الخميس يناير 16, 2025

ذِكْرُ قِصَّةِ سَيِّدِنَا الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَفْتَى وَعُمُرُهُ نَحْوُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً

   سَيِّدُنَا الإِمَامُ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ نَاصِرُ السُّنَّةِ الْمُجَدِّدُ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيسَ بنِ الْعَبَّاسِ بنِ عُثْمَانَ بنِ شَافِعِ بنِ السَّائِبِ بنِ عُبْيَدِ بنِ عَبْدِ يَزِيدَ بنِ هَاشِمِ بنِ الْمُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ جَدِّ النَّبِىِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ الشَّافِعِىُّ نِسْبَةً لِشَافِعٍ جَدِّهِ الثَّالِثِ الَّذِى كَانَ صَحَابِيًّا ابْنَ صَحَابِىٍّ. كَانَ الشَّافِعِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عُمُرُهُ نَحْوَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كَانَ يَدْرُسُ الْعِلْمَ عِنْدَ الإِمَامِ مَالِكٍ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى مَالِكٍ فَاسْتَفْتَاهُ قَالَ لَهُ إِنِّى حَلَفْتُ بِالطَّلاقِ أَنَّ هَذَا الْقُمْرِىَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ فَنَظَرَ مَالِكٌ فَأَدَّاهُ نَظَرُهُ وَاجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ هَذَا الإِنْسَانَ حَنِثَ فِى حَلِفِهِ فَطَلَقَتِ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْقُمْرِىَّ لا بُدَّ أَنْ يَهْدَأَ مِنْ صِيَاحٍ لَيْسَ كُلَّ سَاعَةٍ يَصِيحُ فَأَفْتَاهُ بِطَلاقِ امْرَأَتِهِ. فَعَلِمَ الشَّافِعِىُّ بِهَذِهِ الْفَتْوَى فَاجْتَهَدَ الشَّافِعِىُّ فَلَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهَا قَالَ الشَّافِعِىُّ الشَّخْصُ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ إِنَّ هَذَا الْقُمْرِىَّ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ أَنَّهُ كَثِيرُ الصِّيَاحِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ فَتْرَةٌ يَسْكُتُ فِيهَا مِنَ الصِّيَاحِ وَأَنَّ الطَّلاقَ لَمْ يَقَعْ عَلَى زَوْجَتِهِ لِأَنَّهُ فِى أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ يَصِيحُ وَفِى بَعْضٍ مِنْهَا لا يَصِيحُ فَلَمْ يَحْصُلِ الطَّلاقُ لِأَنَّهُ فِى الْعُرْفِ يُقَالُ لَهُ لا يَهْدَأُ مِنْ صِيَاحٍ فَلَمْ يَحْنَثْ فِى حَلِفِهِ مَا انْكَسَرَ حَلِفُهُ قَالَ لَهُ لَمْ تَطْلُقِ امْرَأَتُكَ هُوَ الشَّافِعِىُّ أَخَذَ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ حَدِيثٍ صَحِيحِ الإِسْنَادِ أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَاسْتَشَارَتْهُ لِلتَّزَوُّجِ بِرَجُلَيْنِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو جَهْمٍ وَرَجُلٌ ءَاخَرُ هُوَ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهَا الرَّسُولُ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ «أَمَّا أَبُو جْهَمٍ فَلا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» يَعْنِى أَنَّهُ ضَرَّابٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ «وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ عَلَيْكِ بِفُلانٍ» سَمَّى لَهَا شَخْصًا ثَالِثًا. الشَّافِعِىُّ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ اسْتَخْرَجَ أَنَّ هَذَا الْقُمْرِىَّ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا يَهْدَأُ بِالْمَرَّةِ مِنَ الصِّيَاحِ إِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ كَثِيرُ الصِّيَاحِ مَا دَامَ مُسْتَيْقِظًا الصِّيَاحُ يَغْلِبُ عَلَيْهِ صِيَاحُهُ يَغْلِبُ عَلَى سُكُوتِهِ فَلا يَحْنَثُ هَذَا الرَّجُل الَّذِى عَلَّقَ طَلاقَ زَوْجَتِهِ. كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ لَمَّا قَالَ «أَمَّا أَبُو جْهَمٍ فَلا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» مَا أَرَادَ أَنَّهُ فِى حَالِ النَّوْمِ وَفِى حَالِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَفِى حَالِ الصَّلاةِ يَظَلُّ حَامِلًا عَصَاهُ عَلَى عَاتِقِهِ مَا عَنَى ذَلِكَ إِنَّمَا عَنَى أَنَّهُ كَثِيرُ الْحَمْلِ لِلْعَصَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَمْلُ الْعَصَا عَلَى عَاتِقِهِ فَالشَّافِعِىُّ مِنْ هُنَا اسْتَخْرَجَ فَتْوًى لِهَذَا الرَّجُلِ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى مَالِكٍ فَقَالَ لَهُ إِنَّ هَهُنَا فَتًى يَقُولُ لَمْ تَطْلُقِ امْرَأَتُكَ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِ فَحَضَرَ الشَّافِعِىُّ فَقَالَ «مِنْ أَيْنَ قُلْتَ مَا قُلْتَ» فَقَالَ لَهُ «مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِى أَنْتَ حَدَّثْتَنَا أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ جَاءَتْ إِلَى الرَّسُولِ فَقَالَتْ «إِنَّ أَبَا جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِى» فَقَالَ الرَّسُولُ «أَمَّا أَبُو جْهَمٍ فَإِنَّهُ لا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» أَنَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَخَذْتُ فَسَكَتَ مَالِكٌ مَا عَارَضَهُ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَعَهُ حُجَّةً.

   هُنَا قَرِيحَةُ الشَّافِعِىِّ الَّذِى هُوَ تِلْمِيذُ مَالِكٍ طَلَعَتْ أَقْوَى مِنْ قَرِيحَةِ مَالِكٍ. أَدْرَكَ الشَّافِعِيُّ مَا لَمْ يُدْرِكْ مَالِكٌ مَعَ أَنَّ مَالِكًا أُسْتَاذُهُ وَأَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا لَكِنَّ الْعِلْمَ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ وَالْقَرَائِحَ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ.