بيان أن مصارف الزكاة لا تعمّ كل عمل خيري
فرض الله تعالى الزكاة وبَيَّن مصارفها بقوله عز وجل: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {60} [سورة التوبة]، فيجب صرفها إلى هؤلاء الأصناف الثمانية كما دلت الآية على ذلك، فلفظة: إِنَّمَا {60} تفيد الحصر، قال الرازي في تفسيره: “إن كلمة “إنما” مركبة من “إن” و”ما”، وكلمة “إن” للإثبات وكلمة “ما” للنفي، فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم، فوجب أن يفيد ثبوت المذكور وعدم ما يغايره” اهـ، وكذا ذكر المفسر الخازن في تفسيره.
وقال المفسّر اللغوي أبو حيان في تفسيره “النهر الماد”: “ولفظة “إنما” إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به والتعليل بالشىء يقتضي الاقتصار عليه، والظاهر أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف، والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير فتكون الفقراء غير المساكين” اهــ
والمراد بقوله تعالى وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} الغزاة المتطوعون بالجهاد بأن لم يكن لهم سهم في ديوان المرتزقة من الفيء يعطون ما يحتاجونه للجهاد ولو كانوا أغنياء إعانة لهم على الغزو، والمرتزقة هم الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد سموا بذلك لأنهم أرصدوا نفوسهم للذبّ عن الدين وطلب الرزق من ماله تعالى، وأما المتطوعون بالغزو إذا نشِطوا فهم المرادون بسبيل الله فيعطون من الزكاة من سهم في سبيل الله، وأما المرتزقة فلهم الأخماس الأربعة من الفيء.
ولا يجوز ولا يجزئ صرف الزكاة لغير الأصناف الثمانية المذكورين في ءاية براءة.
فمن دفع زكاته لبناء المساجد والمستشفيات والمدارس فليَعلم أَنَّ زكاته ما صحَّت فيجب عليه إعادة الدَّفع للمُستحقِّين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ رجالا يتخوَّضون في مال الله بغيرِ حقٍّ فلهم النارُ يوم القيامة” رواه البخاري في الصحيح.
فيفهم من هذا الحديث أنَّ الذي يأخذ الزَّكاة وليس هو من المستحقّين الذين ذكرهم الله في القرءان له النَّارُ يوم القيامة، وكذلك الذي يأكل مال الوقف الإِسلامي بغير حقٍّ أي بغير الوجه الشَّرعي الذي بيَّنه الفقهاء في كتبهم فله النَّارُ يوم القيامة.
والدليل على أنّه لا يجوز دفع الزكاة لكل ما هو بِرٌّ وخير مما عدا الأصناف الثمانية وأن المراد بقوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} ليس كل أنواع البرّ والإحسان من بناء مسجدٍ ومدرسةٍ ومستشفى ونحو ذلك هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذَكَرَ الزكاة: “إنَّها لا تحلُّ لغنيٍّ ولا لذي مِرَّةٍ سويّ”، وقوله صلى الله عليه وسلم لرجلين جاءا يسألانه الزكاة وكانا قويين: “إن شئتما أعطيتكما وليس فيها حقٌّ لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسب”، فحرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذين الحديثين الزكاة على من يملكُ مالا يغنيه أي يكفيه لحاجاته وعلى من له قوةٌ على العمل الذي يكفيه لحاجاته الأصلية، فدلَّنا حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو المُبَيِّنُ لما أنزل الله في كتابه بعض أعمال البرّ لا كلّها وهو الجهاد ويدخل في ذلك الحج عند الإِمام أحمد، ولم يقلْ إِنَّ كلمة وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} تعمُّ كلَّ مشروع خيري أحدٌ من الأئمة المجتهدين إِنَّما ذلك ذكره بعض الحنفيّة من المتأخّرين ممن ليس من أصحاب أبي حنيفة الذين هم مجتهدون فحرامٌ أن يؤخذ بقول هذا العالِم، وهذا القول مخالف لكثير من متون الحنفية وشرحها المصرح فيها بأن الزكاة لا تصرف لبناء مسجد وسقاية وإصلاح طرق ونحوها لعدم التمليك وكذا لا تصرف إلى تكفين ميت، فليراجعها من شاء.
فَليُحَذَّر من هؤلاء الذين يَلمُّون هذه الأموال باسم المستشفى أو بناء جامعٍ أو بناء مدرسةٍ من الزكوات هؤلاء حرامٌ عليهم وحرامٌ على الذين يعطونهم لأنَّه لو كان كلُّ عمل خيريٍّ يدخلُ في قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} [سورة التوبة] ما قال الرَّسول: “ليس فيها حقٌّ لغَنِيٍّ ولا لِقَوِيٍّ مكْتَسِب”.
فإن قيل: إن المراد بقوله تعالى كل عمل خيرّي.
قلنا: هذا خلاف ما فهمه علماء الإسلام في تفسير هذه الآية، فإنهم فسروها بالغزاة.
قال الإمام مالك صاحب المذهب: “سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بسبيل الله ها هنا الغَزْو” ا-ه، ذكره القاضي أبو بكر ابن العربي في أحكامه.
وقال البدر العيني الحنفي في “عمدة القاري”: “قال ابن المنذر في “الإشراف”: قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: “سبيل الله” هو الغازي” اهــ
وقال الإمام المجتهد محمد بن الحسن في الموطإ بعد أن ساق حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: “لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله” الحديث: “وبهذا نأخذ، والغازي في سبيل الله إذا كان له عنها غنى يقدر بغناه على الغزو لم يستحب له أن يأخذ منها شيئًا” ا-، نقله الكوثري في مقالاته.
وقال النووي الشافعي في “شرح المهذب” ما نصه: “ وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} فإن المراد به بعضهم وهم المتطوعون الذين لا حق لهم في الديوان ولم يذكروا باسمهم الخاص” اهــ
وقال أيضًا: “واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو، وأكثر ما جاء في القرءان العزيز كذلك. واحتج الأصحاب أيضًا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين: “لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة” فذكر منهم الغازي، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى” اهــ
وقال الإمام الشافعي صاحب المذهب في أكبر كتبه كتاب “الأُم” ما نصه: “ينبغي لوالي الصدقة أن يبدأ فيأمر بأن يكتب أهل السهمان ويوضعون مواضعهم ويحصى كل أهل صنف منهم على حدتهم، فيحصي أسماء الفقراء والمساكين وأسماء الغارمين وابن السبيل والمكاتبين وأسماء الغزاة” اهــ
وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه “المغني” ما نصه: “هذا الصنف السابع من أهل الزكاة، ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم، ولا خلاف في أنهم الغزاة في سبيل الله لأن سبيل الله عند الإطلاق الغزو” اهــ
ولو أردنا استقصاء النقل لطال بنا المقال، وما ذكرناه كفاية.
فإن قيل: يُحمل وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} على المعنى اللغوي ليشمل كل وجوه البر.
قلنا: يرد ذلك بوجوه:
الأول: بالإجماع الذي نقله ابن قدامة على أن المراد بالآية الغزاة، وهذا النقل مؤيَّد باتفاق أهل التفسير وعلماء الفقه على هذا المعنى.
الثاني: قال ابن الأثير في “النهاية” ما نصه: “السبيل في الأصل: الطريق، ويذكَّر ويؤنَّث والتأنيث فيها أغلب. وسبيل الله عام على كل عمل خالص سُلِك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه” ا-، وكذا نقله ابن منظور في “لسان العرب”.
وقال اللغوي الفيروزابادي في “القاموس” ما نصه: “السبيل: الطريق وما وضح منه، وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ {195} [سورة البقرة] أي الجهاد، وكل ما أمر الله به من الخير واستعماله في الجهاد أكثر” اهــ
وقال الفقيه اللغوي الحافظ محمد مرتضى الحنفي في “شرح القاموس” ما نصه: “وقوله وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} أريد به الذي يريد الغزو ولا يجد ما يبلغه مغزاه فيعطى من سهمه” اهــ
الثالث: إن شمول سَبِيلِ اللهِ {60} بالمعنى اللغوي لوجوه البر في غير ءاية مصارف الزكاة الواردة بصيغة الحصر لا مانع من قبوله إذا كان هناك صارف عن الحقيقة الشرعية كأن يكون الكلام في صدقات النفل ونحو ذلك من الآيات التي معها من القرائن ما يعين أن المراد منها الإطلاق اللغوي فإذ ذاك يحمل سَبِيلِ اللهِ {60} على وجوه البر مطلقًا، وإذا خلت من تلك القرائن تحمل على المعنى الشرعي والحقيقي وفي مصارف الزكاة مع ذلك حديث أبي سعيد الخدري يبين المراد بسبيل الله وهو الغزو كما سبق، فلا مَعدِل عنه أصلًا هنا.
ثم الأصناف الثمانية متباينة لا تتداخل إلا إذا وُجد صارف عن هذا التباين، فعند حمل السبيل هنا على خلاف رأي الجماعة يحصل بينها تداخل لأن السبيل بمعنى وجوه البر يشمل إعطاء الفقير قسطًا من الزكاة والتصدق على المسكين بقسط منها واستخلاص الرقاب من الرق أو الأسر وإنقاذ الغارم من الدَّين ومعاونة ابن السبيل، فالجماعة أجروا لفظ السبيل على المعنى الشرعي المبين بالحديث المتبادر إلى أفهام المتخاطبين كما هو شأن الحقيقة الشرعية، وأما المعنى اللغوي الشامل لأنواع البر فينافيه لزوم التباين بينها، وهذا يبعده على أن تكون مرادًا لو كان هذا المعنى مدلولا حقيقيًّا للسبيل هنا.
فالحقيقة الشرعية إذًا هي المتبادرة إلى الأفهام في تخاطب أهل الشريعة، والحقيقة اللغوية لا تكون متبادرة إلى أفهامهم، فإرادة المعنى اللغوي من اللفظ المشتهر في معنى شرعي يكون في حاجة إلى قرينة صارفة عن الحقيقة الشرعية، ولو قلنا على سبيل الفرض ان احتمال سَبِيلِ اللهِ {60} في مصارف الزكاة للمعنيين لكان حديث أبي سعيد الخدري مبينًا للإجمال، فتعيّن حمله على الغَزْو، قاله الكوثري في مقالاته.
الرابع: حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني” رواه أبو داود وابن ماجه.
قال النووي في “شرح المهذب” ما نصه: “هذا حديث حسن أو صحيح”، ثم استَدَل به على أن المراد بالآية الغزاة فقال ما نصه: “وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى” اهــ
فإن قيل: قال الرازي في تفسيره: “واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} لا يوجب القصر على كل الغزاة، فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} عام في الكل” اهــ
قلنا: هذا النقل لا اعتبار له فهو كالعدم، وهو مخالف للإجماع الذي نقلناه عن مالك وابن قدامة، ورده الكوثري بقوله: “وأما ما حكاه الفخر الرازي عن القفال الشاشي من عزو القول بشمول لوجوه البر إلى مجهول من الفقهاء على خلاف رأي الجماعة فشأنه شأن رواية المجاهيل والآراء التالفة للمجاهيل، على أنه لا رأي يؤخذ به ضد الإجماع الذي حكيناه عن مالك مع العلم بأن الرازي ليس من رجال تمحيص الروايات” اهــ
وكذلك رده الخازن في تفسيره فقال: “وقال بعضهم إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط، ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك، قال: لأن قوله وَفِي سَبِيلِ اللهِ {60} عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره، والقول الأول هو الصحيح لإجماع الجمهور عليه” ا-ه، ومراده بالأول أي تفسير الآية بالغزاة، فهذا من الخازن رد لما نقله القفال عمن لم يُسمّ من الفقهاء.
قال الإمام مالك في “المدونة” ما نصه: “لا تجزئه أن يعطي من زكاته في كفن ميت لأن الصدقة إنما هي للفقراء والمساكين ومن سمّى الله، فليس للأموات ولا لبنيان المساجد” اهــ
وبعد هذا البيان يُعلم أنه لا يجوز دفع شىء من أموال الزكاة لكل عمل خيري ولا يجوز جمعها باسم بناء جامع أو مستشفى وما أشبه ذلك، فالحذر الحذر.