فقال الشَّيخُ: هذَا غلَطٌ، هَذا قولُ بعضِ الشّافعِيّة المتأخّرينَ([5])، مَنَعُوا خُروجَ المرأةِ كاشِفَةَ الوَجْه.
قال الشَّيخُ: كلُّها لا يوجَدُ في الحديث. الحديثُ «المَرأةُ عَورَةٌ فإذَا خَرَجَت استَشرَفَها الشّيطَانُ» رواه الترمذي([6]). المقصودُ به ما سِوى الوجهِ والكفّينِ بدليلِ حَديثٍ ءاخَرَ، ثم بعضُ الفقهاءِ الشّافعيّةِ المتأخّرين قالوا في المرأةِ في هَذا الزّمَن خرُوجُها كاشِفةَ الوَجه حَرامٌ لا لأنّهُ عَورَةٌ بل خَوفَ الفِتْنَةِ، وقالَ البَعضُ الآخَرُونَ يَجوزُ خرُوجُها كاشِفَةَ الوَجْه وعلى الرّجالِ غَضُّ البَصَر وهَذا القَولُ يقولُ فيهِ ابنُ حَجَرٍ إجماعٌ([7]) والقَاضِي عِياضٌ يقُولُ فيهِ إجماعٌ([8]) وكذلكَ غيرُهما، هذا القولُ هو القولُ المنصورُ، القولُ المنصورُ أنّهُ حتى في زمَن المتَأخّرينَ كما كانَ في الزّمن القَديم يجوزُ للمَرأةِ أن تَخرُجَ كاشِفةً وجْهَها وعلى الرّجَالِ غَضُّ البَصَر هذا القولُ الذي نُقِلَ بهِ الإجماعُ، وهَذا القَولُ يَستَنِدُ إلى حديثِ المرأةِ الخَثعَميّةِ([9]) التي وقفَت يومَ مِنًى في ذلكَ الجَمْع الكَبير وكانت شابّةً جميلةً وكانَ ابنُ عمّ الرّسولِ خَلفَه، خَلْفَ ظَهْرِه على البَعِير فجَعَل يَنظُر إليها أعجَبَهُ حُسنُها وهيَ جعَلَت تَنظُر إليه أعجبَها حُسنُه، فصرَف رسولُ الله ﷺ وجْهَ الفَضْل إلى النّاحيَةِ الأُخْرى، ما قالَ لها غَطّي وجْهَك لأنّكِ في هذا الجَمع الكثيرِ وأنتِ شَابّة جميلةٌ، وهَذا قَبلَ وفاتِه بثَمانين يومًا تَقريبًا، بعدَ ذلكَ ما ورَدَ حَديثٌ يتعَلَّقُ بكَشْف وجْه المرأة. ثمّ الفقهَاءُ على هذا كانُوا، يقولُ عبدُ الملِك بنُ حَبِيبٍ وهوَ أحَدُ كِبارِ المالكيّةِ في القَرنِ الثّالِثِ الهجْريّ يقولُ: شَهِدتُ المدينَةَ والجَاريةُ البَارعَةُ الجمَالِ تَخرُج كاشِفَةَ الوَجْهِ، هَذا حَالُ السَّلَف، ثم الإمامُ مالِكٌ نَفسُه يقولُ: يجُوزُ أن يَأكُلَ الرَّجُلُ وزَوجَتُه ورَجُلٌ أجنَبيٌّ مَعًا([10]).
فَقال الشَّيخُ: هذا إجماعٌ، إلا أنّ بَعضَ الأئمّةِ استَثنَوا القَدَمَين وهو أبو حنِيفَةَ، وأبو يوسُفَ استَثنى الذّراعَ، على رِوايَةٍ نِصفَ الذّراع وعلى روايةٍ الذّراعَ كُلَّه.
فَقال الشَّيخُ: هذا الجوابُ عنه أن يقالَ الإحرامُ هو وقتُ العِبادَة الفاضِلَة فلَو كانَ وجْهُ المرأةِ عَورةً يجبُ سَترُها لكانَ في حالِ الإحرام أوجَبَ، ثم أيضًا نقَلَ ابنُ عبدِ البَرّ الإجماعَ([11]) قالَ: أجمعَ العلماءُ على أنّ على المرأةِ أن تَكشِفَ وَجْهَها في الصّلاةِ والإحرام.
مَكروهٌ على المرأةِ أن تُصلّيَ مُتَنَقّبَة. لو كانَ عِبادةً لا يَكونُ مَكرُوهًا! فالمرأةُ التي تُغطّي وَجْهَها في الصّلاةِ عندَ الشّافعيّ لَم تَصِحَّ صَلاتُها([12]) وعندَ المالكِيّة صَحّت صَلاتُها معَ الكَراهَةِ([13]) لأنّها غَطَّتْ وَجْهَها، وصَلاةُ النّسَاء تَكونُ في الحرَم المكّيّ بَينَ ءالافٍ مؤلَّفَةٍ مِنَ الرّجَالِ وفي الحرَم المدَنيّ كذَلكَ بينَ ءالافٍ مؤلَّفَةٍ وفي مِنًى وفي عَرفَاتٍ في هَذه المشَاهدِ الأربعةِ تَكونُ بينَ ءالافٍ مؤلَّفَةٍ، فإذَا كانَت صلاةُ المرأةِ مغَطّيَةً وجْهَها مكروهَةً بالإجماع فهذا دليلٌ واضِحٌ على أنّ وَجْهَ المرأةِ ليسَ عَورَةً، أمّا أزواجُ الرّسولِ فلَهُنَّ حُكمٌ خَاصّ بعدَ ءايةِ الحِجابِ([14])، أزواجُ الرّسُولِ كانَ فَرضًا علَيهِنَّ أن يُغَطّيْنَ وجُوهَهُنَّ.
فَقال الشَّيخُ: الذينَ قالوا خَوفَ الفِتنَة يجبُ تَغطيَةُ الوَجه إذا خَرجَت لا يُكَفَّرُون، هؤلاءِ ليسُوا أئمّةً، هؤلاءِ بعضُ الشّافعيّةِ وبعضُ الحنفيّةِ، هؤلاءِ لا يُعتَبرونَ أئمّةً مِن أهلِ الاجتِهاد، أمّا أهلُ الاجتهادِ مَا قالَ واحِدٌ منهم إنّ على المرأةِ إذا خرجَت أن تُغطّيَ وَجْهَها خَوفَ أن يَفتَتِن بها النّاسُ.
الأئمّةُ الأربعَةُ كلُّهم أجَازُوا كَشْفَ وَجهِ المرأةِ نَصًّا مُطلَقًا مَا قيَّدُوه. أمّا قولُ عَبِيدَةَ([15]) السَّلْماني للاستِحبَابِ، أي كَشفُ عَينٍ وتَغطيَةُ عَينٍ، وهَذا كانت بَعضُ نِسَاءِ الأنصَارِ يَفعَلنَه لما نزلَت ءايةُ الحِجَاب، هذا للاستِحبَابِ ليسَ للوجُوبِ، لأنّهُ بعدَ ذلكَ بمِائَتي سنَةٍ وزيادة عبدُ الملِكِ بنُ حَبِيب هذا أحَدُ كِبارِ أعمِدَةِ المالكِيّةِ صَاحبُ كتَابِ «الواضِحَةِ» يقولُ: شَهِدْتُ المدينَةَ والجَاريَةُ البارعَةُ الجَمالِ تخرُجُ كاشِفةَ الوَجه، ما كانوا يُنكِرُون على النّساءِ إن كنَّ جمِيلاتٍ وإن كنَّ غَيرَ جميلاتٍ خرُوجُهُنّ كاشِفاتِ الوجوه، أمّا قولُ عَبِيدةَ السَّلْمانيّ هَذا للاستِحبَاب.
فقال الشَّيخُ: يجوز.
فقال الشَّيخُ: الأئمةُ الأربعَةُ ما قالوا، ولا مَن كانَ مِن طَبَقَتِهم، إنّما قالَ هَذا بَعضُ الفقَهاء المتَأخّرين، قالوا في هَذا الزّمَن بما أنّ التّقوى قلَّ يَجبُ على المرأةِ إذَا خَرَجَت أنْ تُغَطّيَ وجْهَها، هذا كلامُ أُنَاسٍ مِنْ شَافعِيّةٍ وحَنفِيّةٍ ومَالِكيّةٍ وحَنبَليّة، ليسَ هذا الكلامُ مِن أصحَابِ المذاهِب كأبي حنِيفَةَ ومالِكٍ وأحمَدَ والشّافعِيّ، هؤلاء عندَهم يجُوز كشْفُ الوجه للمَرأة، لكن في أتْباعِهم بعدَما مضَى مِن أيام الأئمّةِ مِئاتٌ مِنَ السّنِين مَن قالَ هَذا القَولَ.
تَغطِيَةُ الوَجهِ ليسَ فَرضًا إلا على أزْواجِ الرّسُولِ علَيهِ الصّلاةُ والسّلام، أزواجُ الرّسُول بَعْدَما كانَ يَجُوزُ لهنَّ أن يَكشِفْنَ وجُوهَهُنَّ نزَلَ على النَّبيّ الوَحْيُ بإيْجَابِ فَرضيّةِ سَتْرِ وُجُوهِهِنّ، هَذا لأزْواجِه فقَط أمّا غَيرُهنَّ مَا فرَضَ اللهُ علَيهِنَّ، ءايَةُ الحِجاب التي في القرءانِ الكريم نزلَت في السَّنَةِ السّادِسَة أو الخامِسَةِ مِنَ الهجرة، ثم الرّسُولُ علَيهِ السّلامُ بَعدَ ذَلكَ عَاشَ أربَعَ سَنَواتٍ، تُوفي بَعدَ أن أكمَلَ بالمدينَةِ عَشْرَ سنَواتٍ، ثم قَبلَ أن يُتَوفّى بثَمَانِينَ يَومًا تَقريبًا كَانَت جَاءَت امرأَةٌ شَابّةٌ جَميلَةٌ في مِنى وءالافٌ منَ المسلِمينَ مِنَ الحُجّاج هناكَ كانُوا حَاضِرينَ، وقَفَت أمامَ الرّسُولِ علَيهِ السّلامُ فسَألَتْه عن مسئلَةٍ تتَعلّقُ بالحَجّ، وكانُ ابنُ عَمّ النّبي عليه السّلام خَلفَ ظَهره على البَعِير، جَعَلَ يَنظُر إليها أعجبَهُ حُسنُها، جمالُها، وهيَ أَعجبَها حُسنُه صَارَت تَنظُرُ إلَيهِ، الرّسُولُ مَا قالَ لها شَيئا، فصَرفَ وَجْهَ ابنِ عَمّه إلى الشِّقِّ الآخَر([19]).
ثم حديثُ أبي داودَ عن عائشةَ كنّا نَخرُج مع رسولِ الله ﷺ إلى مكّةَ للحَج فنُضَمّخُ جِباهَنا بالمسْك فكانَت إحْدَانا إذا عَرِقَتْ سَالَ على وجْهِها، أي سَالَ الطّيْبُ على وجْهِها، المسْكُ، فكَانَ يرَانا رسولُ الله فلا يَنهَانا، كلامُ النّوويّ مُوافِقٌ لهذا لكنْ حَديثُ أبي داودَ فيهِ دِلالَةٌ على أَمرٍ زَائدٍ أنّهُ يُسَنُّ للرّجَالِ وللنّسَاءِ التّطيُّبُ للإحرام والإحرَامُ مِن شَأنِه أنّهُ يَكُونُ بالميقاتِ والميقاتُ فيهِ ءالافٌ مؤلَّفَة، في زمنِ الرّسولِ في حَجّةِ الوَداع كانَت عائشةُ مع الرّسولِ ﷺ كانَ حَجَّ ذلكَ العامَ مائةُ أَلْفٍ، مِن هنا الفقَهاءُ الشّافعيّونَ قالوا يُسَنُّ التّطيُّب للإحرام سواءٌ كانَ المحرِمُ رَجُلا أو أُنثَى، وهذا مَأخُوذٌ مِن حديثِ أبي داودَ الذي رواه البَيهقي وغيرُه.والشّافعيّةُ غيرُ النّووي يقولونَ بأنّهُ يُسَنّ التّطَيُّب للإحرام للرّجَال والنّسَاء.
([1]) قال القُدُورِي في «المُختصَر» (ص/26): “وبدَنُ المرأةِ الحُرّةِ كُلُّه عَورةٌ إلا وَجْهُها وكَفَّيْها وقدَمَيْها” ا.هـ.
([2]) قال القَرافيُّ في «الذَّخِيرة» (2/108): وإنْ كانَ يَصِفُ ولا يَشِفُّ كُرِهُ” اهـ
([3]) قال البُهوتيُّ في «كَشّافِ القِناعِ» (1/276): “وَيُكرَهُ لامرأَةٍ شَدُّ وَسطِها في الصّلاةِ ولو بِغَيرِ ما يُشْبِهُ الزِّنّارَ لأنّ ذلكَ يُبَيَّنُ بِه حَجمُ عَجِيزَتِها وتَقاطِيعُ بدَنِها والمطلوبُ سَترُ ذلكَ” اهـ
([4]) قال الرَّمليُّ في «نهاية المحتاج» (2/8): “وَشَرطُه أي السّاتِرِ ما أي جِرْمٌ مَنَعَ إدراكَ لَونِ البشَرةِ وإنْ حكَى حَجْمَها كسِروالٍ ضَيِّقٍ لكِنّهُ مَكروهٌ للمَرأةِ ومِثْلُها الخُنثَى فِيما يَظهَرُ” اهـ.
([5]) تَمسَّكُوا بخَوفِ الفِتنةِ.
([6]) سنن التّرمذي: أبواب الرَّضاع: بابٌ (1173)، وصحيح ابنُ خُزَيمة: كتاب الإمامة في الصَّلاة: باب اختيار صلاة المرأة في بيتها على صلاتها في المسجد (1685)، وصحيح ابنِ حِبّان: ذِكر الأمر للمرأة بلُزوم قَعرِ بَيتِها (559).
([7]) حاشية ابن حجر الهَيتمي على شرح الإيضاح لمناسك الحجّ (ص/276).
([8]) إكمالُ المُعْلِم بفوائِد مُسلِم للقاضي عِياض (7/37).
([9]) أخرجه الشَيخانِ ومالك وأبو داود والنسائي والدارِمي وأحمدَ من طريق عَبدِ اللهِ بن عَبّاسٍ رضي اللهُ عَنهُما.
([10]) في الموطّأ: جامع ما جاء في الطعام والشراب (3488) ما نصُّه: وَسُئِلَ مَالِكٌ: هَلْ تَأْكُلُ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ مَعَ غُلاَمِهَا؟ قَالَ: لَيْسَ بِذلِكَ بَأْسٌ إِذَا كَانَ ذلِكَ عَلَى وَجْهِ مَا يُعْرَفُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْكُلَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ.
([11]) وابنُ عبدِ البَرِّ مِنَ المُجَسِّمةِ المُشبِّهةِ، وإنّما يُنقَلُ عنهُ استِظهارًا.
([12]) إنْ لم تضَعْ جَبهتَها مَكشُوفَةً على الأرض.
([13]) التّمهيد لابن عبد البَرّ المُجسِّم (6/364).
([14]) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) [الأحزاب].
([16]) أي أمامَ الرّجَالِ الأجَانِب.
([17]) جامع البيان للطبري (19/216)، وزاد المَسِير لابن الجوزي (3/306)، ولُباب التأويل للخازن (3/305) .
([18]) قال الإمامُ السَّرَخْسِيُّ الحنفيّ: “فأمّا إذا كانت عجوزًا ممّن لا تُشتَهى فلا بأسَ بُمصافحتها ومَسِّ يدها”. المبسوط للسَّرَخْسِيّ (3/59)، واللُّباب للميداني (4/165).
([19]) عن ابنِ عَبّاسٍ رضيَ اللهُ عَنهُما قال: كانَ الفَضلُ رَديفَ النّبيّ ﷺ فجَاءت امرأةٌ مِنْ خَثعَم فجَعَل الفَضْلُ يَنظُرُ إلَيها وتَنظُر إليهِ فجَعَلَ النّبيُّ عليه الصلاة والسّلام يَصرِفُ وَجهَ الفَضلِ إلى الشِّقّ الآخَر، فقالَت: إنّ فَريضَةَ اللهِ أَدْركَت أبي شَيخًا كَبِيرًا لا يَثبُتُ على الرّاحِلَةِ أفَأَحُجُّ عنه؟ قال: «نَعَم»، وذلكَ في حَجَّةِ الوَدَاع، رواه البخاري في صحِيحه.
([20]) إكمالُ المُعْلِم بفوائِد مُسلِم للقاضي عِياض (7/37).
([21]) قال ابنُ عابدِين في حاشيته (6/366): “لا يَحِلُّ النَّظَر إلى عَورةِ غَيرِه فوقَ ثَوبٍ مُلْتَزِقٍ بها يَصِفُ حَجْمَها” اهـ
([22]) ابنُ عبدِ البَرِّ مِنَ المُجَسِّمةِ المُشبِّهةِ، وإنّما يُنقَلُ عنهُ استِظهارًا. التّمهيد لهُ (6/364).