الإثنين يوليو 14, 2025

تفضيلُ الأزمانِ بعضِها على بعضٍ

قال العِزُّ بن عبدِ السلام رحمه الله: “اعلم أنَّ الأماكِنَ والأزمانَ كلَّها مُتساويةٌ، ويَفضُلان بما يقع فيهما لا بصِفاتٍ قائمةٍ بهما، ويرجِعُ تفضيلُهما إلى ما يُنيلُ اللهُ العبادَ فيهِما من فضلِهِ وكرَمِهِ”. وقال: “وتفضيلُ الأماكنِ والأزمانِ ضربانِ:

أحدُهما: دُنيويٌّ كتفضيلِ الربيعِ على غيرهِ من الأزمانِ، وكتفضيلِ بعضِ البلدانِ على بعضٍ بما فيها من الأنهارِ والثمارِ وطِيبِ الهواءِ ومُوافقةِ الأهواء.

_______

  • أي إلى المكان الذي أمرتُهم أن يخرجُوا إليه لمُناجاتي والتضرُّع إليَّ فيه والاستغفار، أما الله عز وجل فموجودٌ أزلاً وأبدًا بلا مكانٍ ولا جهةٍ، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى حكايةً عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم {وقالَ إنِّي ذاهبٌ إلى ربي} أي إلى المكان الذي أمرَني ربي بالذهابِ إليه.

 

الضربُ الثاني: تفضيلٌ دينيٌ راجِعٌ إلى أنّ اللهَ يجُودُ على عِبادِهِ فيهما بتفضيل أجرِ العامِلينَ كتفضيلِ صومِ رمضانَ على صومِ سائرِ الشهورِ، وكذلكَ يومُ عاشوراءَ وعشرِ ذي الحِجَّةِ، ويومُ الاثنينِ والخميس وشعبانَ وستةُ أيامٍ من شوالٍ، فضلُها راجِعٌ إلى جودِ اللهِ وإحسانِهِ إلى عبادِهِ فيها، وكذلك فضلُ الثُّلُثِ الأخيرِ من كلِّ ليلةٍ (1) راجِعٌ إلى أنّ الله يُعطي فيه من إجابةِ الدَّعَواتِ والمغفرةِ وإعطاءِ السؤالِ ونَيلِ المأمُول ما لا يُعطيه في

________

  • في ذلكَ إشارةٌ إلى حديثٍ يُعرَفُ بحديثِ النُّزولِ لأنَّ فيه لفظ: “ينزِلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا حينَ يبقَى ثُلُثُ الليلِ الآخِرُ يقولُ: مَنْ يدعُوني فأستجيبَ لهُ، مَنْ يسألُني فأُعطِيَهُ، مَنْ يستَغْفِرُني فأغفِرَ لهُ” فظاهرهُ يوهِمُ الحركةَ والنزولَ والجسمية في حق الله سبحانه وتعالى وكل هذا مُحالٌ كما بينته الأدلة السمعية والعقلية فلا وجه لحمل النزول على التحوُّل وتفريغ مكان وشَغل غيره فإنَّ ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام، وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نَقيض: أحدهما الحكم بحدوث الإله، والثاني القدح في الدليل العقليّ والنقليّ على حدوث الأجسام والوجه الحقّ حمل النزول وإن كانَ مضافًا إلى الله تعالى على نزول ملائكتهِ المقرَّبين وذلك سائغٌ غير بعيد، والمعنى هنا أنّ الله تعالى يأمرُ ملَكًا بالنزولِ إلى السماء الدنيا فيُنادي بأمره، وقال بعضهم إن قوله: “ينزِلُ” راجع إلى أفعاله لا إلا ذاتهِ المقدَّس فإن النزولَ كما يكون في الأجساد يكون في المعاني أو راجع إلى الملَك الذي ينزل بأمره ونهيه تعالى، فإن حمل النزول في الأحاديث على الجسم فتلك صفةُ الملَك المبعوث بذلك، وإن حمل على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعلَ سمّي ذلك نزولاً من مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة، والحاصلُ أن تأويله على وجهين إما بأن المراد ينزل أمرُه أو الملَك بأمره، وقد حكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبط رواية البخاري بضم أوله على حذف المفعول أي يُنزل ملكًا قالوا ويقوّيه ما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُمْهِلُ حتى يمضِيَ شَطْرُ الليلِ الأوَّلُ ثمَّ يأمرُ مُناديًا يقولُ: هلْ من داعٍ يُستَجابُ لهُ، هلْ مِنْ مُستَغفرٍ يُغفرَ لهُ هل من سائلٍ يُعطَى” قال القرطبي: صححهُ عبد الحق، قالوا: وهذا يرفع الإشكال ويُزيلُ كل احتمال، والسُّنة يُفسر بعضها بعضًا وكذا الآيات، قالوا: ولا سبيلَ إلى حمله على صفات الذات المقدس فإن الحديث فيه التصريح بتجدُّد النزول واختصاصه ببعض الأوقات والساعات وصفات الربّ جلَّ شأنه يجب اتصافها بالقِدَم وتنزيهها عن التجدد والحدوث.

 

 

في الثُّلُثَين الأوَّلَين. وكذلك اختِصاصُ عرفةَ بالوقوفِ فيها، ومِنًى بالرَّمي فيها، والصفا والمَروةِ بالسعيِ فيهما، معَ القطعِ بتساوي الأماكن والأزمان (1)، وكذلك تفضيلُمكةَ على سائرِ البُلدان” اهـ.

فائدة: تشترك بعض الأماكن بوجود البركة الدينية والدنيوية فيها، فقد طرحَ اللهُ تعالى البركةَ في مكة والمدينة ببركة دعاء نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم ودعاء سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وكذلك بيتُ المقدِس الذي قال الله تعالى فيه: {الذي بارَكْنا حولَهُ} أي ببركاتِ الدينِ والدُّنيا، فإنهُ مُتعبَّدُ الأنبياءِ عليهم السلامُ ومَهبِطُ الوَحيِ وهو مَحفوفٌ بالأنهارِ الجاريةِ والأشجارِ المُثمرةِ، وكذلكَ قال تعالى عن وادي طُوًى {بالوَادِ المُقدَّسِ طُوًى} قال الحسنُ رضي الله عنه: طُوِيَ بالبركةِ مرَّتَين، وقد فضَّلَ الله تعالى بعضَ المواضعِ في الأرض على بعضٍ بما جعل فيها من البركة، فقد نقل الحافظ ابن عساكرَ وأبو الوليد الباجي الأشعريّ والقاضي عِياضٌ والسيوطيّ والقسطلاني وغيرُهم الإجماعَ على تفضيل ما ضمَّ جسدَ النبيّ الشريف حتى على الكعبة المُنيفة وأنّ الخِلافَ فيما عداه، وكذلك نُقِلَ عن أبي عقيلٍ الحنبليّ أن تلكَ البُقعةَ أفضلُ من العرشِ.