دور الجماعة المسلحة في صنع القرار في الجزائر
أولًا: في السياسة الداخلية:
لقد سمعت “الجماعة المسلحة” إلى فرض رؤيتها على المجتمع الجزائري بالقوة والعنف منتهجة بذلك سياسة تكفيرية والحكم بالردة والكفر على كل من لا ينفذ قرارات الجماعة. ولجعل الصورة أكثر وضوحًا قد يكون من المفيد إلقاء نظرة على “نوعية” القرارات التي يصدرها “أمير الجماعة” الذي بات منذ وصوله إلى “الإمارة” يعتبر نفسه “أمير المؤمنين”. وإضافة إلى سياسة التكفير كانت سياسة فرض الحجاب بتغطية كل الجسد بلا استثناء ومنع خروج النساء من منازلهن إلا إذا ارتدين ما سموه باللباس الشرعي الإسلامي وهو مختلف – من وجهة نظر الزوابري- عن الحجاب الذي ترتديه الجزائريات عادة لجهة أنه يغطي كل الجسم. وكان الزوابري قد أعلن في بيان له أن جماعته ستنفذ حكم القتل في من يرفض تطبيق فرضي الصلاة والزكاة.
واستنادًا إلى أرقام نشرتها وزارة الداخلية الجزائرية قالت رئيسة جمعية “الدفاع عن ترقية حقوق المرأة” درية شريفاتي إن المسلحين اغتصبوا أكثر من ثلاثة ءالاف امرأة في الجزائر منذ العام 1994، وإن عدد النساء اللواتي اغتصبن بين 1994 و 1997 بلغ 1013 امرأة. وإنهم خطفوا أكثر من ألفي امرأة واغتصبوهن ثم في أغلب الأحيان اغتالوهن. وأفادت التقديرات التي عرضت خلال “يوم دراسي حول العنف الذي تتعرض له النساء” أن 40% من النساء المغتصبات أنجبن أطفالًا ومعظمهن لا تعرفن الأب ولا سيما عندما يتعرضن إلى عمليات اغتصاب جماعية [1].
كما نقلت صحيفة “الخبر” عن تقرير لوزارة الداخلية أن نحو 56 امرأة جزائرية اغتصبن في منازلهن قبل أن يقتلن خلال أعمال العنف. إلا أنها أكدت أن العدد الحقيقي يفوق ذلك ويتخطى آلالاف ذلك أن المغتصبات يمتنعن عن الإفصاح عن حالاتهن لأسباب أخلاقية واجتماعية.
الهوامش:
[1] جريدة الكفاح العربي – الاثنين 28/2/2000.
اغتصاب المتطرفين لأخواتهم في الجزائر
وقالت إن ظاهرة الاغتصاب التي بدأت منتصف عام 1995 واستمرت حتى العام 1996، بلغت ذروتها عام 1997 – أي في عهد الزوابري- ومطلع 1998 في سلسلة مذابح فظيعة في مناطق مختلفة كانت أفظعها في ولاية المدية والبليدة وعين الدفلى والجلفة والاغواط والجزائر العاصمة فضلًا عن ولايات سعيدة وتلمسان والشلف ومعسكر بسيدي بلعباس [1].
أما عن الآثار التي خلفتها سياسة الجماعة الداخلية، فقد أعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن حملة التخريب التي قام بها المتشددون المسمون اسلاميين أشاعت الفوضى في الاقتصاد الجزائري وسببت خسائر قدرت ب20 مليار دولار في ثمانية أعوام.
وقالت صحيفة الوطن الجزائرية إن المتشددين دمروا:
1- 1040 شركة مملوكة للدولة.
2- 2850 منزلًا.
3- 156 مبنى حكوميًا في العام 1995 وحده ولم تذكر أرقام الأعوام الأخرى.
ويذكر أن تحركات الجماعة التي شملت الاطفال والنساء والمسنين والعجز بأعمال فظيعة من قتل وذبح وبقر بطون واغتصاب وحرق لأنهم حكموا عليهم بالردة واستهدفت حملاتهم رجال الدولة وعائلاتهم والصحافيين والمثقفين والأساتذة الجامعيين والاطباء وكل طبقات المجتمع. وتحركاتها هذه لم تكن فقط على وجه أرض الجزائر، إنما أيضًا تحت وجه أرض وليس ذلك على سبيل المزاح بل أنهم بعد أن ضاقت بهم الأرض وما عليها هناك انصرف بعضهم إلى فروع جديدة فتحوها في مناطق لا تخطر على البال، كشبكة سراديب وأقبية ومجارير الصرف الصحي، ممتدة تحت شوارع العاصمة وساحاتها حتى البحر، كان الفرنسيون بنوا معظمها زمن الاستعمار في الثلاثينات وعبرها بدأت هذه الجماعة المسلحة تتسلل – منذ أوائل العام 1998- إلى مواقع وأحياء يسيطر عليها الجيش إجمالًا، للقيام بعمليات خاطفة فيها، ثم تعود للتخفي في متاهاتها.
الهوامش:
[1] جريدة النهار – الأربعاء 23/2/2000.
ثانيًا: في السياسة الخارجية:
* عملية صنع القرار السياسي الخارجي:
لقد أضحت الجزائر ذات اهتمام دولي – سياسي واقتصادي- نتيجة الأزمة التي مرت بها. وأدى هذا الاهتمام إلى تفجير “وحدة” السياسة الخارجية، فظهر نتيجة لذلك، العديد من الاتجاهات الخارجية حيث عمل كل واحد على نصرة أفكاره وتجنيد الرأي العام الدولي الرسمي وغير الرسمي. إن عملية صنع السياسة الخارجية الجزائرية تبدو مسألة فصلت فيها الدساتير والمواثيق الوطنية، فالبرلمان والرئاسة والوزارات هي المؤسسات الرسمية الملقى على عاتقها رسم السياسة الخارجية وأدائها، إضافة إلى قوى خفية كالشخصيات السياسية والتاريخية ذات الثقل الواسع في المجتمع. وتظهر عملية صنع القرار من خلا الرئاسة حيث تؤكد دساتير عدة ومن بينها دستور 1989 إلى سلطات واسعة لرئيس الجمهورية في تحديد وتوجيه السياستين الداخلية والخارجية وتعمقت هذه الأفكار حيث تركزت كلية أهم السلطات في يد رئيس الجمهورية.
* المواقف الدولية من الأزمة:
على صعيد المواقف الدولية من الأزمة الجزائرية يمكن الإشارة إلى ثلاث قوى أساسية هي: فرنسا، أمريكا، وبريطانيا.
ويبدو الموقف الفرنسي الأقرب للسلطة من بقية الدول. ففرنسا والجزائر تعملان حاليًا على تحسين وتعميق العلاقات بينهما بعد زيارات متبادلة. ويلاحظ أن الرعايا الفرنسيين يستهدفون بالعمليات العسكرية التي تقوم بها الجماعة المسلحة، بينما لا يمارس مثل هذا العمل ضد الأميركيين والألمان رغم وجودهم في الجزائر.
ويتبين هذا الموقف من خلال الاعتداءات على الأجانب ومنهم المثقفون والصحافيون، وذلك ابتداء من خريف 1993 حيث قتل الفرنسيان فرانسوان برتييه وإيمانوديل ديديون في سيدي بلعباس، ليكونا أول أجنبيين يسقطان في هذا البلد.
وكرت عمليات قتل الأجانب منذ ذلك التاريخ، ففي نفس الشهر، خطفت الجماعة ثلاثة من موظفي القنصلية الفرنسية في الجزائر هم جان كلود وميشال تيفنو وآلان فريسييه وثم إطلاقهم فيما بعد مع رسالة تنذر الأجانب بمغادرة البلاد خلال شهر وإلا فمصيرهم سيكون القتل. وتعتبر تلك الرسالة التاريخ الرسمي لبدء الحرب على الأجانب. أما العمليات التي نالت قدرًا كبيرًا من الاهتمام الإعلامي، فمنها خطف سفيري اليمن وعمان إضافة إلى ديبلوماسي يمني ءاخر، والهجوم على مجمع يضم أبنية يسكنها رعايا فرنسيون في منطقة دالي إبراهيم عند المدخل الجنوبي الغربي للجزائر. وكان ممكنًا أن يؤدي الهجوم إلى كارثة بشرية لو نجح المهاجمون في إدخال سيارة مفخخة كانوا يعتزمون تفجيرها داخل المجتمع الذي يأوي أكثر من 70 فرنسيًا. وفي ظل هذا الهجوم الذي قامت به “كتيبة الموقعون بالدماء” الخاصة بجمال زيتوني، قتل روسي ومواطنان من بيلاروسيا وأوكراني وروماني. كما قتل سبعة بحّارة إيطاليون على متن سفينتهم في مرفأ جنجن قرب جيجل [300 كلم شرق العاصمة]. ويضاف إلى ذلك خطف طائرة air France في كانون الأول ديسمبر 1994، والتي انتهت بمقتل الخاطفين والإفراج عن الركاب في مطار مرسيليا. وأيضًا قتل سبعة رهبان فرنسيون في أيار [مايو] 1996، بعدما خطفوا من ديرهم في تبحرين ولاية المدية جنوب العاصمة.
أما بريطانيا فليست بعيدة عن الأزمة الجزائرية، فقد ذكرت مصادر الاستخبارات الفرنسية أن المتطرفين يستخدمون بريطانيا كقاعدة خلفية لعملياتهم، حيث يعيش نحو 5 ءالاف تم إحصاؤهم رسميًا وعدد مماثل يعيشون في بريطانيا بطريقة غير قانونية.
كما يلاحظ بروز نشرة “الأنصار” التي لم تكن معروفة على نطاق واسع، وهي بمثابة بوق إعلامي للجماعة المسلحة في الخارج، وقد انتقلت من بولندا إلى السويد ومن ثم أصبحت تنشر في بريطانيا.
الحل السياسي وقانون الوئام المدني
عند تمام الساعة الثامنة من مساء اليوم العاشر من كانون الاول 1999 استعجل الجزائريون أعمالهم وتسارعوا إلى منازلهم أمام شاشات التلفزة ليشاهدوا نشرة الأخبار المسائية، وهي نشرة استثنائية، – على غير عادة- منتظرين بشوق وصبر طال زمنه حلولًا لمخاوفهم وحدًا للرعب الذي يسكن قلوبهم ونفوسهم. ظهر مذيع الاخبار ليعلن ابتداء مرحلة جديدة للسلم الأهلي، صدر عن رئيس الجمهورية الجزائرية “عبد العزيز بو تفليقة” قرار منح العفو الكامل عن مقاتلي الجماعة المسلحة. إذن، ولاستعادة الدولة سلطتها، والمضي في إصلاح مؤسساتها، ومعالجة مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية العميقة، قبل أن تعود الجزائر إلى الخريطة السياسية العربية والدولية، كما كانت عليه قبل 1988، كان لا بد من إيجاد الحل الذي تجسد بقانون الوئام المدني لتفتيت أو احتواء المسلحين. وقد استطاع هذا القانون الحد، بشكل ملحوظ، من خطورة الأعمال المسلحة وهيمنتها، فقد وصلت أعداد استسلام المسلحين، في صفوف جماعتي الزوابري وحطاب، إلى أكثر من 3000 مسلحًا. وبالتالي لا بد أن ينعكس هذا الامر، وهذا النجاح على الحالة النفسية والميدانية الصعبة للذين ما يزالون في الجبال.
وجدير بالذكر أن مفعول القانون الوئامي انتهى منذ 13 كانون الثاني 2000، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن هذا تاريخ بداية مرحلة ضرورية لتطبيق القانون. إلا أن التجاوي العام للكثير من العناصر المقاتلة لنداء الدولة قد شجع الحكم على تمديد المهلة تمهيدًا لاستسلام القسم الأكبر من العناصر المتبقية.
ولكن هذا الحل السلمي لم يمنع من المواجهة العسكرية بين صفوف القوات العسكرية والجماعات المسلحة، فقد شنّت هجومًا عنيفًا على أوكار الإرهاب بولاية غليزان سقط على أثره 175 إرهابيًا في عملية تمشيط شاركت فيها طائرات الهليكوبتر والمدفعية، وتقول بعض المصادر أن الجيش يضرب حصارًا حول 100 من عناصر هذه الجماعات وبات من الصعب عليهم مغادرة أوكارهم، وأن الحصار مستمر لصعوبة اقتحام مخائبهم المحاطة بالألغام، والتي يصعب اقتحامها بكاسحات الألغام لوعرة الجبال التي يختبئون فيها.
ومن خلال هذا القانون، أمكن فرز حاسم بين المسلحين “التائبين” من أولئك الرافضين لهذا الوئام في تنظيمي: “الجماعة المسلحة” بقيادة “عنتر الزوابري”، والمجموعة التي أطلق عليها اسم “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” التي يتزعمها “حسان حطاب” [وتضم منشقين عن جماعة الزوابري].
وتسعى السلطة الجزائرية إلى تعزيز وضعها الأمني عبر الرهان على استكمال سيطرة سريعة على معاقل “الجماعة المسلحة” و “الدعوة والقتال” المعارضين الرافضين لمبادرات السلطة. من ناحية ثانية، طرحت تساؤلات عديدة حول تأخر الدولة الجزائرية للوصول إلى الحل السلمي الأهلي، المتمثل بقانون “الوئام المدني”. فما الذي منعها سابقًا من تفكيك عناصر الجريمة والحد من سقوط العدد الضخم من الشهداء وتشرد الآلآف؟!
إن الإجابة على هذا السؤال تحددت في افتتاح مؤتمر “اتحاد البرلمانيين العرب” المنعقد في الجزائر في شباط 2000، والذي قال فيه الرئيس بو تفليقة: “إن الأزمة في الجزائر في السنوات العشر الداميات كان يمكن أن تختزل بقطع رأس الفتنة بسرعة، لكن في الخارج من أطال عمرها، بالتواطؤ وبتحريك الخيوط بالخفاء”، منوهًا في ذلك عن ضرر ذوي القربى والأشقاء والأصدقاء. وفي هذا إشارة واضحة إلى بعض الدول العربية التي دعمت هذه الجماعات المسلحة. ويتابع الرئيس بو تفليقة حديثه: “لا أبالي بالآخرين مهما اشتد بطشهم، لكن أن يلدغ المرء أخاه ويعامله بالحقد والنفاق… لكننا أنشدنا الوئام في أتون الأزمة فشرعنا الأبواب أمام من غرر بهم وضلت بهم السبل ليعودوا إلى بيوتهم وإلى حضن الدولة”. وفي هذا الكلام تلميح واضح إلى وجود أيادي غريبة
– غير عربية- تساهم في تمويل المجموعات المسلحة ومدها بالعتاد، وهذا ما سمي بالمؤامرة. فهناك مصادر مختلفة تؤكد أن المؤامرة على تدمير الجزائر خيوطها كثيرة ومتشعبة.
ففرنسا لها مصلحة، رءاها الرئيس السابق فرنسوا ميتران، وهي في الانتقام من انتصار الثورة الجزائرية، على الاستعمار الفرنسي، التي أنهت النفوذ الفرنسي على العديد من المصالح والمرافق الحيوية في الجزائر. أما أميركا، فقد أبدت انزعاجها من تفرد الجزائر في إدارة ثرواتها النفطية الضخمة، وفي احتوائها للقارة الإفريقية كأكبر دولة فيها، بالإضافة إلى أن الإمكانات المادية والعسكرية التي تملكها الجماعات المسلحة تفوق قدرات الدولة، فمن يكون الممول والأسلحة تحمل علامات أميركية وإسرائيلية؟!
وها هي الجزائر، تدحض المؤامرة وتبطلها، بعدما حققت النجاح متيقظة – أخيرا- إلى قانون العفو العام، قانون الوئام المدني، بعدما عرفت مأساة كبيرة، وهي تطوي اليوم صفحة وتفتح أخرى. وبالتالي، فإن جزائر بوتفليقة قد نجحت إلى حد كبير في تحجيم المعارضة المسلحة، ولكن دون أن تتمكن من تقديم الحل السياسي الذي حظى بموافقة الجزائريين.
غير أن هذا السلام كما تقول “عسلاوي” [وهي ممثلة عائلات الضحايا، وزوجها الطيب كان أيضًا ضحية إرهاب الجماعة المسلحة في حي القصبة عام 1994]: “… إن القانون هو صناعة جزائرية بحتة للسلام والمحبة دستورية وشعبية وليس تحت وصاية الأجانب، والمشروع نابع من قلب الجزائريين”.
وبالرغم من نجاح القانون إلى حد ما، مع العلم أن الجماعات المسلحة ما زالت تمارس أعمالها العنيفة – مع انحصار هذه العمليات وقوة سيطرة الحكومة عليها-، تبقى بعض الأسئلة المترددة: إلى أي مدى يسمح” الوئام المدني” في تصفية القلوب الثكلى بخسارة ضحاياها؟ وكيف سيكون تعايش عائلات الضحايا، الذي قضوا حرقًا أو ذبحًا، مع القتلة؟ وكيف يمكن تنشئة مواطن سليم النفس والعقل والسيرة؟ ومن هم المستفيدون الحقيقيون من تدمير الجزائر؟