الدرس الثالث عشر
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰن الرَّحِيمِ
درس ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى وهو في بيان من يجوز لعنه ومن لا يجوز. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى ءاله وأصحابه الطيبين وءاله الطاهرين.
أما بعد: فقد روينا بالإسناد المتصل في مسند الإمام أحمد وغيرِه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَعْنُ المسلم كَقَتْلِهِ»([i]). اهـ.
شرح الحديث اللعنُ من الله تعالى الإبعاد من الخير فمعنى لَعَنَ اللهُ فلانًا أي أبعده من الخير ليس معناه لا يرحمه الله ألبتة الرحمة العامة ولا الرحمة الخاصة، وأما مِن العبد فهو الدعاء على العبد بأن يبعده الله من الخير وإنما قيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالمسلم لأن لعن الكافر ليس كلعن المسلم، الكافر يجوز لعنه بالتخصيص والتعيين وبالتعميم أي من غير تخصيص وتعيين، كلا الأمرين جائز، هذا هو القول المنصور الذي تؤيده الأحاديث النبوية وليس لما قاله بعض الشافعية كالغزالي وجهٌ وهو أنه لا يجوز لعن شخص معين لو كان كافرًا غلا من عُلِمَ موتُهُ على الكفر بطريق النصّ الشرعِيّ أي إلا إذا كان واردًا في القرءان أنه يموت كافرًا أو نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. الغزالي وكثير من الشافعية على هذا القول لكن هذا القول غير معتمد، القولُ المعتمد أنه يجوز لعن الكافر الذي ورد النص على موته كافرًا والذي لم يَرِدِ النصُّ بموته على ذلك.
الذي ورد النص [مثلًا] على موته كافرًا فرعون فإن الله تبارك وتعالى قال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}([ii]) فلو كان إيمانه بعدما أدركه الغرق مقبولًا ما قال الله تبارك وتعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَورَدَهُمُ النَّارَ} ولا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن لا يحافظ على الصلوات الخمس إنه يكون يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأُبَيّ بن خَلَفٍ، هؤلاء قد قام النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على موتهم على الكفر، الحديث دل على أنهم من أصحاب النار المؤيدين المخلدين فيها ولذلك ضُرب بهم المثل لعقوبة تارك الصلاة لأن تارك الصلاة يرافق هؤلاء برهةً من الزمن وذلك دليل على شدة عذاب تارك الصلاة، لو كان تاركُ الصلاة من الذين عذابهم خفيف ما قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القولَ لكنه لما كان من أشد الناس عذابًا يوم القيامة قال فيه ذلك، وليس في هذا الحديث أن تاركَ الصلاة المعتقِد لفرضيتها الذي يؤمن بالله ورسوله يكون دوامًا في الآخرة مع هؤلاء أئمة الكفر فرعون وهامان وقارون وأُبَيّ بن خلف.
ثم الثلاثة الأول فرعون وهامان وقارون ليسوا من أمة محمد الذين أرسل الله إليهم محمدًا لأنهم كانوا في أيام موسى عليه السلام والرابع من أمة محمد الذين شملتهم دعوةُ محمد، هو أُبَيُّ بن خلف كان من أكابر مشركي قريش من أهل مكة الذين كانوا شديدِي الأذى على المؤمنين من أهل مكة.
أمّا لعنُ المسلم فيجوز ليسبب شرعيّ وهو أن يكون غَاشًّا يغش المسلمين في معاملاته الدنيوية أو يغشهم في دينهم يتصدَّى للتدريس وهو ليس بأهلِ فيحرّفُ شرع الله هذا أكبر غشًّا من الأول فيجوز لعنه لكن ليس مطلقًا بل بنية زجره عن هذه المعصية التي هيَ جريمة كبيرة فإنَّ الغش إن كان في أمور الدنيا كالبيع والشراء وإن كان في أمور الدين فهو من كبائر الذنوب، أما الكافر فيجوز لعنه مطلقًا إلا الكافر الذمّيَّ فإنه لا يجوز لنا أن نلعنه بحيث يسمع. الذمّيُّ هو الذي دفع الجزية والتزم الشروط التي يُعطى العهد عليها كالذين عاهدوا عمر بن الخطاب ومن جاء بعدهم من الكفار الذين وافقوا على دفع الجزية مع التزام الشروط بعد عمر رضي الله عنه، كل هؤلاء ذميون حتى ينقضوا العهد. روينا في سنن أبي داود أن أهل نجران أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزية وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا وأنهم إن أحدثوا حدثًا أو أكلوا الربا أي إن نقضوا العهد أو أكلوا الربا الذي شرط عليهم رسول الله أن لا يأكلوه انتقض عهدهم وخرجوا عن كونهم ذميين، ثم نقضوا العهد فأجلاهم عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلاهم أي أخرجهم من أرض اليمن، هي نجران معدودة في الأصل م اليمن، والآن هي مع السعودية تحت حكم السعودية كان هناك مسكنُهُم، كان عمر بن الخطاب خاف أن يميلوا على المسلمين ميلة لأنه وجدهم عمر قد تكاثرون فحدثَ السببُ من قبلهم وهو أنهم خالفوا الشرط شرط الذمة الذي وضعه عليهم رسول الله فانتهز هذه الفرصة فطردهم، أجلاهم.
الكافر الذميُّ لا يجوز لعنُهُ في وجهه وفي خلفه بحيث يبلغه فيتأذى، مع كفره لا يجوز، هو يفترق عن سائر الكفار، مع كفره يفترق عن غير الذميين من الكفار وكذلك المعاهَد يفترق عن غيره، المعاهد هو الذي صالحه إمامُ المسلمين لمصلحة الإسلام على ترك المقاتلة من الجانبين لمدة لا تزيد على عشر سنين فكفار قريش عاهدهم رسول الله عام الحديبية على ترك قتلاهم أيْ على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه عشر سنوات ثم انتقض عهدهم بعد عامين، هم نقضوا العهد، الرسولُ صلى الله عليه وسلم ساحتُهُ منزهة عن نقض العهد، هو أوفى الناس بالعهود، أوفى خلق الله بالعهد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نَقْضُ العهد حصل منهم، كانوا ساعدوا طائفة من الكفار دخلوا في ذمتهم على ضرب طائفة من الكفار كانوا داخلين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولئك الذين كانوا في عقد كفارِ قريش مشركي مكة يقال لهم بنو بكر والذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لهم بنو خزاعة، هؤلاء كفار قريش الذين كانوا عاهدوا رسول الله وعاهدهم على ترك القتال عشر سنوات ساعدوا هؤلاء بالسلاح والخيل ليضربوا هؤلاء الذين كان لهم عهدٌ من رسول الله فبذلك انتقض عهدهم فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مُضِيّ عامين من مدة الهُدنة ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفي ذلك أنزل الله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}([iii]).
ثم ليس من شرط جواز اللعن لمسلم فاسق فاجر غشاش أو كافر من الكفار أن يُعْلَمَ موته على الكفر بطريق الوحي من الله تعالى فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشخاصًا من غير أن يُوحَى إليه أنهم يموتون على الكفر بل أسلموا بعد ذلك، بعد أن لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صاروا من المسلمين الطيبين، هذا القولُ الذي يدور في أفواهِ كثير من المتفقهة إنه لا يجوز لعن الكافر المعين الذي لم يَرِدْ نصٌّ بموته على الكفر قول ضعيف لا يؤخذ به.
فمعنى الحديث «لعن المسلم كقتله» أيْ أن من يلعن مسلمًا بدون سبب شرعيّ أي لا هو غشاش للناس في معاملاتهم الدنيوية أو في أمور الدين ولا هو متجبر حطّام حُطَمَةٌ للناس ولا هو في معنى ذلك هذا الذي قال فيه الرسول إن ذنبه كذبن قتله فليحفَظِ المرءُ لسانَه عن إطلاق اللعنة على أحد من المسلمين إلا أن يتحقق أنه من أهله بأن يعلم منه أنه غشاش في تجارته أو معاملاته التي يعامل بها الناس باسم الدين كهؤلاء الذين يتصدرون للتدريس أو لإعطاء الطريقة يوهمون الناس أنهم أولياء الله حتى يعتقدَ فيهم الناس ويهدوهم الهدايا ويَسْخَوْا لهم بأموالهم هؤلاء يجوز لعنهم.
ثم هؤلاء الذين يدّعون الطريقة والولاية قسم منهم خرجوا من دائرة الإسلام ليسوا في دائرة الإسلام ومع ذلك يعلمون الناس كلمات كفرية كإيهامهم لبعض الناس أنهم أنبياء كما قال أحدهم هذا الشيخ رجب ديب قال نحن أنبياء مُصَغَّرُون، هذا كافر من الكفار هذا ليس له حكم لعن المسلم، وكذلك مَن أشبهه ليس له حكم لعن المسلم، كل هؤلاء ليس لهم حكم لعن المسلم. قلنا المسلم الذي هو غشاش يجوز لعنه بنية التحذير منه أو بنية زجره هو فيرتدع، يجوز لعنه، فكيف الذي يقول للناس هذه الكلمة نحن أنبياء مصغرون، هذا تكذيب للقرءان الله تعالى قال: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}([iv]) أيْ أن محمدًا لا يأتي بعده نبي فكيف يتجرأ من يدعى الإسلام والولاية والطريقة مع دعوى الإسلام والولاية والطريقة على هذا القول نحن أنبياء مصغرون كيف يتجرأ، والذي لا يُكَفِّرُهُ بعد أن يعلم منه ذلك فهو مثله. إنا لله وإنا إليه راجعون، مع هذا تُقَبَّلُ له يدُهُ يسمعون منه هذا الكلام ثم يقبلون يده ما هؤلاء، هؤلاء ليسوا مسلمين ما عرفوا الإسلام، كثيرٌ من الناس لما يسمعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ قائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش»([v]) لا يدرك معنى هذا الحديث، هذا الحديث يفسر بهؤلاء وبأناس ءاخرين هم مسلمون ما خرجوا عن الإسلام لكن لا يقومون بالصلاة مع شروطها وأركانها أو يُؤَدُّونها بشروطها وأركانها لكن للرياء، وكذلك هناك أناس مسلمون مؤمنون لكنهم يصومون بدون شروط الصيام يُخِلُّون بشروط الصيام بضروريات الصيام أو يصومون حتى يقال عنهم هؤلاء صوامون.
هذا معنى الحديث. فاحفظوه وليكن على ذُكْرٍ منكم لعن المسلم كقتله([vi]) المراد به المسلم الذي ليس غشاشًا ليس ذا غش للناس في دينهم أو في معاملاتهم ولا هو متجبّرٌ حُطَمَةٌ للناس أيْ ظلوم. هذا المؤمن الذي عقيدته صحيحة مؤمن بالله ورسوله ولا يقترف كفرًا من الكفريات لا في حال غضبه ولا في حال مزحه سالم من الكفريات جميعها ومن الغش للمسلمين ومن التجبر والظلم لهم لعنُ هذا المسلم هو الذي قال فيه الرسول كقتله.
وما أكثر ما يحرّف كثير من الناس أحاديث رسول الله وءايات كتاب الله، مثلًا إذا ذكر إنسان إنسانًا حصل منه كفر للتحذير منه سمعوا منه تكفير ذلك الشخص بحق يقولون من كَفَّرَ مؤمنًا فقد كفر يضعون هذا في غير محله مَن كَفَّر مسلمًا فقد كفر معناه الشخص الذي ما حصل منه كفر لا قوليٌّ ولا فعلي ولا اعتقادي لا في المزح ولا في الغضب ولا في حال الرضا ما حصل منه كفر من الكفريات عنادًا كَفَّرَهُ هذا الذي يُحكم عليه بكفره لأنه كفَّر مسلمًا أما من سب الله في حال الغضب أو المزح أو اعترض عليه لشدة الفقر أو لشدة المصيبة كما يفعل بعضُ الناس عندما يتضايقون فإنهم يسبون الله تكفير هؤلاء حق من كفّر هؤلاء لا يقال فيه من كفر مسلمًا فقد كفر انظروا كيف يحرفون الحكم.
تكفّرُ إنسانًا بحق بدليل شرعيّ ثم يدافعون عنه، من جهلهم يقولون من كفَّر مسلمًا فقد كفر هذا لا يقال فيه ذلك إنما يقال هذا إذا شخص أراد أن يحطم إنسانًا فقال فلان كافر بدون سبب شرعي لهذا يقال من كفّر مسلمًا فقد كفر اتق الله لا تكفّره بلا سبب شرعيّ هذا من كفّر مسلمًا بدون سبب شرعِيّ لا قال الكفر ولا فعل فعل الكفر كدوسه على اسم الله تعالى كدوس ورقة فيها اسم الله تعالى عمدًا أو سجود لصنم عمدًا بدون إكراه ولا اعتقد غير عقيدة الإسلام كاعتقاد أن الله تبارك وتعالى جالس على العرش أو أنه شيءٌ نور أبيضُ أو نور أزرقُ أو نور أصفرُ فالذي كفّر مسلمًا بدون سبب شرعيّ فليقولوا له بمثل هذا أما إنسان يكفّر من سب الله علم أنه سب الله فقال كَفَرَ هذا كَفَرَ أو قال في قلبه فلان كفر فلان كافر لا يُقال لهذا أنت تكفّر مسلمًا ومن كفر المسلم فهو كافر لا يقال لهذا إنما يقال لذاك الذي كفّر مسلمًا بدون سبب لأنه خالف هواه قال عنه فلان كافر فلان كافر هذا يقال فيه مَن كفّر مؤمنًا فهو كافر أنت كَفَرْتَ لأنك كَفَّرت مؤمنًا بدون سبب شرعيّ.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
([i]) رواه أحمد في مسنده من حديث ثابت بن الضحاك الأنصاريّ رضي الله تعالى عنه.
([iii]) سورة النصر، ءاية (1 – 3).
([iv]) سورة الأحزاب، الآية: (40).
([v]) رواه أحمد في مسنده من حديث ثابت بن الضحاك الأنصاريّ رضيّ الله تعالى عنه.
([vi]) رواه النسائيّ في السنن الكبرى باب ما ينهى عنه الصائم من قول الزور والغيبة.