35 سورة الأنعام. هذا أيضًا دليلٌ على أنّ الذينَ اهتدَوا إنّما اهتَدَوا بمشيئةِ اللهِ ولو لم يشإ اللهُ لهمُ الاهتداءَ لم يَهتَدُوا، وعلى أنّ الذينَ لم يَهتدُوا لم يهتَدُوا لأنّ اللهَ لم يشأ لهم أنْ يَهتَدُوا، بَعدَما تقَرّرَ أنّ اعتقادَ أهلِ الحَقّ أنّ اللهَ أمَرَ المكلَّفِين بطَاعتِه وأنّ اللهَ يُحِبّ الطّاعةَ مِن عبادِه لكنّ المحبّةَ غَيرُ المشيئَة، وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} 99 سورة يونُس. وهذه الآيةُ أيضًا دليلٌ على أنّ اللهَ تعالى شاءَ لبَعض عبادِه الإيمانَ فبِمشيئتِه الأزليّةِ ءامَنُوا وأنهُ لم يشأ لآخَرينَ أن يؤمنوا ولو كانَ هوَ ءامرًا لهم، هو أمرَهُم بالإيمانِ لكن لم يشأ لهم فلَم يؤمنوا، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} 118 سورة هود. هذه الآيةُ أيضًا دليلٌ على أنّ اللهَ تَباركَ وتعالى شاءَ كُلَّ ما يحصُل منَ العباد، ومَا لم يحصُل منهم فإنّه لم يَشأه ولو شاءَه لحَصَلَ منهم، وقال: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 39 سورة الأنعام. وهذه الآيةُ أيضًا دليلٌ ظاهرٌ على أنّ اللهَ تعالى شاءَ لقِسْم مِنَ العبادِِ الضّلالةَ وشاءَ لقِسْم منهم أن يكونُوا على الهدى فضَلَّ هؤلاء واهتَدَى هؤلاء، وقال:{ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 93 سورة النحل. هنا بعضُ النّاس التَبَسَ علَيهِمُ الأمرُ فتَوَهموا أنّ قولَه تعالى: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} أنّ العبدَ إنْ شاءَ أن يُضِلَّه اللهُ فاللهُ يُضِلُّه وأنّ العبدَ إنْ شاءَ أن يَهديَهُ اللهُ يَهديْهِ اللهُ، هكذا توهَّموا، وهذا تَحريفٌ للقرءانِ لأنّ القرءانَ لا يتَناقَضُ بل يتَعاضَدُ، على ما ذَهبوا إليه تَناقَضَ وحَاشَى للقرءانِ أن يتَناقَضَ.
قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} 99 سورة يونُس 0 هذه الآيةُ دلّت دِلالةً صَريحةً أنّ الله تعالى لم يشإ الهدايةَ لجميع الخَلقِ بل شاءَ لقِسْم أن يهتَدُوا ولم يشأ لقِسْم أن يَهتَدُوا فاهتَدى هؤلاءِ ولم يَهتَدِ هؤلاء، هذا الذي تُعطِيْه ءاياتٌ عدِيدَةٌ، وهذه الآيةُ: {كذلكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} يجِبُ رَدُّها إلى موافقةِ سائرِ الآياتِ، يُقال لهم: ﱡ مَنْ يَشَاءُ ﭐ ﱠ هوَ أي اللهُ ليسَ كما تَزعمُونَ العَبدُ، كذلكَ في المقابلِ وهو قولُه: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﱠ هوَ أي اللهُ أي أنّ اللهَ شاءَ في الأزل لقِسم مِن عبادِه أن يَهتَدُوا كما أنّه شاءَ لقِسم منهم أن يضِلّوا فضَلُّوا، وكلٌّ باختِيارهم، هؤلاء باختِيارِهم ضَلُّوا وهؤلاء باختيارِهم اهتدَوا فتنفّذَت مشِيئَةُ اللهِ في الفَريقَين.
وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} ([1] 125 سورة الأنعام . وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} 41 سورة المائدة. اللهُ تَعالى يُخاطِبُ رَسُولَه بهذا، المعنى أنّ اللهَ تعالى شاءَ أن يَضِلَّ أولئكَ ولا يؤمنُوا فَضَلُّوا ولم يؤمنوا، كرِهُوا الإيمانَ وأنتَ لا تَستَطِيعُ أن تَخلُقَ فيهِم الاهتِداءَ، الرّسولُ كانَ يُحِبُّ أن يَهتديَ عمُه أبو طالب لكنَّه لم يَهتَد، طلَبَ منه عندَ وفاتِه أن يقولَ كلمةَ الإخلاص لا إله إلا الله فأبى وقالَ: إني على مِلّةِ عبدِ المطّلِب، ثم خَرَج رسولُ الله وهو يقولُ: «لأستَغفِرَنَّ لكَ ما لم أُنهَ عَنكَ»([2]) معناهُ أَطلُبُ لكَ المغفِرةَ بالدّخُول في الإسلام([3]).
وأنزلَ اللهُ في أبي طالبٍ فقَال لرسولِ الله ﷺ {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 56 سورة القصص، المعنى أَطلُبُ لكَ منَ اللهِ أن يَغفِرَ لكَ بالإيمانِ والإسلام ما لم يَنزِلْ عَلَيّ وَحْيٌ بأنْ لا أَطلُبَ لكَ لأنهُ لم يَيأس عندَما خرَج مِن عندِه، ما أَيِسَ مِن أنّه قَد يُسلِمُ حتى نزَلتِ الآيةُ فعلِم أنّه ماتَ على الكفر {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} معناهُ أنّكَ يا محمدُ لا تَخلُق الاهتداءَ حتى تجعَلَ الشّخصَ مُهتَدِيا لمحبّتِكَ اهتِداءَه، ليس ذلكَ في مَقدِرتِكَ إنّما اللهُ تعالى هو يَهدي مَن يشاءُ، اللهُ تعالى يَهدي أي يخلُق الاهتداءَ في قَلبِ مَن يَشاءُ مِن عباده، ثم زادَ اللهُ بيانًا فأَتْبَع ذلكَ بقَوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} 41 سورة المائدة. اللهُ تعالى ما شاءَ أن يُطَهّرَ قلُوبَهم منَ الكفرِ فلا أحدَ يَستَطِيعُ أن يَهدِيَهُم.
فمِن هنا نَعلَمُ أنّ الأنبياءَ وظِيفَتُهمُ التي هيَ فَرضٌ علَيهم أن يؤدُّوهَا البَيانُ والدّلالَةُ والإرشَادُ، ثم بعدَ ذلكَ مَن كانَ اللهُ شاءَ لهُ الاهتداءَ يَهتدي بقولِ هؤلاء الأنبياءِ، يَأخُذُ بدَعوَتِهم ونصِيحَتِهم فيَهتَدي، ومَن لم يشإ اللهُ أن يَهتَديَ لا يَهتَدِي، مَهما رأَوا منَ المعجِزاتِ لا يَهتَدونَ. هذا أبو جَهلٍ رأَى انشِقَاقَ القَمر وغيرُه مِن صَناديدِ الكفر، لم يَهتَدِ منهم إلا الذي شاءَ اللهُ لهُ أن يهتَديَ، ولذلكَ بَعضُ العلماءِ قال([4]) (الخفيف)
ربِّ إنّ الهُدَى هُدَاكَ وءَاياتُكَ نُورٌ تَهدي بها مَن تَشاءُ
معناهُ الآياتُ لا تَهدي بذاتها إنّما يَهتَدِي بها مَن شاءَ اللهُ لهمُ الهدايةَ، أمَّا الذينَ لم يشإ اللهُ لهم الهدايةَ فَلا المعجزاتُ تؤثّرُ فيهم ولا العِبَرُ التي حصَلَت لمن قَبلهُم ممن كَذّبوا الأنبياءَ.
وهناكَ جماعةٌ يُقالُ لهم جماعةُ أمِين شَيخُو، وهذا أمِين شَيخُو خَلَفَه([5]) الآن شَخصٌ يقالُ له عبد الهادي الباني([6]) يقولونَ: اللهُ تعالى شاءَ لجميع خَلقِه السّعادةَ الإيمانَ والطّاعةَ، لكنْ قسمٌ منهم وافَقُوا مشيئةَ اللهِ واهتَدَوا وقِسمٌ منهُم لم يَهتدُوا، فقلتُ لمن لهُ اتّصالٌ بهم: اقرأ عليهِ هذه الآيةَ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، 41 سورة المائدة. اللهُ تعالى فعّالٌ لما يُريد.
وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} 16 سورة الإسراء. أمَرْنا فُسّر بكَثَّرْنا أي نُكَثّرُهم فيَصيرُونَ أقوياءَ فيَفسُقونَ ويَخرجُونَ عن طاعَةِ اللهِ فيُهلِكُهُم، هذا في الأُمَم الماضيَةِ ظهَرَ تَأويلُه بقَوم لُوطٍ وقَومِ هُودٍ وقومِ صَالح وغيرِهم، مِن هنا قال سيّدُنا محمّدٌ: «النّاسُ كانوا إذا كَثُروا في مُرُورِ الزّمَان يَفسُقُون» ، يخرُجُونَ عن الإيمان، “فيُهلكُهمُ اللهُ“رواه . كما جَرى لقَوم نُوح وقوم هُودٍ وقومِ صالح وغَيرِهم، أمّا بَعدَ بِعثَةِ الرّسولِ محمّدٍ ﷺ فإنّهُ لا يَنقَطِعُ الإسلامُ في أُمّتِه، مَهما حصَلَ فُسّاقٌ لا بُدّ أن يُوجَد أتقياءُ مع مَا يُقاسُونَ مِن اضْطِهادٍ منَ المنحَرفينَ وإيذاءٍ ومُعَارضَاتٍ، اللهُ تعالى برحمتِه يُثَبّتُهم على الحقّ فلا يَنزِلُ هَلاكٌ عَامّ كهلاكِ أولئكَ بَعدَ سيّدِنا محمّدٍ مَا دامَتْ أُمّتُه على وجْهِ الأرضِ حتى إذا حانَ قيامُ السّاعةِ يَقبِضُ أمّةَ محمّدٍ فلا يَبقَى منهُم على وجْهِ الأرضِ أحَدٌ وبعدَ بُرهةٍ منَ الزّمَن يُفني اللهُ العبادَ الجِنَّ والإنسَ، تَقُومُ القِيامَةُ عندَ النّفْخ في الصُّور لا يُوجَدُ على وجهِ الأرض مسلِمٌ كلُّهم ماتوا قبلَ ذلكَ إكرامًا لهم، صَيْحَةُ إسرافيلَ ليسَت هيّنةً، الطّائراتُ الحَربيّةُ صَوتُها لا يُقاسُ بصَيحةِ إسرافيل.
وبعضُ العلماءِ قالوا: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي بالطّاعةِ {فَفَسَقُوا} أي فخَالَفُوا، هذا التّفسيرُ لا بأسَ به لكن ذاكَ التّفسيرُ الأوّلُ أحسَنُ أمَرْنا أي كَثَّرْنا {مُتْرَفِيهَا} أي الأغنياءَ، نُكثّر أغنياءَهُم فيَفجُرونَ ويَفسُقونَ يَكفُرون فنُهلِكُهم، هذا الذي حصَل في قوم لُوطٍ وهذا الذي حصَل في قوم هُودٍ وهذا الذي حصَلَ في قوم صَالحٍ وغيرِهم أنّهم كثُروا فكَثُرَت فيهم النّعمَةُ ثم فجَروا وضَلّوا فأهلَكهُم الله.
وقال:{ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} 34 سورة هود. هَذا حِكايةٌ مِن اللهِ تعالى عن نوحٍ عليهِ السّلام فإنّه قالَ لقَومِه هذا القَولَ، هنا نُوحٌ أثبَت لله تبارك وتعالى المشيئةَ، مشيئةُ الله تعالى لأعمالِ العِباد مِن خَيرِها وشَرّها أي أنّ الطّاعاتِ مِن عبادِه تحصُل بمشيئتِه وأنّ معَاصيَهُم تحصُل بمشيئتِه، هذه الآيةُ فيها إثباتٌ مِن نُوح لهذا المعنى، فأَهلُ الحقّ لا يَزالُونَ على هذا المعنى فمَن زَاغَ عنه فقَد ضَلَّ وفارَقَ الإسلامَ وإنْ كانَ لا يَدري أنّهُ فارقَ الإسلامَ، كثيرٌ منَ النّاس يُفارقونَ الإسلامَ ولا يَدرُونَ أنّهم فارَقُوا الإسلامَ، هُنا خَطرٌ عظيمٌ، هؤلاء لا يَرجِعُونَ إلا أن يكونَ اللهُ شاءَ في الأزَل أن يَرجِعُوا بعدَ ضَلالهم.
وقال: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} 6و7 سورة الأعلى. هذهِ الآيةُ أيضًا فيها دليلٌ على أنّ أعمالَ القلُوبِ مِنَ الخَلق بمشيئةِ اللهِ لأنّ اللهَ تَبارك وتعالى أخبرَنا عن سيّدِنا محمّدٍ أنّهُ يَنسَى إنْ شاءَ اللهُ نِسيَانَهُ، أمّا مَا لم يشإ اللهُ أن يَنسَى شَيئًا مما أُنزلَ علَيه منَ القرءانِ لا يَنسَى {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} هنا الدّليلُ على أنّ القَلبَ ما بينَ إصبعَين مِن أصابعِ الرحمَنِ كمَا وَردَ في حديثِ أبي هريرة: «إنّ قلُوبَ بَنِي ءادَمَ بَينَ إصبَعَينِ مِن أصَابِع الرّحمَنِ كقَلبٍ واحِدٍ»([7]) معناهُ هو المتصَرّفُ فيها هوَ يُقَلّبُها كيفَ يشَاءُ([8]).
فما لهؤلاءِ التّائهِينَ بَعدَ أن أخبرَنا اللهُ تعالى أنّ القُلوبَ هو يُقلّبُها يقولونَ إنّ العبدَ هو يَخلُق أفعالَ نَفسِه، وأوّلُ مَن فتَح هذا البابَ ممّنْ يَدّعي الإسلامَ هُم المعتزلةُ فاتّبَعَهُم كثيرٌ منَ الناس والعياذُ بالله منَ الضّلالةِ بعدَ الهُدَى، لهذا أهلُ الله يخَافُونَ مِن أن يُفتَنُوا، لو كانَ أحَدُهم الآنَ بحَالةِ استقامةٍ يَخشَى أن تحصُلَ له فِتنَةٌ فيما بَعدُ، أن يَنفَتِنَ ويَزيغَ، كانَ في أيّام السّلَف أُناسٌ كانوا بحَسَب الظّاهِر أحوالهُم حسَنةٌ طَيّبةٌ فتَنَهُم رجُلٌ مِن المعتزلةِ فضَلُّوا.
رَبَّنا ءاتِنا في الدُّنيا حسَنةً وفي الآخرةِ حسَنةً، وَقِنا عذابَ النّارِ، اللهم إنّا نَسْأُلكَ العَفوَ والعافيةَ في الدُّنيا والآخِرة. وسُبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، والله تعالَى أعلَمُ.
([1]) قال النسفي في تفسيره{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} يوسّعُه وينَورُ قلبَه، قال عليه السلام «إذَا دخَلَ النّورُ في القَلب انْشَرَح وانفَتَح» قيلَ ومَا علامَةُ ذلك قال «الإنَابةُ إلى دارِ الخُلُود والتَّجَافي عن دَارِ الغُرُور والاستِعدادُ للمَوتِ قَبلَ نزُولِ الموت» رواه ابن أبي شيبة والبيهقي، وَمَنْ يُرِدْ} أي اللهُ {أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كأنّهُ كُلّفَ أنْ يَصعَدَ إلى السّماءِ إذا دُعِي إلى الإسلام مِن ضِيقِ صَدْرِه عنهُ إذا ضَاقَت عليه الأرضُ، فطَلَبَ مَصعَدًا في السّمَاء.
([2]) أي ما لم يوحِ اللهُ إليَّ أنّكَ تَموتُ كَافرًا.
([3]) وهَذا قَبلَ مَوتِ أبي طَالِب. ووَرَدَ في تَفسِيرِ الآيةِ الكَريمة: مِن «مُعتَرَكِ الأَقْرَان في إعْجَاز القُرءان» للسُّيوطيّ: قال ابنُ عطِيّةَ: مَعناهُ سَأدعُو اللهَ أن يَهدِيَكَ فيَغفِرَ لكَ بإيمانِكَ. =
= وذلك لأنّ الاستغفَارَ للكَافِر لا يجُوز. وعن المسَيَّب قال: لما حضَرَت أبا طالب الوفاةُ جاءَه رسولُ الله ﷺ فوجَدَ عندَه أبا جَهلٍ وعبدَ الله بنَ أبي أُمَيّةَ بنِ المغِيرة فقال «أيْ عمِّ قلْ لا إلهَ إلا اللهُ كلمَةً أُحَاجُّ لكَ بها عندَ الله» فقالَ أبو جَهلٍ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أمَيّة أتَرغَبُ عن مِلّةِ عبدِ المطِّلِب، فلَم يزَل رسولُ الله ﷺ يَعرضُها عليهِ ويَعُودَانِ لتِلكَ المقَالةِ حتى قالَ أبو طالِبٍ ءاخرَ مَا كلَّمَهُم : أنا على مِلّةِ عبدِ المطّلِب، وأبَى أن يقولَ لا إلهَ إلا الله، قالَ رسولُ الله ﷺ” «واللهِ لأستَغفِرَنَّ لكَ ما لَم أُنْهَ عَنكَ» فأنزلَ اللهُ عَزّ وجَل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.113 سورة التوبة.
([4]) هو المادح البوصيري، قاله في الهمزية.
([7]) عن عبد الله بنِ عمرو أنّه سمع رسولَ الله ﷺ يقولُ«إنّ قلُوبَ بَني ءادمَ بينَ إصبَعَينِ مِن أصَابع الرّحمنِ كقَلبٍ واحِدٍ يُصَرّفُه كيفَ يشَاءُ» ثم قال رسول الله ﷺ: «اللّهُمَّ مُصَرّف القلُوبِ صرّفْ قلُوبَنا على طَاعَتِك» رواه البخاري ومسلم وغيرُهما.
([8]) قال النّسَفيّ في تفسيره {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} سنُعلّمُكَ القرءانَ حتى لا تَنسَاهُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وسأَل ابنُ كَيسانَ النَّحْويُّ جُنَيدًا عنه فقال : فلا تَنسَى العَملَ به، فقال: مِثلُكَ يُصَدَّر، وقيلَ قولُه {فَلَا تَنْسَى} أي فلا تُغفِل قراءتَه وتَكريرَه فتَنساه، إلا ما شَاءَ اللهُ أن يُنَسِيكَه برَفع تِلاوتِه {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} (7) أي إنّكَ تَجهَر بالقراءة مع قراءةِ جِبريلَ مَخافَةَ التَّفَلُّت واللهُ يَعلَم جَهرَكَ معَه وما في نفسِك مما يَدعُوكَ إلى الجهر، أو ما تَقرأ في نَفسِك مخَافَةَ النّسيان، أو يَعلَم ما أسرَرتم وما أعلَنتُم مِن أقوالِكُم وأفعالِكُم وما ظهَرَ وما بطَنَ مِن أحوالِكم ﱡﭐ ﲳ ﲴ ﱠ ونوفّقُكَ للطّريقةِ التي هيَ أيسَرُ وأَسهَل يعني حِفظَ الوحي.