الأحد ديسمبر 7, 2025

قال المؤلف رحمه الله: [والكَبيرةُ لا تُخرِجُ العبدَ المؤمنَ من الإيمانِ].

(الشرحُ): أنَّ الكبيرةَ لا تُخْرِجُ مرتكبَها من الإيمان أيْ لبقاء التصديق الذي هو حقيقة الإيمان خلافًا للمعتزلة فإنهم زعموا أن مرتكب الكبيرة إن مات قبل التوبة ليس بمؤمن ولا كافر وأنه مخلد في النار فهو خارجٌ مِن الإسلام غيرُ واقع في الكفر فهو في منزلةٍ بين منزلتَي الإيمان والكفر، وخلافًا للخوارج فإنهم قالوا بأن مرتكب المعصية خرج من الإسلام وصار كافرًا.

والمراد هنا بالكبيرة ما سوى الكفر. وقد عُرِّفَتِ الكبيرةُ بألفاظٍ متعددة من أحسنها [كلُّ ذنب أُطلق عليه بنص كتاب أو سنة أو أجماع أنه كبيرةٌ أو عظيم أو أُخبر فيه بشدة العقاب أو عُلِّقَ عليه الحدُّ وشُدِّدَ عليه النكير فهو كبيرة وكذا كل ذنب ورد في القرءان أو الحديث أن فاعله ملعون أو شُبِّهَ فاعله بالكافر]. وقد أوصل عددَها تاج الدين السبكي إلى خمسة وثلاثين من غير ادعاء حصرٍ في ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: [ولا تُدْخِلُهُ في الكُفرِ].

(الشرحُ): أنَّ المؤمن لا يُكَفَّرُ بالذنبِ بإجماعِ أهلِ الحقِّ. ومِنَ الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] سَمَّى اللهُ كلتا الطائفتين مؤمنين مع كون إحداهما على المعصية لأن قتال المؤمن للمؤمن ورد فيه زجرٌ شديدٌ إلى درجةِ تشبيهِهِ بالكفر كما في الحديث الذي رواه البخاريُّ سِباب المسلم فسوق وقتاله كفرٌ اهـ. أيْ يشبه الكفر من عُظْمِ الذنب، وكما في حديثِ بين الرجل وبين الشرك والكفر تركُ الصلاة اهـ. رواه مسلمٌ ففيهِ تشبيهُ هذا الذنب بالكفر لشدة معصيته.

ولا حجة للمخالفين في قوله صلى الله عليه وسلم لا يَزنِي الزانِي حين يَزنِي وهو مؤمنٌ اهـ. الحديثَ فإنه مُؤَوَّلٌ بأنَّ معناه لا يليقُ بالمؤمن أن يزنِي فهو نهيٌ معنًى وإن كان على لفظِ الخبر، وكذلك كلُّ نص يحتج به المخالفون لا يُحمل على الظاهر جمعًا بين النصوصِ وموافقةً للإجماعِ.

والمراد بقول المؤلف [والكبيرة لا تخرج العبد المؤمن من الإيمان ولا تدخله في الكفر] أنَّ المؤمن لا يخرج بذنبه بالغاً ما بلغ من الإيمان ما لم يقع في الكفر فإنه إنْ وقعَ فيه خرجَ مِنَ الإيمانِ سواءٌ كان الكفرُ لفظًا أمْ فعلًا كفريًّا أم اعتقادًا كفريًّا كالتكذيبِ للشرعِ وكاعتقادِ أنَّ الله جسمٌ أو أنه ضوءٌ وكالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات. وعلى هذا ينبغِي أن يُفْهَمَ قولُهُمْ [لا يكفَّرُ مؤمنٌ بذنبٍ] وقولُهُمْ [لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما دخل به].

قال المؤلف رحمه الله: [والله تعالى لا يغفِرُ أنْ يُشرَكَ بِهِ].

(الشرحُ): أنَّ هذه مسألةٌ إجماعيةٌ فإنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ الشركَ لا يُغفر مع أنَّ الجمهورَ على أنَّ غفرانَ الشِّرْكِ وما سواه من أنواع الكفر لا يمتنع عقلًا لكنِ الذِي يَمْنَعُ مِنَ مغفرةِ الكُفْرِ الدليلُ الشرعِيُّ فيُقالُ إنَّ المغفرة للكافر جائزةٌ عقلًا ومستحيلةٌ شرعًا.

قال المؤلف رحمه الله: [ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاءُ من الصغائر والكبائرِ ويَجوزُ العِقابُ على الصَّغيرة].

(الشرحُ): أنَّ الله تعالى يغفرُ الكبائرَ والصغائرَ لِمَنْ يشاءُ أيْ مع التوبة أو بدونها، وعلى ذلك أدلةٌ عديدةٌ مِن نُصُوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ الصحيحةِ منها قولُ اللهِ تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] وأمَّا مَنْ ماتَ تائبًا مِنَ الكبائرِ غيرَ تائبٍ مِنَ الصغائرِ فإنَّ اللهَ لا يُعاقبُهُ عليها بدليل قولِهِ تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. قال عصامُ الدينِ المُتَوَفَّى سنة 943هـ في حاشيتِهِ على شرح التفازانِيِّ [فالحَقُّ أنَّ مدلولَ الآيةِ تكفيرُ الصغائرِ بمجرد الاجتناب عن الكبائر وتعليقُ المغفرة بالمشيئة في ءَايَةٍ أخرى مخصوصٌ بما عَدَا ما اجتُنِبَ معه الكبائر] اهـ.

وأنكر المعتزلةُ جوازَ مغفرةِ الكبائرِ مِن غيرِ التوبة وتَمَسَّكُوا بالآياتِ والأحاديثِ الواردةِ في وعيد العصاة وقُلنا في الجواب عن ذلك إنَّ هذه الآياتِ والأحاديثَ على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوعِ دون الوجوبِ فلا تُنافِي الجوازَ لا سيما والنصوصُ في العفو كثيرةٌ فيُخَصُّ المذنِبُ المغفورُ له مِن عمومات الوعيد.

ولا يُنافي جوازُ المغفرةِ وجوبَ التوبةِ من المعصيةِ فإنَّ التوبةَ تجب فورًا من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها.

قال المؤلف رحمه الله: [والعفوُ عن الكبيرةِ إذا لم تَكُن عن استحلالٍ، والاستحلالُ كُفرٌ].

(الشرحُ): أنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ اللهَ يعفو عما سوى الكفر مِنَ الذنوبِ بلا توبةٍ إذا لم تكن عن استحلالٍ للذنوبِ، أما الاستحلالُ فهو كفرٌ أيْ مع العلم بحرمتها فمَنْ فَعَلَ المعصيةَ ولو صغيرةً قائلًا بأنها حلالٌ وأنَّ فِعلَها جائزٌ مع علمِهِ بحكمها شرعًا كفر.