وأمّا قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (٨) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8، 9] فالمقصود بهذه الآية جبريل عليه السلام حيث رآه الرسول ﷺ بمكة بمكان يقال له أجياد([1]) وله ستّمائة جناح سادًّا عُظْمُ خلقه ما بين الأفق. قال القرطبيّ في تفسيرها: «أي: دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض {فَتَدَلَّىٰ} فنـزل على النبيّ ﷺ بالوحي. والمعنى أنه لـمَّا رأى النبي ﷺ من عظمته ما رأى، وهاله ذلك ردَّه الله إلى صورة آدميّ حين قرب من النبي ﷺ بالوحي»([2]).اهـ. فسيدنا جبريل عليه السلام هو الذي اقترب من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام فتدلى إليه فكان ما بينهما من المسافة بمقدار ذراعين؛ بل أقرب، وقد تدلّى جبريل عليه السلام إلى محمد ودنا منه فرحًا به. وليس الأمر كما يفتري بعض الناس أن الله تعالى دنا بذاته من سيدنا محمد ﷺ، فكان بين سيدنا محمد وبين الله كما بين الحاجب والحاجب أو قدر ذراعين، لأن إثبات المسافة لله تعالى إثبات للمكان وهو من صفات الخلق، أما الخالق فهو موجود بلا كيف ولا مكان، لا يكون بينه وبين خلقه مسافة. فالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، والفَرْش الذي هو منتهى المخلوقات في الجهة السفلى، على حد سواء بالنسبة إلى ذات الله. فلا يجوز اعتقاد القرب المكانيّ الذي هو قرب المسافة في حقّ الله تعالى، فبالنسبة إلى ذات الله ليس العرش قريبًا من الله بالمسافة قربًا يجعله بعيدًا من الفرش.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} [النجم: 13، 14]، أي: اجتمع النبيّ ﷺ مرة ثانية بجبريل هناك، لأن جبريل عليه السلام لا يتجاوز سدرة المنتهى، وهو سفير بين الله وبين أنبيائه وملائكة السماوات السبع، فهو الذي يبلّغ الوحي للملائكة وللأنبياء. قال القرطبيّ: «قوله: {نَزْلَةً أُخْرَى} يعود إلى محمد ﷺ، فإن كان له صعود ونزول مرارًا بحسب أعداد الصلوات المفروضة، فلكل عرجة نزلة، وعلى هذا قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى}، أي: ومحمد ﷺ عند سدرة المنتهى وفي بعض تلك النزلات. وقال ابن مسعود وأبو هريرة في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} إنه جبريل. ثبت هذا أيضًا في صحيح مسلم([3]). وقال ابن مسعود: قال النبي ﷺ: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى له ستمائة جناح يتناثر من ريشه الدر والياقوت» ذكره المهدويّ»([4]).اهـ.
وأما الحديث الذي رواه البخاريّ في صحيحه: «ودنا الجبار ربّ العزة فتدلى حتى كان قاب قوسين أو أدنى»([5]) فهذه الرواية طعن فيها بعض الحفاظ، كعبد الحق([6]) وغيره، وأوَّله بعضهم فقال: ليس دنوًّا حسيًّا وإنما هو مزيد إكرام وتقريب في الدرجات، وأما حمله على الظاهر فكل أهل السُّنَّة يردُّونه؛ بل يجعلون ذلك تشبيهًا لله بخلقه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلانيّ في شرح البخاريّ، ومما قاله: «ثم قال الخطابيّ: وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرّد بها شريك أيضًا لم يذكرها غيره، وهي قوله: «فَعَلا به – يعني: جبريل – إلى الجبار تعالى فقال وهو مكانه، يا رب خفف عنا» قال: والمكان لا يُضاف إلى الله تعالى إنما هو مكان النبيّ ﷺ في مقامه الأول الذي قام فيه قبل هبوطه». وهذا الأخير متعين وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى، وأما ما جزم به من مخالفة السلف والخلف لرواية شريك عن أنس في التدلي ففيه نظر، فقد ذكرت من وافقه وقد نقل القرطبيّ عن ابن عباس أنه قال: «دنا الله سبحانه وتعالى» قال: والمعنى دنا أمره وحكمه» ثم قال: «وقد تقدم في تفسير سورة النجم ما ورد من الأحاديث في أن المراد بقوله: {رَءَاهُ} أنّ النبيّ ﷺ رأى جبريل له ستمائة جناح ومضى بسط القول في ذلك هناك. ونقل البيهقيّ نحو ذلك عن أبي هريرة قال: فاتفقت روايات هؤلاء على ذلك، ويعكّر – أي: يحتاج إلى توضيح – عليه قوله بعد ذلك: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] ثم نقل عن الحسن أن الضمير في عبده لجبريل والتقدير: فأوحى الله إلى جبريل. وعن الفراء التقدير: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى.
وقد أزال العلماء إشكاله فقال القاضي عياض في (الشفا): إضافة الدنوّ والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنوَّ مكان ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبيّ ﷺ إبانةٌ لعظيم منـزلته وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عزَّ وجلَّ تأنيسٌ لنبيه وإكرامٌ له، ويتأول فيه ما قالوه في حديث: «ينـزل ربنا إلى السماء» وكذا في حديث: «مَنْ تقرَّب مني شبرًا تقرَّبت منه ذراعًا» وقال غيره: الدنو مجاز عن القرب المعنويّ لإظهار عظيم منـزلته عند ربه تعالى، والتدلّي طلب زيادة القرب، وقاب قوسين بالنسبة إلى النبيّ ﷺ عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة، وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله ورفع درجته([7]). انتهى النقل عن الحافظ ابن حجر.
[1])) معجم البلدان، ياقوت، (1/130).
[2])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (17/88).
[3])) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: معنى قول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} وهل رأى النبي ﷺ ربَّه ليلة الإسراء، (1/158).
[4])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (17/94).
[5])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. (9/182، 183). رقم 7571.
[6])) عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حسين بن سعيد (ت581هـ)، الحافظ العلامة الحجة أبو محمد الأزديّ الإشبيليّ. ويُعرف أيضًا بابن الخراط. كان عالـِمًا بالحديث وعلله، وعارفًا بالرجال موصوفًا بالخير والصلاح والزهد والورع، ولزوم السنة والتقلّل من الدنيا مشاركًا في الأدب. له: (الجمع بين الصحيحين)، و(المعتل من الحديث). طبقات الحفاظ، السيوطيّ، (1/99).
[7])) فتح الباري، ابن حجر، (13/484).